التفاصيل المجهولة لأول معهد مسرحي في مصر (18)
نهاية قاعة محاضرات فن التمثيل
د. سيد علي إسماعيل
تحدثنا في المقالة السابقة عن نهاية العام الدراسي الثاني لقاعة المحاضرات، وقبل أن يبدأ العام الدراسي الثالث، بادرت مجلة الصباح بنشر كلمة مُحبطة، نادت فيها بإغلاق القاعة، أو امتناع الطلاب عنها، قائلة: "كنا نظن أن المتحمسين لقاعة المحاضرات، أو المشرفين عليها، قد اقتنعوا بعدم فائدتها، وعدلوا عنها بعد عامين عاشتهما القاعة، ولم تؤد أية خدمة لا للفن فحسب، بل حتى ولا لطلابها! كنا نظن هذا، ولو من قبيل اقتصاد ما يُنفق عليها من المال شهرياً في وقت كثر البحث فيه عن أوجه الاقتصاد في نفقات الحكومة. ولكنّا فوجئنا بعزم القاعة على المضي في عملها غير المنتج، فقد أرسلت لطلابها في هذا الأسبوع الخطاب الآتي:
"«حضرة ... نخطركم أن قاعة المحاضرات التمثيلية ستستأنف دراستها من يوم 7 أكتوبر سنة 1933، وقد أرسلنا لكم هذا بأمل الإجابة عليه عما إذا كان في نيتكم مواصلة دروسكم فيها أو التخلي عنها». هذا هو الخطاب الذي وصل إلى الطلبة من حضرة الأستاذ ناظر مدرسة الإبراهيمية باعتباره مديراً للقاعة. ولقد بُحت أصواتنا في رجاء المشرفين على القاعة بإلغائها، فلم يبق إلا أن نتوجه للطلبة أنفسهم باسم مستقبلهم، الذي يضيع فيما لا ثمرة له ولا فائدة منه، نرجوهم باسم هذا المستقبل أن يردوا على هذا الخطاب بإعلان تخليهم عن مواصلة الحضور للقاعة، لعل القاعة حين ترى نفسها بلا طلبة تصبح أمام أمر واقع لا مفر منه فتغلق أبوابها، وتوفر على خزانة الدولة أموالاً تنفق في لا شيء!".
العام الدراسي الثالث
بدأ العام الدراسي الثالث في عمر «قاعة محاضرات فن التمثيل»، وسط دعوات بإغلاقها، وتحريض الطلاب الجدد بعدم التقدم إليها؛ ورغم ذلك تقدم حوالي مائة طالب، نشرت مجلة «الصباح» بعض أسمائهم، مثل: إبراهيم زكي الدين، أحمد رياض بركات، أحمد محمود إبراهيم، أرنست تادرس، أفرايم خليل ثابت، إلهامي وهبي، أنطوان برايا، باقي أمين، بديع عبد الملك، جرجس وهبه، حسن فرغلي، حسين عبد الخالق، حسين هلال، خالد البصير الخولي، دسوقي إبراهيم، دكران خشادور، زكي إبراهيم [الممثل بفرقة علي الكسار]، زكي جرجس فانوس، سلامة حسيب، السيد رفعت حافظ، سيد سيد عبد الوهاب، شعراوي محمد عبد السلام، شفيق محمد نور الدين [الفنان المعرف]، صلاح الدين عمر، عباس سيدهم، عباس نجيب، عبد الرازق أمان الدين، عبد الكريم محمد سليمان، عبد المنعم بديع، عبد المنعم محمود، عطية صبحي، علي أحمد الوزان، علي السيد خروب، علي عبد العليم مهدي، فوزي مرقص، كامل محجوب، كمال عبد الرحمن، كمال محمود أحمد، محفوظ عبد الرحمن، محمد أحمد الكردي، محمد حسين الليثي، محمد زكي، محمد سيد أحمد، محمد صالح، محمد علي عويس، محمد كامل إسماعيل، محمد محمد ناجي، محمود شاكر، مصطفى إبراهيم منسة، مصطفى درويش، مصطفى كيلاني، مكرم صليب جرجس، ناجي عبد الوهاب، نجيب الببلاوي، نعمان بدوي جمجوم، هلال عبد الفتاح يوسف، وديع سميكة، يحيى فهمي، يوسف حافظ عبد الرحمن.
