يوم في حياة
حلمي سالم
(مصر)
يوم رأيتُ غيفارا
الأيام ذات الطابع الخصوصي المنفرد من حياتي – وحياة كل إنسان – عديدة. لكني سأختار منها، هنا، اليوم الذي رأيتُ فيه المناضل الإنساني العظيم تشي غيفارا، منذ نحو أربعين عاماً. ذلك اليوم الذي كنتُ - ولا أزال – أتيه به على أقراني من الثوريين المصريين الذين لم يقابلوه مقابلة العين بالعين مثلي.
كان ذلك عام 1965. كنتُ في السنة الثانية الإعدادية، بمدرسة عبد العزيز فهمي الإعدادية بكفر المصيلحة. عبد العزيز باشا فهمي هو أحد قادة ثورة 1919، وزميل سعد زغلول في المنفى. أما كفر المصيلحة فهي إحدى قرى المنوفية، مسقط رأس عبد العزيز فهمي (ومسقط رأس حسني مبارك). قرية مجاورة لقريتي، الراهب، التي كانت آنئذ تخلو من مدرسة إعدادية. تقع كفر المصيلحة – مثل قريتي – على شطّ فرع من النيل يسمّى "الرَّيّاح المنوفيّ".
ذات صباح من صباحات يوليو 1965، ذاع نبأ بأن جمال عبد الناصر وغيفارا سيزوران شبين الكوم اليوم وستخرج المدارس كلها في استقبالهما. كان غيفارا، حينئذ، وزيراً للصناعة في كوبا مع فيديل كاسترو. وكان صيته مدوّياً كقائد ثوري عالمي فاتن. كنتُ، ساعتها، فتىً من فتيان منظمة الشباب الاشتراكي. ولذلك كنا نتابع أخبار ثورة غيفارا بإعجاب مفتون: مناهضته للاستعمار الأميركي في كل مكان، تركه عمله كطبيب في الأرجنتين، وتنقله بين بلدان أميركا اللاتينية المقهورة من أجل نفي القهر والاستغلال، الطابع الأسطوري لمغامراته النضالية، شكله الملحميّ باللحية والشارب والكاب والشعر الطويل والنظرة الملهمة.
كان غيفارا ضيفاً على عبد الناصر، باعتباره وزيراً للصناعة في كوبا. وقد قرّر ناصر اصطحابه الى شبين الكوم، ليشهد معه الاحتفال بالعيد الثالث عشر لثورة يوليو، حيث سيزوران مصنع شبين الكوم للغزل والنسيج، ثم يلقي ناصر في المساء خطاب عيد الثورة في الاستاد (المجاور للمصنع).
في ذلك اليوم المشهود، جمعوا أبناء مدرستنا، ونقلوهم في مراكب صغيرة، منذ الصباح الباكر، الى الضفة الثانية من النهر بأقصى جنوب شبين الكوم، لاستقبال الزائرين. وكان من حظ تلاميذ مدرستي ان جاءت وقفتهم، بالضبط، في النقطة من جنوب المدينة، التي سينزل عندها الرجلان من سيارتهما السوداء المغلقة ليستقلا سيارتهما السوداء المكشوفة، ويدخلا المدينة، واقفين، لتحية الجماهير التي احتشدت في كل متر من أقصى جنوب المدينة الى أقصى شمالها حيث المصنع والاستاد.
وقفنا على الطريق في الشمس الحادة من صباح 23 يوليو 1965، قرابة أربع ساعات، حتى جاء الموكب المهيب. جرفتنا هيستيريا عاصفة نحن أمام ناصر وغيفارا دفعة واحدة. أطاحنا الجنون كل مطوّح. كسرنا سياج الحرس الذي نقف وراءه، واندفعنا كالشلال الى السيارة والرجلين، وهما يترجلان من "المقفولة" ويخطوان خطوات قصيرة الى "المفتوحة". في هذه اللحظة بالضبط رأيتُ عيني عبد الناصر وعيني غيفارا: أربع حدقات نافذات عميقات، تهزّ العالم كله – حينئذ – هزاً. كان الحراس يضربوننا ليمنعونا من الاندفاق على الرجلين، ونحن لا نعير الضرب اهتماماً. أشار ناصر الى الحراس أن يتركوا التلاميذ فتراجع الحراس. وانهمرنا على القائدين. صافحناهما ولمسناهما، وربتّا علينا ونحن ننكبّ عليهما بأجسادنا الصغيرة وسط تدافع مريع. وفتح خبراء الاتحاد الاشتراكي العربي الأقفاص التي كانوا يحملونها فانطلقت عشرات الحمامات في الأفق وعلى سطح النهر وفي القلوب.
