من مرج عبقر
(إلى روح المتنبي)
مزمارُ جنٍّ بتيهِ الكونِ مفقودُ = تصرّعت بعد ما غاب الأناشيدُ
مُغلّفٌ في جيوب الغيبِ لجّ بهِ = في سرمدٍ من ظلال الموت تخليدُ
تساءلت عنه أرواح الفلا ومضت = تضج من وحشةٍ فيها الجلاميد
وأسبل النجم أجفاناً مُحيّرةً = أمضّها من عذاب البين تسهيدُ
مطروقةً من غُبارِ الدهر أتعبها = طول التملّي وإمعانٌ وتفيدُ
ترصّدت موكب الدنيا فأزعجها = أ شلّ خطوتها في الذّر تأييدُ
فأرعشت في الدجى أهدابها خبلاً = كأنما غاب في سودائها عودُ
وضاعفت علّةَ الأنسام سفرتُها = جوّابةً حظُّها في السير منكودُ
تمرّ بالدهر حيرى ما تُها مِسُهُ = إلاّ ويرمضها من فيهِ تنكيد
تقول: هذا عجيجُ اللّحن محتدمٌ = ترنُّ في جرسِه الساري الأغاريدُ
وأين يا زهرُ نايٌ كان ملهمهُ = ما أسكرَ الكون من نجواهُ ترديدُ
هذا النشيد فمُ الدنيا يردّدُهُ = فأين من سحرهِ القيثارُ والعودُ
فطرّح النورُ أكماماً مُخبّلةً = وقصّفت نفسها منهُ الأماليدُ
وذاب في مهدهِ عطرٌ يُؤرّّجُهُ = وغاب من خدّه سحرٌ وتوريدُ
واهتزّ هزّةَ أوّاهٍ يُرنّحُهُ = في سورة الذكرِ إيمانٌ وتوحيدُ
وقال كمَ مرّت الأجيال عابرةً = ولحنهُ في فمِ الأجيال غرّيد
لكنّها وجمت مثلي وقد سُئلت = وغال تبيانها عيٌّ وتبليد
وإذ بعاصفةٍ هوجاء قد صعِقت = لهولها الجنُّ والآطام والبيد
كأنها هيجةُ الأقدار مذ عصفتْ = ما طاقها في شعاب الأرض موجود
من مرج عبقر قد هبّتْ مُجلجلةً = كأنها من عتاة الجنّ تهديد
في قلبها نغمٌ إن رق تحسبُهُ = تأويهةً ردّها في الليل معمود
وإن قسا فقلوب الناس واجفةٌ = والأرض لاهفةُ والكون رعديد
ألقت على الزمن المجنون حكمتها = فراح يُهدى بها شيخٌ ومولود
وأطربت مسمع الدنيا بنغمتها = كأنّما نفخ المزمار داوُدُ
تُلقّن الفرق الهيّاب سورتها = فيغتدي وهو في الهيجاء صنديدُ
صهباءُ ما جاورت كأساً ولا شربت = ولا استقلّ بها في الكرم عنقود
مازال ندمانها حيران تكربهُ = ضلالةٌ عن مجانيها وتشريدُ
حتى أتى حلب الشهباء منتشياً = وجسمهُ من ضنى التسيارِ مهدود
فراعه ما رأى من سحر مشهدها = الخمر أخيلةٌ والعقلُ راقود
ومزهر المتنبّي عازفٌ هزجٌ = مُعلّقٌ بأواسي النجم مشدودُ
يُفجّرُ اللحنَ إمّا رنّ صادحهُ = خرّت على وجهها من سحرهِ الصيدُ
فزمزمت شفتاه بُرهةً ومضى = والقلب من سكرات اللحن مفئودُ
يقول: لا تحشدوا عيدا لذكرتهِ = فكل لحن ٍ شدا من نايهِ عيدُ
شعر: محمود حسن إسماعيل