1- محمد بن القاسم:

-مولده و نشأته:

عماد الدين محمد بن القاسم الثقفي ولد سنة 72هـ بمدينة الطائف في أسرة معروفة، فقد كان جده محمد بن الحكم من كبار الثقفين. وفي سنة 75هـ صار الحجاج بن يوسف الثقفي والياً عامًّا على العراق والولايات الشرقية التابعة للدولة الأموية في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان. فعيَّن الحجاج عمَّه القاسم واليًّا على مدينة البصرة، فانتقل الطفل محمد بن القاسم إلى البصرة، حيث يحكمها والده، ثم بنى الحجاج مدينة واسط التي صارت معسكرًا لجنده الذين يعتمد عليهم في الحروب، وامتلأت بسكانها الجدد وقوم الحجاج، وفي هذه المدينة وغيرها من العراق نشأ وترعرع محمد بن القاسم وتدرب على الجندية، حتى أصبح من القادة المعروفين وهو لم يتجاوز بعد 17 عامًا من العمر.

وكان محمد بن القاسم يسمع كثيرًا عن بلاد السند، ولم تكن تلك البلاد في ذلك الحين غريبة على المسلمين، فقد كان لهم فيها سابقة من غزوات في عهد الخليفة عمر والخليفة عثمان رضي الله عنهما، ثم زاد اهتمام العرب ببلاد السند حين قامت الدولة الأموية على يد الخليفة معاوية في سنة 40هـ حتى نجح في فتح إقليم مهم بتلك البلاد وهو (إقليم مكران) الذي كان يحكمها الولاة الأمويون بعد ذلك بصفة مستمرة.

-أسباب فتح بلاد السند:

ثم حدث في سنة 88هـ أن سفينة عربية كانت قادمة من جزيرة الياقوت (بلاد سيلان) عليها نساء مسلمات، وقد مات آباؤهنَّ ولم يبق لهنَّ راعٍ هناك، فقررن السفر للإقامة في العراق، ورأى ملك سيلان في ذلك فرصة للتقرب إلى العرب فوافق على سفرهنَّ، بل حمل السفينة بهدايا إلى الحجاج والخليفة الوليد بن عبد الملك، وبينما كانت السفينة في طريقها إلى البصرة مارة بميناء الديبل ببلاد السند، خرج قراصنة من السند واستولوا عليها. وعندئذ كتب الحجاج إلى ملك السند يطلب منه الإفراج عن النساء المسلمات والسفينة، ولكنه اعتذر عن ذلك بحجة أن الذين خطفوا السفينة لصوص لا يقدر عليهم، فبعث الحجاج حملتين على الديبل، الأولى بقيادة عبيد الله بن نبهان السلمي، والثانية بقيادة بديل البجلي، ولكن الحملتين فشلتا، بل قتل القائدان على يد جنود السند. ووصلت الأخبار إلى الحجاج أن النساء المسلمات والجنود العرب مسجونين في سجن الديبل، ولا يريد ملك السند الإفراج عنهم عنادًا للعرب، وهنا كانت الأسباب تلح على الحجاج في إرسال جيش كبير لفتح تلك البلاد التي كان قراصنتها يضايقون السفن العربية التجارية المارة بين موانئ البلاد العربية وموانئ بلاد الهند.

-فتح بلاد السند على يد البطل الشاب:

كان والياً على الري ببلاد فارس، وعينه قائداً عاماً على الجيش الإسلامي، الذي تقرر قيامه بفتح بلاد السند .
لقد اقترن اسم (محمد بن القاسم) ببلاد السند؛ فهو الفاتح الحقيقي الأول لها؛ حيث كانت ملجأ للخارجين على الدولة الإسلامية ، وكان أهلها كثيراً ما يعتدون على سفن المسلمين في البحر ، مما دعا (الحجاج بن يوسف) والي العراق (للوليد بن عبد الملك) أن يُلح على الوليد بفتح تلك البلاد ، فأذن له الوليد بذلك فجهز جيشاً كبيراً قوامه عشرون ألف مقاتل ، وعين (محمد بن القاسم) قائداً لذلك الجيش، وكان عمره سبع عشرة سنة .
وقد تحركت الجيوش الإسلامية من بلاد فارس عن طريق الساحل ، وفي الوقت نفسه تحركت السفن من البصرة تحمل العتاد والرجال ، وقد اكتمل وصول الجيوش البرية والبحرية إلى (الديبل)، وعسكر (محمد بن القاسم) على أسوارها وحاصرها ، وضربها بالمنجنيقات، وأتلف أسوارها، وهدم المعبد البوذي فيها؛ لأنه كان يُستغل لأهداف عسكرية، وتمكن من دخولها عنوة ، فهرب أميرها ، فبنى المسلمون بها مسجداً ، وأقام بها جماعة منهم ، ثم تقدم ابن القاسم شمالاً في بلاد السند ، وتمكن من فتح العديد من المواقع [العمري : الفتوح الإسلامية عبر العصور، ص: 171، إشبيليا ـ الرياض].
وعندما قام ابن القاسم هذا بحملته كان المسلمون قد نجحوا في فتح بعض المناطق بجنوب أفغانستان الحالية ، ثم اتجهوا نحو كرمان ومكران، وكذلك فتحوا سستان ، ثم كانت حملة ابن القاسم ؛ الذي أتم الله على يديه نعمة نشر الإسلام بكل مناطق السند ، ودخول أهلها في دين الله أفواجاًَ … وقد وصل محمد بن القاسم إلى شيراز من الري ، والتحق بالجيش هناك ، ورسم خطة الفتح؛ التي تقوم على شقين: بحري وبري ، وتم اجتياز الحدود السندية في نفس عام (91هـ) من مكان اسمه الآن (داربيتجي) .
وسار المسلمون يفتحون في بلاد السند حتى وصلوا إلى (الملتان) ، وتمكنوا من فتحها عنوة، وكان بها معبد للبوذية يحج إليه أهل السند، ويستغلّ في أغراض عسكرية ، فهدمه المسلمون وحطموا أصنامه ، واستقر ابن القاسم في (الملتان)، وصارت مركزاً رئيساً للمسلمين، وأخذ ينظم الحاميات الإسلامية، ويبني المساجد بمختلف أنحائها، كما نظم أمورها الإدارية، والمالية، والحربية، وتمكن من تأمين سفن المسلمين في البحر ، وبدأ الإسلام ينتشر في تلك المناطق.
وإلى جانب ذلك نجح الجيش الإسلامي في فتح بعض البلاد مثل فنزبور ، وأرمابيل ، وسيطرت القوات البحرية على شيراز، وانضم إلى الجيش الإسلامي عند الديبل كثير من رجال الميد والجات (الزط) المنبوذين من البراهمة ، ثم فتح المسلمين حصن الديبل ، وثـَمَّ إطلاق سراح الأسرى المسلمين، ثم مكث ابن القاسم فترة في الديبل نظم أمورها ، ووزع المغانم على مستحقيها، ثم توجه إلى مدينة (النيرون) ؛ التي استسلمت دون إراقة دماء ، ثم اتجه نحو سيوستان؛ التي فتحت بعد مناوشات خفيفة ، ثم اتجه ابن القاسم إلى (البودهية) ، التي استسلمت أيضاً ، وكالعادة اهتم ابن القاسم بتنظيم الأمور في هذه المدن ، وقد أرسل حاكم منطقة (بت) البوذي يعلن استسلامه .
وهكذا بدأ الناس يتعرفون على الإسلام ، ويدخلون في دين الله أفواجاً ، ونجح ابن القاسم في مسيرته المظفرة حتى أضحى على شاطئ (نهر السند) ؛ الذي تقع عاصمة (داهر) على الضفة الشرقية منه، وعرض على داهر الإسلام فأبى وأصرّ على القتال، وعبر المسلمون إلى الشاطئ الشرقي واندفعوا في إصرار واستبسال داخل المناطق الشرقية، وهزموا قوات داهر بعد قتال مرير دام أياماً، وأثناء المعارك تقدمت مجموعة من قادة السند نحو محمد بن القاسم وأعلنوا إسلامهم ، وقد قتل داهر في قلعة (راور).
وأخذ ابن القاسم يواصل فتوحاته في بلاد السند فتسقط بين يديه المدن تلو الأخرى؛ مثل بهرور ، ودهليلة ، وبرهمان أباد ، وكان بها جيسيه بن داهر، غير أن ابن القاسم حاصرها ، وطلب أعيانها وسكانها الأمان، والتزموا بالطاعة ، وبقى فيها ابن القاسم ينظم أمورها، وبنى فيها مسجداً ، وعين عليها حاكماً ، وفي سنة (94هـ) فتح مدينتي (منهل وهراور) ، وفتح عاصمة السند (ألور)، ثم توجه إلى مدينة باتيه ، وكان عليها ابن عم داهر ؛ ولكنه استسلم ثم أسلم وحمل لقب (المستشار المبارك) ، ثم توجه محمد بن القاسم إلى الملتان ففتحها ، وهي إقليم البنجاب ، وهو جزء من مملكة داهر ، ثم فتح الفكوج ، وقنوج .

-وحينما بويع للخليفة (سليمان بن عبد الملك) سنة (96هـ)؛ قام بعزل (محمد بن القاسم) عن ولاية السند ؛ لصلته (بالحجاج بن يوسف الثقفي)؛ الذي كان سليمان ناقماً عليه ، فاضطربت أحواله ، وظلت كذلك إلى أن أسلم معظم أهلها وأمرائها؛ عن طريق الدعوة بالحكمة والعدل، في أيام عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
ومع أن بلاد السند لم تخل من بعض المشاكل ، فمع ذلك انطلق المسلمون منها لغزو بلاد الهند عدة مرات في العصر الأمويّ .