حقيقة الأستاذ المجهولة
بدأت الدراسة مضطربة في هذا العام، وبدأت أيادي خفية تعمل على هدم أي نشاط للقاعة، بل وتدخلت هذه الأيادي داخل محاضرات الأستاذ علي عبد الواحد. فقد نقلت لنا مجلة «الصباح» - في نوفمبر 1933 - نقاشاً علمياً تفصيلياً لما حدث في إحدى محاضرات «تاريخ الأدب المسرحي»، عندما شرح الأستاذ علي عبد الواحد، عناصر تقسيم المسرحية من مقدمة وعقدة وحبكة وحل – والتي أوضحناها في إحدى الحلقات السابقة – وأن هذا التقسيم لا يكون إلا في المسرحيات ذات الثلاثة فصول أو الأربعة أو الخمسة! وهنا ناقشه الطالب زكي إبراهيم – الممثل في فرقة علي الكسار – واستشهد بأن هذه العناصر من الممكن أن توجد في المسرحية ذات الفصل الواحد أو الفصلين، كما يحدث في مسرحيات فرقتي الكسار والريحاني، فاعترض الأستاذ على ذلك لعدم جواز الاستشهاد بمسرحيات الريحاني والكسار، لأن وزارة المعارف لا تعترف بها!! فتدخل طالب آخر وناصر الأستاذ في رأيه، وتدخل رابع وعارض الأستاذ، واحتدم النقاش لدرجة أن الأستاذ ترك القاعة وانصرف!! هكذا وصفت المجلة الموقف، ولم تكتفِ بذلك بل أبلغت علي الكسار برأي الأستاذ، وأخذت من الكسار رداً، ونشرته أيضاً، قائلة: "وصل نبأ هذه المناقشة إلى الأستاذ علي الكسار، فقال: «إذا كان الأستاذ الشيخ عبد الواحد مدرس قاعة المحاضرات، يجهل أو يتجاهل هذا النوع من الروايات، فإنني مستعد أن أظهر له الأصل، الذي اقتبسنا منه كل أصول الروايات التي لدينا لكبار المؤلفين، أمثال: فيكتور هوجو، وموليير، وفيدو، وغيرهم من زعماء التأليف العالميين»! كما نشرت المجلة آراء بعض الطلاب فيما حدث، ومنهم كامل المحجوب".
اشتعل الموقف أكثر بعد أسبوع، عندما حث الناقد والكاتب المسرحي محمود كامل المحامي – صاحب مجلة «الجامعة» - بعض الطلاب لإثارة الأستاذ علي عبد الواحد، حتى يخرج عن شعوره، انتقاماً منه، لأنه لا يعترف بنصوص المسرحيات المكتوبة بالعامية، ولا يقوم بتدريسها في مقرره!! وبالفعل نجح الطلاب في ذلك، وثارت مناقشة كبيرة – مثل السابقة – نتج عنها خروج الأستاذ من القاعة للمرة الثانية على التوالي، فاستغل محمود كامل المحامي هذا الموقف، ونشر تفاصيله في مجلته «الجامعة» في منتصف نوفمبر 1933، مع الإعلان عن معلومات شبه مؤكدة سمعها من مسئولين بوزارة المعارف، تفيد بوجود نيّة إلى إغلاق قاعة المحاضرات!!
