الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

أشعار الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

 

الراهب: الأصل والفصل  

 

حلمي سالم

 

"يوم رأيت جيفارا". هذا هو عنوان إحدى افتتاحيات مجلة "أدب ونقد" التي كتبتها ساردا لحظات ذلك اليوم البارز من أيام حياتي, الذي رأيت فيه بأم عيني أسطورة النضال والفداء اليسارية الخالدة "أرنستو تشي جيفارا", في أحد أيام عام 1965.

 

كان جيفارا, وزير الصناعة في كوبا حينذاك, في زيارة لجمال عبد الناصر ومصر, وقرر ناصر اصطحابه ألى شبين الكوم, حيث سيفتتح "مصنع شبين الكوم للغزل والنسيج" ويلقي خطاب ذكرى 23 يوليو في ستاد شبين الكوم الرياضي (وهو الخطاب الذي قطع فيه ناصر العلاقات مع ألمانيا الغربية).

 

أخرجت منظمة الشباب الاشتراكي تلاميذ المدارس الإعدادية والثانوية ليكونوا في استقبال الزعيمين: ناصر وجيفارا. وجاءت وقفة تلاميذ مدرستنا الإعدادية في المكان الذي سينزل فيه الزعيمان من السيارة المقفولة, لينتقلا إلى السيارة المكشوفة التي سيدخلان بها المدينة و يحييان الجماهير. كانت لحظات من الهستريا التاريخي البهيجة التي سلمنا فيها على الأسطورتين ولمسناهما وتمسحنا بهما ورأينا عينيهما النافذتين وابتسامتهما الحانيتين.

 

أثناء الحركة الطلابية, بعد ذلك, كنت كلما رددنا وراء الشيخ إمام أغنيته عن جيفارا أحسست أنني الوحيد بين زملائي الذي أغني لصديقي وصاحبي. بعد ذلك بسنوات, زرت كوبا عام 2008, ضمن وفد ثقافي ضم: أحمد عبد المعطي حجازي وخيري شلبي و محسن شعلان وأنور إبراهيم و رضا عبد الرحمن. ورأيت صور جيفارا في كل مكان وعلى كل قميص وعلى كل جدار. وحينما عدت كتبت قصيدة عن زيارة كوبا من ثلاثة مقاطع بعنوان "تبدأ القبلة من حرب العصابات", كان المقطع الثالث منها بعنوان "جيفارا" ومنه:

  " أنا الرومانتيكيُ الذي سيصير لعنة كل خطة حربية,
أنا المتّيمُ الرهيف الذى غدا أيقونة في المطعم الحديث,
وفي صدر الغواني اللواتى يغرّهن الثناء , وفي
صالة الرقص.

مرّ من هنا المؤرّخون
تصفحوا دفتر اليوميات , ليجدوا بعد أسطر الشَّعر
الوصايا الأربع :
الأولى : أنا أقرب إلى كمشيش من حبل الوريد .
الثانية : متُ كما ينبغي لعاشقٍ أن يموت .
الثالثة : جهزّوا جيش الخلاص , كما قال المغني الكفيف .
الرابعة: لا نامتْ أعين الجبناء
".

خالي الزناتي (ابن عم أمي, لأن أمي لم يكن لها أخوة أولاد). قرية كفر العشري التابعة لمركز منوف   بمحافظة المنوفية. صياد سمك بارع. معظم أهل كفر العشري صيادون, والقلة القليلة هم المزارعون أو الفلاحون أو الذين لديهم أرض زراعية. كانت القرية, وما تزال, تطل على بحيرة كبيرة عامرة بالسمك.