بصعوبة شديدة استقل الرجلان السيارة المكشوفة، ونحن مع الشباب والشيوخ والنساء نجري وراءها، من أقصى جنوب المدينة الى ملعب الاستاد حيث سيلقي ناصر خطابه. لا أحسسنا بالتعب ولا بالجوع. وفي المساء كان خطاب عبد الناصر واحداً من الخطب الأشهر، فهو الخطاب الذي أعلن فيه قطع العلاقات مع ألمانيا الغربية وإسقاط ديونها على مصر. كانت المسافة بعيدة بيننا وبين منصة الرجلين، لأننا كنا طبعاً في آخر صفوف المهرجان. لكن شعاع الحدقات الأربع كان يغمر المكان كله والزمان.
بعد ذلك بعامين، ذات ظهيرة قائظة عام 1967 استمعت في الراديو الى خبر مصرع غيفارا في غابات بوليفيا، التي ذهب إليها تاركاً كاسترو وكوبا، من اجل دعم ثورة بوليفيا. انخرطتُ في بكاء مرّ متصل، وسط تعجّب أمي من نحيب صبيّها الصغير على رحيل وزير الصناعة في كوبا. وحين قلت لها إنه صديقي (كنتُ في الصف الثاني الثانوي)، وأني سلّمتُ عليه مع ناصر منذ عامين، وأنه ثائر عالمي من أجل المحرومين والفقراء، كانت تضرب كفاً بكف وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل.
في الجامعة، أوائل السبعينات، أثناء الثورة الطالبية الشهيرة، كتبتُ قصيدة عن غيفارا، لم أعد أتذكرها الآن، وكنتُ ألقيها في المؤتمرات والندوات الطالبية الثورية. وحينما شاهدنا مسرحية ميخائيل رومان "ليلة مصرع غيفارا العظيم" (بطولة كرم مطاوع) كنت أشعر أني الوحيد صاحب العلاقة الشخصية مع المسرحية وبطلها. ثم حين كنا نلتفّ حول الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، ويشدو إمام أغنية "غيفارا مات" كنتُ أنخرط في نشيج مكتوم غير مفهوم بالنسبة الى زملائي ورفاقي الطلاب الثوريين، ولاسيما حين يصيح: "مات الجدع فوق مدفعه/ جوّه الغابات/ جسّد نضاله بمصرعه/ ومن سُكات/ لا طبّالين يفرقعوا/ ولا اعلانات".
بعد ذلك، كنت كلما لقيت محمود أمين العالم أقول له: "ها أنت ثوري كبير، فهل رأيت غيفارا؟"، فيقول "لا"، فأتفاخر قائلاً: "إذن لا تتكلم. أنا شفتُ غيفارا شخصياً، وأنت لم تلقه سوى في كتب الثورة الجامدة".
تقلّب الزمان القُلّب، وصار غيفارا في السنوات الأخيرة أيقونة في بيوت الثوريين والمحافظين، وصار "ماركة تجارية" وإسماً لمطاعم كبيرة في المهندسين ومحلات إكسسوار وكافيتريات قهوة، وبصمة على قمصان الشباب "الروش" في كل مكان. لكن أحداً من هؤلاء لم يرَ - مثلي – غيفارا رأي العين، ذات صيف حار عام 1965، لنعود بعدها الى بيوتنا بأجفان مقرّحة وأقدام متورمة وقلوب عامرة بحب الثورة والحرية والفقراء، ونردّد بعد ذلك صرخة غيفارا: "خلاص خلاص/ ما لكوش خلاص/ غير في القنابل والرصاص: يا تجهّزوا جيش الخلاص: يا تقولو عَ العالم خلاص".
عن جريدة "النهار"