لا أعلم حقيقة .. هل الصحف تلقت إنذاراً من المسئولين بعدم الكتابة عن القاعة، ونقل أخبارها في هذه الفترة، أم أن القاعة توقفت لسبب ما؟!! أقول هذا لأنني لم أجد أي خبر صريح عن القاعة وطلابها وامتحاناتها في الدوريات – ولعلها موجودة ولم أفلح في الحصول عليها - وكأن العام الدراسي الثالث ألغي ولم يتم!! والشيء المؤكد الذي تحققت منه، هو ندرة وجود اسم الأستاذ علي عبد الواحد في القاعة!! فلم أجد إلا خبراً واحداً عنه وعن نشاطه إلا بعد سنتين! وهكذا نجحت المؤامرة، وتم إبعاد هذا الأستاذ الوحيد الذي كان يُدرس مقرر «تاريخ الأدب المسرحي»، والذي استمرت القاعة في العمل بفضل جهوده، متحملاً سخرية الجميع!! فقد كانت الصحف تصفه بالشيخ تارة سخرية من دراسته الأزهرية، وبأبي الأسود الدؤلي تارة أخرى لتمسكه بالفصحى تحدثاً ودراسة وتدريساً!! ويا ليتهم ما فعلوا، فكان الجميع في جهل لمكانة هذا الأستاذ، الذي ظُلم حينها، وظل مظلوماً طوال تاريخه، حيث إن جميع من كتبوا عنه، لم يذكروا إنه كان أستاذ الأدب المسرحي طوال ثلاث سنوات – وربما أكثر - في «قاعة محاضرات فن التمثيل»، وكان بديلاً للدكتور طه حسين في تدريس هذه المادة!!
وكم كنت أتمنى ألا أبحث عن هذا الأستاذ، وأعرف من هو؛ حيث إن اسمه الثنائي لا يساعد على معرفته والبحث عنه، ولكن بعون الله – وبعد عناء كبير – عرفت من يكون!! إنه يا سادة: العالم العلامة الدكتور «علي عبد الواحد وافي» .. الذي التحق بالأزهر سنة 1915، وواصل الدراسة فيه حتى سنة 1921، ثم التحق بدار العلوم وتخرج فيها سنة 1925، وكان أول فرقته، فأوفدته وزارة المعارف في بعثتها إلى جامعة السوربون بباريس، فقضى بها نحو ست سنوات حصل في أثنائها على درجة الليسانس في الفلسفة والاجتماع سنة 1928، ثم سجل لدرجة الدكتوراه تحت إشراف الأستاذ فوكونيه أستاذ علم الاجتماع، وكان عنوان الرسالة الأولى «نظرية اجتماعية في الرق»، وعنوان الرسالة الثانية «الفرق بين رق الرجل ورق المرأة». وحصل على درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى في مايو سنة 1931. وعندما عاد إلى مصر عُين في دار العلوم مدرساً، ثم تمّ انتدابه للتدريس في «قاعة محاضرات فن التمثيل»!! هذا هو الدكتور علي عبد الواحد وافي أستاذ «تاريخ الأدب المسرحي» .. الذي أصبح علماً في تخصصاته المتعددة في كثير من البلدان العربية وجامعاتها حتى وفاته عام 1991 وهو في التسعين من العمر!!