أحببت خالي الزناتي حبا كثيرا. كان يأخذني معظم فترات أجازات الصبا أعيش معه عدة أيام أو عدة أسابيع, ويأخذني معه في القارب حين ينزل البحيرة للصيد. فارع وسيم, ذو لثغة جميلة, غير متعلم لكنه فهيم و محب للمعرفة و المغامرة, وواسع الإدراك والروح. كان الزناتي لا يصطاد إلا ليلا, يقضي الليل كله في القارب إلى مطلع الفجر. كان يقول إن هذه الفترة هي أفضل فترة لصيد السمك, كان يصطحب راديو صغيرا, ويلعلع صوت أم كلثوم في سكون الليل والماء. يرمي الشبكة ولا يلمها بما حجزت من السمك, بل يغطس خلفها, بعد أن تكون الشبكة قد رست على أرض البحيرة حاجزة تحتها السمك, ينزل وراءها ليخلص السمك من الشبكة سمكة سمكة, وذلك حتى لا تفلت سمكة واحدة. كان معاونه (عم فكيه) يشوي بعض السمك الذي يقذفه خالي على "منقد" (راكية) صغير في القارب, فنأكل سمكا طازجا مشويا شهيا مع العيش "البتاو" الذي اشتهرت به كفر العشري, ثم يضع براد الشاي على المنقد لنشرب أثقل شاي.

كان منظرا مثيرا وهو يخرج من الماء, كل برهة, ويرمي في القارب السمكتين أو الثلاث اليت خلصها, ثم يهبط ثانية, وهكذا. كتبت قصيدة عن خالي الزناتي, فيما بعد, بعد أن مات في منتصف التسعينيات, بعنوان "الزناتي", ضمن مجموعة من القصائد عن البحر والصيد والصيادين. تقول:

"الصيادون المحبوبون

يمكن, أيضا, أن يكونوا مخادعين

خالي الزناتي

الوسيم ذو اللثغة

كان خبيثا مستقويا.

من موقعي بقاربه

كنت أراه يضرب سطح الماء

بعوارض الخشب

حتى يثير في السمك الهاجع الاضطراب

لينتفض مذعورا

فيقع في شباك الزناتي.

وحينما كنت أتألم من قسوة المكيدة

يقول: استمع إلى أم كلثوم

كان الراديو تحت سقف القارب يرن فيه الصوت:

سهران لوحدي

أناجي طيفك الساري".

أقدم مشهدين للموت في عيني كانا موت أخي الصغير أحمد, و موت سامي المليجي. كنت في "الكتاب" وأنجبت أمي ولدا أسموه أحمد (على اسم والد أبي), وما إن بلغ عاما واحدا تقريبا حتى مات بالدفتيريا. كنت عائدا من "الكتاب" بالصياح السعيد الذي يطلقه الأولاد المحررون من قرع الخيزرانة على الرأس ومن دعكة الحصوة في الأذن. وما إن وصلت للبيت حتى رأيت أمي تبكي أحمد. خنقه "الخناق" قبل أن تصل به إلى المستشفى. (وكذلك ماتت أختي عفاف عن أربعة أعوام, و أختي سوسن عن خمسة أعوام).

أما سامي المليجي, ابن جارنا عم عبد العال المليجي, فكان يسبقني بعامين, كنت في السنة الأولى الإعدادية, وكنا نلعب جميعا على البحر (الرياح المنوفي), بعضنا نزل إلى الماء يستحم ويعوم. لم أكن من النازلين, لأنني لم أعرف حتى الآن السباحة (وربما موت سامي المليجي هو الذي سبب لي بعد ذلك رعبا من السباحة). بعد قليل اختفى سامي, وكان من النازلين إلى الماء. ولم يظهر بتفتيش القرية كلها عنه في النهر, إلا بعد ساعات, وقد وصل إلى كوبري "القاصد" عند مدينة بركة السبع. ذهبنا إلى هناك لأرى جثة سامي عارية على الشط, بيضاء, زرقاء, متورمة.