-صفاته:

 وكان محمد بن القاسم راجح الميزان في التفكير والتدبير، وفي العدل والكرم، إذا قورن بكثير من الأبطال، وهم لا يكادون يبلغون مداه في الفروسية والبطولة، ولقد شهد له بذلك الأصدقاء والأعداء.

_كان للأسباب السياسية التي أدت إلى قتله نتيجة لنزوات الأحقاد، وبذلك خسر العالم الإسلامي والعربي فاتحًا عظيمًا.

وكان من دأب (محمد بن القاسم الثقفي) أن يجنح إلى الصلح والسلم ما وسعه ذلك ، وقد أوصاه بذلك الحجاج بن يوسف الثقفي :
“إذا أردت أن تحتفظ بالبلاد فكن رحيماً بالناس ، ولتكن سخياً في معاملة من أحسنوا إليك ، وحاول أن تفهم عدوك، وكن شفوقاً مع من يعارضك ، وأفضل ما أوصيك به أن يعرف الناس شجاعتك ، وأنك لا تخاف الحرب والقتال” .
كما كان يعمد فوراً إلى إقامة المساجد في كل المدن التي يتم له فتحها ..
وكان يشرك أبناء البلاد المفتوحة في إدارة البلاد … يضاف إلى ذلك ما كان يشاهده أبناء البلاد الهنادكة من مساواة إسلامية مطلقة ، وعدل إسلامي كامل ، يتناقضان تماماً مع التعاليم البرهمية التي تشرع للفروق بين البشر ، فتجعل البراهمة مخلوقين من فم الله ، والأكشترية من ذراعه، والويشية من فخذه ، والمنبوذين (الشودري) من قدمه .
وقد حدد (منو دهر ماساسترا) فقيه الهندوس الأكبر ـ وظائف الطبقات بدقة صارمة ، فالبرهمي هو سيد الطبقات جميعاً ، والأكشتري عليه أن يحمل السلاح دفاعاً عن الوطن ، والويشي عليه أن يتاجر ، وينفق على أهل الدين ، ورجاله ، أما الشودري المنبوذة فهو خادم هذه الطوائف الثلاث الشريفة …
هذا بينما كان المسلمون يقفون في الصلاة متجاورين لا فرق بين الغني والفقير ، والأمير والشخص العادي … كما كان القاضي المسلم يسوي بين كل الناس حتى في المجالس والألقاب … فضلاً عن الأحكام .
وكان للمساجد التي بناها محمد بن القاسم في الديبل ، والبيرون ، والرور ، والملئان وغيرها؛ أثر كبير في تعريف الناس على المساواة الإسلامية …

 

-نهاية البطل:

م لما كان محمد بن القاسم يفكر في أن يتوجه بجيش الفتح إلى حدود بلاد الهند، وصله أمر الخليفة الجديد سليمان بن عبد الملك للتوجه إلى العراق، فرضخ الشاب المؤمن لقضاء الله، وهو يعلم أن مصيره الهلاك، لا لذنب اقترفه ولكن لسوء حظ وقع فيه، بسبب بعض تصرفات سياسية من قريبه الحجاج، واستعد الفتى الحزين للسفر، فخرجت الجموع الحاشدة لتوديعه باكية حزينة، لم يكن العرب وحدهم يبكون على مصيره، بل أهل السند من المسلمين، وحتى البرهميين والبوذيين، كانون يذرفون الدموع الغزيرة، ويرجونه أن يبقى في بلاد السند، وسوف يقفون خلفه إذا دق الخطر بابه، ولكن نفسه الأبية رفضت مخالفة أمر الخليفة.

ووصل محمد بن القاسم إلى العراق، فأرسله والي العراق صالح بن عبد الرحمن مقيدًا بالسلاسل إلى سجن مدينة واسط بسبب عداوته للحجاج، وهناك عذبه شهورًا بشتى أنواع التعذيب حتى مات البطل الفاتح - - في سنة 95 للهجرة.

-إن البطل محمد بن القاسم الثقفي فاتح بلاد السند، يعتبر من أعظم الأبطال في التاريخ الإسلامي، إنه بطل بما تحمله كلمة البطولة من معانٍ، وقد أودع الله بين جنبيه نفسًا بعيدة المطامح لخدمة الإسلام. وبلاد السند والبنجاب التي فتحها البطل محمد بن القاسم هي بلاد باكستان الحاضرة من أكبر البلاد الإسلامية، وتاريخها جزء عزيز من التاريخ الإسلامي الكبير، ويعتبر محمد بن القاسم الثقفي مؤسسًا لأول دولة إسلامية في الهند، ولذلك يبقى اسمه شامخًا في سجل الفاتحين الأبطال.

  • Currently 166/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
54 تصويتات / 2635 مشاهدة
نشرت فى 2 يوليو 2010 بواسطة saunited

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

42,138