العام الدراسي الرابع
بدأ العام الرابع بدون طلاب للفرقة الأولى، وبغياب شبه جماعي لطلاب الفرقة الثانية، وظل الوضع هكذا حتى يناير 1934، فنشرت جريدة «أبو الهول» خبراً غريباً غير مسبوق، عنوانه «إنذار طلبة قاعة المحاضرات بإلغاء المحاضرات أو إيقافها»، قالت فيه: "لاحظ الأستاذ زكي طليمات مدرس الإلقاء لطلبة السنة الثانية بقاعة المحاضرات، أن الطلبة لا يواظبون على الحضور، ولا يتفهمون ما يُلقى عليهم من الدروس. فأخذ يلقي عليهم النصائح والإرشادات في الفوائد الفنية، التي سوف تصيبهم إذا هم قاموا بواجبهم. غير أن هذا النصح ذهب مع الريح إلى أن جاء موعد حصة الإلقاء في أحد أيام الأسبوع الماضي، فأراد الأستاذ زكي أن يشعرهم بتقصيرهم فانسحب من غرفة التدريس. وعلى أثر هذا الانسحاب دارت مقابلات بينه وبين المختصين بشئون قاعة المحاضرات، واتجهت النيّة في أول الأمر إلى إلغاء هذه المحاضرات أو إيقافها مدة معينة. ثم استقر الرأي أخيراً على إرسال إنذارات رسمية إلى جميع طلبة السنة الثانية". وبالفعل نشرت الجريدة نص الإنذار، وهو: حضرة .... تحية وبعد فقد لوحظ أن حضور طلبة السنة الثانية غير مرضي، فضلاً عن التهاون العظيم في أداء ما يكلفهم به حضرة الأستاذ طليمات؛ لذلك رأينا أن ننذر هؤلاء الطلبة بأنه إذا استمرت الحال على ذلك، تُلغى المحاضرات الخاصة بهم أو توقف إلى زمن ما .. وتقبلوا تحياتنا .. مدير القاعة (إمضاء)".
ما حدث في العام الدراسي السابق، حدث هذا العام!! صمتت الصحف عن إخبارنا بأي شيء عن المحاضرات، أو عن الطلاب، أو عن الامتحانات، أو عن النتائج .. مما يعني أن الدراسة توقفت، أو أن الوزارة طبقت الإنذار وألغت المحاضرات، أو أوقفتها فترة من الزمن؛ لذلك استغل الأمر مصطفى القشاشي – صاحب جريدة «أبو الهول» - واقترح اقتراحاً رائعاً، سيتحقق فيما بعد رويداً رويداً – وهو إنشاء كلية للمسرح داخل الجامعة المصرية!! ولأهمية هذا الاقتراح، وما فيه من نوايا ومعلومات وآمال مستقبلية، سنذكره بنصه، وفيه يقول تحت عنوان «بين التمثيل والشباب»:
" لقد أصبح العالم أجمع يعرف ما لفن التمثيل من شأن خطير، وأصبحت جميع الحكومات تعمل على نشره بين شعوبها بمختلف الوسائل، بعد أن رسخ اليقين بأنه أداة تهذيب وإصلاح للمجتمع الإنساني. وكفى إننا في مصر نرى وزارة المعارف، وهي وزارة العلوم والعرفان، قد أولت هذا الفن قسطاً كبيراً من عنايتها متخذة من خشبة المسرح، مدرسة للشعب يتلقى منها دروسه الاجتماعية، حتى كونت من رجالها الأكفاء، لجنة يرأسها صاحب العزة الأستاذ محمد العشماوي بك، للنظر في وجوه الإصلاح ورفع مستوى المسرح المصري، ثم وضعت الوزارة في ميزانيتها مبلغاً يساعد على النهوض بهذا الفن نهضة جدية تسير به إلى الأمام. وجميل أن نرى هذا الاهتمام من وزارة المعارف والاستزادة منه يوماً عن يوم، وعاماً بعد عام مما يجب أن يقابل منا بالتقدير والإكبار، وأجمل من هذا وذاك أن نرى الوزارة تنظر إلى التمثيل كمادة أساسية لا بد منها، وتحتم درسها رسمياً على هواة التمثيل، فتؤسس لها كلية خاصة بين كليات الجامعة المصرية، لا يدخلها إلا كل حائز على شهادة عليا من الشباب المتعلم المثقف المهذب. هذا الاقتراح نقدمه إلى وزارة المعارف