لم يكن موت سامي المليجي صدمه لأهله (جيراننا) وحدهم, لأنه كان بكريهم الجميل بل كان صدمة للقرية كلها, ولنا نحن زملاءه ومجالسيه, فقد كان أرق وأعذب أبناء أبيه. كان "ابن موت". بعد أعوام طويلة, عندما أصبت في آخر عام 2004 بجلطة المخ, وكتبت بعد أن خرجت منها بآثار قليلة ديوان "مدائح جلطة المخ" ذكرت سامي المليجي في مقطع عن "الأشعة المقطعية", يقول:

"دفعه النوبتجي إلى قفص مظلم

النوبتجي الذي صوب العدسات على

مؤخرة يسار الجمجمة

وضغط على الزر:

جاءت حدوتة مصرية, والراهب, وسجن

العبدلي, ويوسف شاهين, وتجار الموالح, وكل

هذا الجاز, ومدرسة عبد المنعم رياض, والقنابل

المضيئة, وسرة سيدة النبع, ونزيف

زاهية, وقوارب الزناتي للصيد, ونوة

يرتجلن عدودة حول ناعورة, وجثة سامي

المليجي في الرياح المنوفي, ومعتقل القلعة,

وساهم الطرف كأحلام المساء, وإضاءة 77,

وبقرات طائرات على أطراف الكازوارينا, ورعب

المترجمات من المسحراتي, وكتاب النبي, ودفن

عبد الغني أحمد سالم".  

أول تليفزيون رأيته في حياتي كان عام 1962, بعد دخول التلفزيون إلى مصر بعامين, في فيللا محمود فوزي, وزير الخارجية المصرية الشهير, ونائب رئيس الجمهورية في أخريات أيامه.

كان أبي حينما يشتري جنينة برتقال, يوسوفي, ومانجو. (الثمر فقط طبعا) من مالكها, يقيم طوال الموسم بالجنينة, في خص أو غرفة صغيرة مبنية بالطوب اللبن أو في بيت مالك الجنينة الذي عادة لا يسكنه المالك إلا أياما قليلة في السنة كلها.

في ذلك العام رسى المزاد على أبي في جنينة يملكها الدكتور محمود فوزي بالقرب من كرداسة بالهرم. وأقام في فيللا الدكتور. وعندما ذهبت عنده في الأجازة رأيت التلفزيون, ورأيت الأهرام. وكنا نري بعض ضباط الثورة داخلين خارجين في ساراتهم "الجيب" يقولون: هذا صلاح سالم, وهذا جمال سالم, وهذا زكريا محي الدين.

كان يصطحبني إلى أبي قريبنا عبد المطلب, وعبد المطلب من جيل عبد العزيز أخي وجلال زوج أختي ملك وعبد العزيز فهمي شندي صديقهم وصديقي. كان أبوه قريبا لأبي. وهو الذي استلمني بعد ذلك بسنوات حين خرجت من حبسة 1973 الطلابية (أسبوعين) ودخل معي الحمام وحممني وحلق لي شعري وذقني الطويلين. وانطلق بي على الموتوسيكل إلى أبي, حيث كان في إحدى الجنائن بمركز قويسنا بالمنوفية, وكان قد ترك طلبا أن أؤخذ إليه حين أخرج من السجن ليراني.

في عام 1977, بعد انتفاضة يناير الشعبية (التي أسماها السادات انتفاضة الحرامية) كلمني عبد المطلب, وأبلغني أن فتحي بيومي, ابن قريتنا, وقريبنا, وعضو مجلس الشعب الدائم, أو شبه الدائم, عن العمال والفلاحين, وواحد من "رجالة" فتحي المتبولي ثم من "رجالة" كمال الشاذلي, يريد أن يقابلني لأمر هام. وجاء عبد المطلب إلى القاهرة, وأخذني إلى مطعم في طنطا على الطريق إلى الإسكندرية. لأجد فتحي بيومي عازمني على الغذاء. والغرض هو أن يعرف مني موقف الاتحاد السوفيتي ودوره في انتفاضة 77. كنت في ذلك الحين أعمل في المركز الثقافي السوفيتي (من 74حتى 77) مشرفا ثقافيا, أي أنه يريد أن يعرف مني معلومات يدعم بها موقفه وموقف رجال السلطة الذين يشيعون أن الاتحاد السوفيتي والشيوعيين وراء هذه الانتفاضة!

