البرزخ/ صيف 82
إلى نخلة في الفؤاد تسير الضحايا
وقلبي طريقٌ من النائحات على وردةٍ
كفّنتها الحنايا:
قبورٌ هي الخطواتُ على سكة القادمين
من المرفأ البحري لشرفة ناري
أم الأغنيات سبايا؟
تجيءُ الصبيةُ خطفاً من الهتك والسفك والمقصلة:
تلملم من بُقيا العشيق البقايا:
رباط حذاء،
وخصلة شعر معفرة بالسحاب،
سطور لمطلع أقصوصةٍ،
نصف ضلع تطاير،
مفتتح للغرام،
بداية حلم على الهدب،
سبابةٌ،
بعض إغفاءة،
أنملة.
تقول الوردة العليلة وهي تلطخ بالأفق أوراقها:
تخون المدائن عشاقها
وتبيح القناديل للموجة الراكدة
فهل يغزل الكون موجاً
تناسج من بُردةٍ هامدة؟
تجيءُ الصبية خطفا من الهتك والسفك والمقصلة
تراقب عين الصبي الجميل إذا فتشت في الحنايا
عن الأغنيات اللواتي تلائم طفلا بقبو،
وعن ضحكة هازلة.
تساءلتُ في البردة القاتلة:
أإن السحابةَ جاءت لخطفي؟
أإن فؤادي مقدمة لاحتراق الخلايا
على مفرق الدرب صوب الجبال التي
هندست في الوداعة حتفي؟
وهل يرشد الظل خوفي
إلى قبراتٍ تسمت بأسماء كنت سميا
لِطيف الصبابة فيها؟
وهل للمدينة أن تصطلي عاشقيها؟
تجيء الصبية خطفا من الهتك والسفك والمقصلة
تفاجيء وقتَ المحارب بالبرتقالةِ،
والنهدِ،
والسنبلة
تقول: ادخر لي بقايا من الهدم،
وانثر ركام نوافذك المستهامة
فوق عيوني التي شاهدتك توزع
جسمك بين الصفوف وبين السرايا:
وجسمك قربة ماء نقي مرجرجة
في دمايا.
فهل للمدينة أن تصطلي العاشقين،
أجبني:
سؤالي تمدد في رئتيّ،
انثني نحو حلقوم عمري،
وراح يبخر حنجرتي بالوجودِ
المفتت في المائدة
ونخلي تخثّر بالأنهر الفاسدة.
يقولُ المجيبُ: المدى أوردة
وكل وريد فضاء تلوث بالشهداء،
وكل شهيد قبابٌ محضّرة بالبهاء،
وقبة قلبكَ قفر تلظى بجمرته الخامدة.
فافتح حزني سبيلا.
تجي الصبيةُ من رعبها البحري،
تساءلني:
ما الذي يجعل الأرض مبقورةً ، والسما مائلة؟
وتمضي إلى زينة العاشقات:
ترطّب جبهتها بالندى،
وتكحّل مقلتها بالمدى،
وتفتّنٌ منبت تفاحتيها موضحةً
رمز بعض الخفايا
لتمشي إلى الملعب البلدي تناجي الزوايا
فافتح حزني سبيلا
أجرب بلادي قتيلا:
رصاص يفتّق خيطَ السماء المطرز في بهجة الدامعين،
وأشلاء تنداح نحو المنارة موجاً فموجاً،
وقبرة تستغيث بجسمي
صرخت: اخرجي فالبلاد مرتبة لانتشال القوارب
من لجّة الخارطة
صرخت: اخرجي فالقميص المرفرف فوق المصابيح
أهزوجة ساقطة:
وكنتُ أسائل قرب الصواعق نفسي:
لتلك الشظايا رحيقُ البقول،
فما يجعل الرغبة العاطفية تحت الخرائب
أيقونةً مُشعلة؟
هل الموتُ،
أم شهوة الدرء بالبدن المتلبس بالقنبلة؟
وكان الفتى المتأرجح في البرق،
يمرق بين الشظايا
يلملم عظم المدائن،
ثم يصففها بالنوافذ والأسطح الهابطة.
على البحر يخلع سترته،
ويسدُّ المدى بين منزله والبوارج،
ثم يميل على طفلةٍ ويغني لها:
للورد أغنيةٌ
كنا نغنيها
عن تربةٍ رُويتْ
كنا سواقيها
عن روضة سمقت
دمنا دواليها
طرحت لنا خيراً
ذقنا الهنا فيها
تبكي ، وعودتُنا
أحلى أمانيها
للوردة أغنية
تبقى نغنيها
تقول الورود العليلة في اللحظة الفاصلة:
لهذي المدائن أن تجتلي نفسها في المرايا
لتلمح أحدوثة العاشقين مسطرةً
على صخرة بين بدء الطريق وفوّهة المستحيلِ
لهذي المدائن حقبٌ وجبل
وللخفقة المستفزة بين جوانح هذا الرعيل
المعبأ في ملجأٍ للمنايا
خروجٌ إلى البحر ،
أو رعشة تستطير جحيما بجمجمة الراقصين
على جثث الباكياتِ الصبايا
تجيء الصبية خطفا،
تساءلنيك ما الذي يجعل الأرض مبقورة،
والسما مائلة؟
وتمشي إلى الملعب البلدي تناجي الزوايا:
هنا كان بياع صحف الصباح يغازلني،
والفتى الصبّ كان هنالك يرقب إطلالتي
في مساءِ الحكايا
هنا كانت المرأة المستحمة تنظر صوبي
وراء إطار الزجاج للوحة جدرانيَ المهملة
هنا كان حلمي يوازي
رموز الدجى الهاطلة.
وتمضي إلى زينة العاشقات،
تجاه الكمائنِ،
تمنح للرابضين قرنفلةً من بكاء الأحبة
فوق سطوح المدائن،
تلويحةً للسفائنِ،
يُودِعُ فيها صغارُ الشوارع أنشودةَ الجلجَلة:
يا موجُ كن بردا
لترطّبَ الأهلا
يا موجُ كن وردا
لتعطرَ الأهلا
خلِّ الخُطى هَونا
خلّ السّرى مهلا
واحللْ بهم عَدْنا
وابسطْ لهم سهلا
يا بحر كن لينا
بالصحب والأحباب
أكبادُ وادينا
ركبوك يا عباب
فاحنُنْ بهم حَمْلا
فالقلبُ للغياب
وأجمع بهم شملا
متواصل الأسباب
أوطانهم أحلا
من جنة الأعناب
هي الآن مفلوتةٌ
كالمنون المزركش في جثة المرحلة
تمدد سُرتها في البواخر والشاحنات وتسأل:
ماذا سيفضي حصاري عن الزلزلة؟
وكان الفتى المتأرجح في البرق يمرق بين الشظايا
ويكسر أكذوبة المزولة!
القاهرة / أكتوبر 1983