العمومية، ولا نظن إلا أنها عاملة على تحقيقه بعد أن يثبت لها نفعه فتخرجه إلى حيز التنفيذ. أما ما دعانا إلى توجيه هذا الاقتراح فهو أن الشبان المتعلمين الذين حصلوا على الشهادات، أصبحوا الآن لا يجدون أمامهم من الوظائف ما يستغلون فيه علومهم ودراساتهم، وربما كان من العسير جداً على شاب متعلم أن يحصل على وظيفة حكومية أو حرة بمرتب يزيد على الخمسة جنيهات. في الوقت الذي نرى فيه ممثلاً ربما لم يكن مثقفاً ثقافة عامة لا تزيد على ما يساعده على استذكار دوره ويأخذ ثمانية جنيهات على الأقل مرتباً. وهناك ممثلون يتقاضون مرتبات تتساوى مع مرتبات رؤساء الأقلام في الوظائف الحكومية، فحرام أن يكون هذا النقص بين الممثلين في الوقت الذي نرى فيه الشباب المتعلم الحائز على الشهادات عاطلاً!! ربما يقال إن التمثيل هبة قبل أن يكون حرفة، ولكن تلك الهبة المطلوبة لا بد أن تكون متوفرة على الأقل في خمسين شاباً من مئات الشبان الذين لا عمل لهم، وخمسون شاباً إذا ضمتهم كلية تنشأ للتمثيل، يتعلمون فيها مبادئ التمثيل، وأدب المسرح، والإخراج، والإلقاء، في عامين أو ثلاثة أو أربعة، لا بد وأن تخرج بعد أعوام قليلة أبطالاً بمعنى الكلمة. فتحقق لنا أمنيتنا وأمنية وزارة المعارف أيضاً في ارتقاء التمثيل، والنهوض بالمسرح النهوض المنشود، الذي نسعى لوجوده، بينما نكون قد فتحنا في الوقت نفسه باباً للشباب يستطيع أن يلجه للتكسب والعيش. وربما تقول وزارة المعارف، إنها أنشأت معهداً للتمثيل يشبه الكلية؛ ولكنها عطلته بسبب اختلاط الجنسين، وهو سبب لا نراه عقبة في طريق إنشاء الكلية، التي نطالب بإنشائها الآن، فللوزارة أن تنفذ هذه الفكرة سواء باختلاط الجنسين أو بدونه. وفي حالة تعذر إشراك العنصر النسائي حفظاً للتقاليد فالضرورة الآن تقضي بإنشاء الكلية الأولى للرجال، ثم التفكير في إنشاء الكلية الأخرى للنساء، إذا رأت الوزارة ذلك. أما إذا كان هناك بعض العذر لوجود شيء اسمه قاعة المحاضرات، قلنا – وهذا ما يقرنا عليه الكثيرون – إن القاعة معدومة الثمرة، ولم تنتج فائدة على الرغم من أن مدرسيها الحاليين، الذين يضيعون أوقاتهم بها، يمكن استخدامهم بين المدرسين الذين يمكن إسناد التدريس إليهم بالكلية، فلا تكلف الوزارة نفسها إلا القليل مع المكان، الذي يكون فيه التدريس. ولا شك أن هذا أمر ميسور جداً لا يجعل الوزارة تقف عن تنفيذ الاقتراح بأي حال. إن تنفيذ هذه الفكرة يوجد أمامنا عنصراً جديداً للمسرح يؤدي عمله عن علم وخبرة ودراية، وتتجلى فيه محاسن اللغة، ومخارج الألفاظ، فنرى المسرح في عهد جديد زاهر يدفع الجمهور إلى الاهتمام بالمسرح وتقدير الفن ورجاله. وإذا عرفنا أننا على أبواب عهد سينمائي مقبل، تأكدنا كل التأكيد أن العنصر الجديد، سيكون ذا قيمة عظيمة وسيكون لهؤلاء النوابغ الجدد شأنهم، وإلا ضاع مستقبل السينما عندنا كما ضاع من يدنا استمرار حب الجمهور للمسرح. بقيت كلمة لابد منها، نوجهها إلى العائلات، التي تسئ الظن بمهنة التمثيل، فتتبرأ من شبانه إذا ما وجدتهم أقدموا على احتراف هذه المهنة، وهذا عين الخطأ، فما الممثل إلا مرشد للأمة، يقوم بمهمة الوعظ والإرشاد. وإذا كان هناك فساد، فهو موجود في كل بيئة، وفي كل وسط من الأوساط".