أحرجته, معبرا عن دهشتي من مسعاه الغريب الخائب. وشكرته على العزومة الفخمة.وبعد أسابيع قليلة أغلق السادات المراكز الثقافية للدول الاشتراكية في مصر, وعلى رأسها المركز الثقافي السوفيتي, الذي كان مديره رمزي يوسف قد اعتقل من الأيام الأولى للانتفاضة.

بعد ذلك سكن عبد الطلب مع أسرته في شبين الكوم, ثم بنى بيتا في "الراهب" بجوار بيت أختي ملك وزوجها جلال. وكان قد تغير كثيرا, فصار يدخل في مشاحنات دائمة مع ملك وجلال, ويقوم بأفعال عدوانية غريبة ضدهما بغير سبب. وفي عام 2007 قابلته في جنازة أختي عطيات (كبرى بنات أبي) التي توفيت بعد جلطة أقعدتها بضعة سنوات. كان عبد المطلب قد صار جلدا على عظم. عرفت أنه مريض بالسرطان. زرناه في بيته بشبين الكوم, أنا وعبد العزيز (أخي الكبير) ويسري (أخي الذي يصغرني). وقال لي ساعتها: زيارتك حتطول عمري. لكن ذلك لم يحدث, إذ لم تطل مقاومته للمرض الخبيث, فمات في أوائل عام 2008, و أحزنني كثيرا أنني لم أشهد جنازته, لأنني كنت حينها خارج مصر.

نبوية (أم نصر) هي زوجة أخي عبد الله (أكبر أبناء أبي): كانت بنت تاجر من تجار "وكالات" الموالح والفاكهة بالمحلة الكبرى. وكانت مثل أهل المحلة جميعا, تذكر المؤنث, كأن تقول "هات الشنطة بتاعي) أو "لبست الجلابية بتاعي". وكنت أهزر معها قائلا: "الجلابية مؤنث يا أم نصر". بعد ذلك بسنوات, حين صرت تلميذا وصديقا للدكتور جابر عصفور (وهو من أهل المحلة) كنت كلما سمعته يقول "المحاضرة بتاعي" أو "الندوة بتاعي" أهتف فيه معاكسا: ماذا كنت ستفعل باللغة العربية أكثر من ذلك لو لم تكن أستاذ أدب ولغة وبلاغة؟. (كانت كل شلة المحلة من أصدقائي يذكرون المؤنث: فريد أبو سعدة وسعيد الكفراوي ومحمد صالح وجار النبي الحلو ونصر حامد أبوزيد).

كانت أم نصر تعتبرني ابنا لها (الفرق بيني وبين أكبر أبنائها, نصر, سنوات قليلة), وكنت أعتبرها أما ثانية, أو ثالثة لي بعد (أمي مبروكة, و أمي). وكانت تحكي لي , وأنا كبير, أنها أرضعتني أكثر من مرة حينما كان اللبن يجف من صدر أمي في بعض الليالي. وفي سنواتها الأخيرة أقعدها المرض في الفراش لا تكاد تتحرك إلا بصعوبة. وحينما كنت أزورها في سنوات مرضها هذه, وأقبل رأسها, كانت الدموع تطفر من عينيها.

قي عام 2008 توفيت. كان حزن عبد الله طاغيا وثقيلا ومكتوما, وظل يتسند على ذراعي والدموع تترقرق بعينيه في صمت. كانت هذه هي المرة الثالثة التي أرى فيها دموع عبد الله: المرة الأولى كانت حينما مات أبونا عام 1982, والثانية حينما ماتت أمي (زوجة أبيه) عام 1987.