العام الخامس والأخير
بدأ العام الدراسي الخامس في صمت، وانتهى أيضاً في صمت؛ لأنه كان العام الأخير في عمر «قاعة محاضرات فن التمثيل»! فقد بدأ العام بخبر منشور من سطرين بجريدة «أبو الهول» في أكتوبر 1934، جاء فيهما الآتي: " بدأت قاعة المحاضرات موسمها الدراسي من يوم السبت الماضي، ولم يحدث بها تغيير أو تبديل في موادها الدراسية أو مدرسيها". وانتهى العام الدراسي بخبر بأن بداية الامتحانات ستكون يوم 25 مايو، وأن النتيجة ستعلن في منتصف يونية 1935!!
ذهب جورج أبيض إلى القاعة في أواخر مايو 1935، فاستلم خطاباً حكومياً مغلقاً، وعندما فتحه وجده قراراً بفصله من التدريس في قاعة المحاضرات!! وعلى الفور ذهب إلى وزير المعارف، فقابله الوزير بابتسامة مطمئنة، وشرح له الموقف، بأنه فصله فقط من التدريس في قاعة المحاضرات، لأنه سيصدر قراراً بأن هذا العام الدراسي، سيكون آخر أعوامها، وستغلق نهائياً بعد ظهور النتائج خلال أيام قليلة. وطمأنه بأنه ما زال موظفاً في وزارة المعارف، التي ستفتتح الفرقة القومية قريباً، وأنه سيكون ضمن أفرادها، كما أن لجنة ترقية التمثيل - مع الخبير الأجنبي الموجود في مصر حينذاك - تعمل من أجل التفكير في مقترحات جديدة من أجل النهوض بالمسرح في مصر .. هكذا أخبرتنا مجلة «الصباح» في مايو 1935.
أظنك عزيزي القارئ تعجبت من مقابلة وزير المعارف لجورج أبيض، وما دار بينهما من حديث عن الفرقة القومية، وما ينتظر المسرح المصري من تطوير! وأكيد تساءلت: كيف تصدر هذه التصرفات من وزير التقاليد؟! هنا يجب أن ألفت نظرك إلى أن وزير التقاليد محمد حلمي عيسى باشا، خرج من الوزارة يوم 14/11/1934، وأصبح أحمد نجيب الهلالي باشا هو وزير المعارف الذي قابل جورج أبيض، والذي سيشهد المسرح المصري على يده الكثير من التطوير .. وبالأخص إنشاء الفرقة القومية، وإعادة إحياء مشروع معهد التمثيل!! والدليل على ذلك ما نشرته جريدة «المقطم» - بعد خمسة أشهر من مقابلة جورج أبيض للوزير - تحت عنوان «إنشاء معهد للتمثيل بعد تأليف الفرقة القومية»، قائلة: " قابل الأستاذ خليل مطران المدير الإداري لفرقة التمثيل الحكومية اليوم، سعادة وزير المعارف، وعرض عليه قرارات لجنة ترقية التمثيل بشأن الاعتمادات المطلوبة للفرقة، وأسماء الممثلين والممثلات، وأسماء الروايات التي تمثل في الموسم القادم، وأرسلت إلى وزارة المالية للموافقة عليها، وتتضمن هذه القرارات الاعتمادات اللازمة لإنشاء معهد لفن التمثيل، وستشرع الوزارة في إنشاء هذا المعهد بعد إعداد المكان والمعدات اللازمة له".
ساحة النقاش