تكبرني "ملك" أختي بعامين, لم تكمل دراستها بعد السنة السادسة الابتدائية كعادة أهل الريف. وهي شقيقتي وصديقتي وموضع سري في الوقت نفسه. كنت في الخامسة حينما كنا نلعب معا في "جنينة" محمد بك عبد العزيز فهمي (المؤجرة لأبي) الموجودة على الطريق الزراعي للقرية. نخبط نخلا صغيرا في جذوره على جانب الجنينة المجاورة لترعة صغيرة. نريد أن نخلعه لنعود به إلى البيت لنزرعه في حديقة المنزل. كانت ملك تهوي "بالبلطة" قاصدة جذر النخلة الصغيرة, وبحركة غير منتبهة منها و مني, نزلت "البلطة" على أم رأسي بالضبط. انهارت ملك, وراحت تغرف بيديها من الترعة المجاورة ماءا وطينا, وتضع الماء والطين على الجرح في رأسي لكي يتوقف الدم ويتجلط وينسد الجرح. واتفقت معي ألا أقول لأمي ما حدث, حتى لا تعاقبها أمي عقابا رهيبا (إذ هي تعرف حب أمي الشديد لي, فأنا البكري من أولاد أمي الصبيان). عندما عدنا للبيت ألفت لأمي قصة مفادها أنني كنت "أتشقلب" على نجيل الحديقة فدخلت زجاجة مكسورة في رأسي. وقد ظلت ملك تحفظ لي هذا "المعروف" سنوات طويلة. وقد أشرت إلى هذه الواقعة, فيما بعد, في ديوان "الواحد الواحدة" عام 1997, بقطعة تقول:

"كان امرؤ القيس تحت المظلة مشلولا,

طافت حولنا وصيفات من زفير السحق

فرددت أختي:

نحن مكتوبان في اللوح هكذا:

بلطة في أم رأس".

كان في "الراهب" "مولدان" كبيران سنويان: مولد سيدي عزاز في الطرف الجنوبي من القرية, ومولد سيدي البيومي في الطرف الشمالي منها, الذي نحن فيه. كان مولد اليومي عرسا سنويا. في أحد هذه الموالد عام 1962, كان أخي الأصغر بيومي قد ولد منذ أسبوع, كانت الأسرة تبحث عن اسم من الأسماء الحديثة للمولود الجديد, فإذا بالشيخ القطب البيومي (وكان يقيم في بيتنا أيام المولد) يصيح مقررا: أتبحثون عن اسم يوم مولد "البيومي"؟ فكان: "بيومي":

تخرج بيومي بعد ذلك من كلية التربية, وعمل مدرسا في المدرسة الثانوية الزراعية بشبين الكوم, وفي منتصف عام 2005 أجرى عملية "قلب مفتوح". وكنت قبله بشهور قليلة قد أصبت بجلطة المخ. وحينما شفيت من هذه الجلطة كتبت التجربة كلها في ديوان "مدائح جلطة المخ", وخصصت بيومي فيه بقصيدة تشير إلى الشقيقين المريضين. كانت القصيدة بعنوان "قلب مفتوح":

"الآن يا شقيقي: جريحان في العائلة  / وعينا

توزيع الواجبات حسب العمر والرصيد العاطفي:

أنت ترعى مسيرة الغرز / محاذرا من الكحة

والقهقات والكوارع / وأنا أحمل إليك الفتاة

التي أتلف الصدأ جسدها / كي تضع على

وسادتك مجسم العمارات".

"البيومية" طريقة من طرق الصوفية. قبل موعد "المولد" بيومين كان يحضر إلى القرية "نائب السجادة البيومية" الشيخ عبد الرحمن أبوراضي, هو بطانته من مريدي البيومي, ويقيمون في بيت أبي يومين قبل المولد ويومين بعده, مضافا أليهم مريدو البيومي من رجال القرية. يأكلون ويشربون (وبعضهم يحششون) ويقيمون حلقات الذكر, التي كنت أندرج فيها وأندمج و أنا صبي. وليلة "المولد" يأتي "الصيت" أو "المنشد" أو "الشاعر" يحكي القصص الدينية والإنسانية التي تحض على الفضيلة وتخيف الناس من الرزيلة. وكان "المنشد" أثناء إنشاده وغنائه يستخدم بعض الأغاني العاطفية الشهيرة, مع تحوير بعض كلماتها لتصبح ذات معان دينية في حب الله لا في حب المرأة أو الرجل. كأن ينشد " يا حبيبي يا طه" بدلا من "يا حبيبي تعالى" لأم كلثوم, أو يقول "إنت وبس اللي شفيعي" بدلا من "إنت وبس اللي حبيبي" أغنية فايزة أحمد الشهيرة. 

بعد ذلك بسنوات, أوائل عام 1982, كنا نجلس مع أمي و أبي في القرية, أنا وزوجتي إيمان, نحكي عن أيام الموالد ولياليها, وكيف كانت "الطغمة البيومية" تحتل بيتنا, تأكل وتشرب وتنام في "بلهنية" من رغد العيش. قالت زوجتي إيمان لأبي بصراحة عارية: "عشان كده ساء وضعك المادي". ابتسم أبي وقال: "كله لوجه الله". وكنت أعلم داخلي أن أبي لم يكن يفعل ذلك لوجه الله فقط, بل أيضا لوجه وضعه الاجتماعي ومركزه الأخلاقي والأدبي.

 

كان الشيخ عبد الرحمن أبو راضي رجلا بسام الوجه, بهي الطلعة, مصفف الشعر (على طريقة الناقد محمد مندور). وكان له تأثير السحر على المريدين والذاكرين, يصل تأثير التنويم المغناطيسي. كان الجميع يقبلون يده, بمن فيهم أبي, (وكان ذلك أمرا يضايقني).

 

كان الشيخ عبد الرحمن يرى في برعما بيوميا يافعا واعدا, لكن أمله خاب. ففي أول مولد للبيومي, بعد دخولي الجامعة, مد يده لأقبلها كالمعتاد, فسلمت سلام الرجال بدون أن أقبل يده. استاء الجميع. وقال الشيخ لأبي: "ابنك بلشفوه في الجامعة يا معلم عبد الغني". وحينما عاتبني أبي آخر الليل قلت له: "أنا لا أقبل يد رجل في الدنيا سواك, و أنت على نفسك لا ينبغي أن تقبل يده. هؤلاء يتعيشون على الموالد والذكر". فصمت أبي بين السخط والرضا.

 

اضمحلت ظاهرة "الموالد" في السنوات الأخيرة, بعد أن مات الشيخ عبد الرحمن, وبعد أن راحت القنوات الفضائية الدينية تقوم بدور هذه الموالد على الشاشات الزرقاء. وكان تخمين الشيخ عبد الرحمن بشأني صحيحا, فقد كنت بدأت, منذ السنة الجامعية الأولى, أقترب من التيارات اليسارية, و أتعرف على الفكر التقدمي, الذي كان الرفاق يسمونه "الاشتراكية العلمية".

 

  تغيرت "الراهب" كثيرا, لطشتها الحداثة وما بعد الحداثة. حلت مرافق المياه محل "المرشح", وحلت الكهرباء محل لمبة الجاز والكلوبات. دخل التلفزيون قريتنا عام 1970, بعد دخوله مصر بعشر سنوات. وحين مات عبد الناصر لم يكن بالقرية كلها سوى ثلاثة تلفزيونات في ثلاثة بيوت (أحدهم بيتنا), تحلق فيها أهل "الراهب" ليشاهدوا الجنازة.

 

سافر الكثيرون من القرية في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات إلى العراق وليبيا ودول الخليج ودول أوروبية كإيطاليا وفرنسا واليونان. بنيت معظم البيوت بالطوب الأحمر والأسمنت. وتقلصت مساحة الأرض المزروعة بسبب هجرة الفلاحين وبسبب البناء على الأرض الزراعية. أغلب البيوت فيها تلفزيون ودش وكمبيوتر. ونت وبانجو, الشباب والكبار والصبيان والصبايا يحملون "الموبايل". أما الثقافة والتعليم والمعرفة والعمل والعلم والانتماء الوطني, فعليهم جميعا سلام الرحمن الرحيم.  

_____________________________________________________________

*  فصل من السيرة الذاتية للشاعر تحت الإعداد

 

مجلة الثقافة الجديدة  العدد 253    -    أكتوبر 2011

saydsalem

الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 115 مشاهدة
نشرت فى 2 أكتوبر 2013 بواسطة saydsalem

الطبيب الشاعر/ السيد عبد الله سالم

saydsalem
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

128,856