كان اول رغيف ساندويش تناولته في عاصمتنا الحبيبة عمان بصحبة احد الزملاء , وعدني ان يساعدني في البحث عن سكن ملائم , بعد ان سجلت في الجامعة عام 1972. وذلك على شروطي يعني (ارخيص وكويس وهادئ وقريب من وسط البلد, حيث الانطلاق الصباحي الى الجامعة) . نزلنا عند اشارة ضوئية , قال لي : احفظ هذا المكان جيدا فستتردد عليه كثيرا , قطعنا الاشارة الضوئية الى دخلة بعرض حوالي متر ونصف وعمق حوالي 20مترا فقال : احفظ الدخلة فستعود الى هنا كل يوم . دخلنا الدخلة فرأيت وسطها لوحة لا تكاد ترى , كتب عليها (مطعم فؤاد) , قال صاحبي : هذا اشهر مطعم فلافل في العاصمة كلها , تقدمنا فاذا به محل صغير 4X4 به فقط صاج فلافل وكاونتر صغير لإعداد الساندويش, ولا يوجد به كرسي واحد , ولكنه مكتظ لدرجة الا تجد موطئ قدم , فوقفنا في الخارج ريثما وصلنا الدور , وتناولنا حاجتنا , قلت : أحقا لا يوجد في العاصمة كلها افضل منه ؟ صحّحني فقال : اشهر منه ؟ وبالتالي هي ارزاق , في أي وقت تأتي اليه تجده هكذا , واغلب الذين تجدهم هنا إما طلبة الجامعة او عمال , قلت : لم يصّرون على تناول السانديشات داخل المطعم مع هذه الزحمة , لمَ لا يتناولون حاجتهم ويذهبون , قال : ستكتشف ذلك بنفسك مع مرور الزمن .
القينا عصا الترحال في غرفة متواضعة فوق احدى البنايات على كورنيش وادي الحدادة , هكذا كان اسمه في تلك الايام , اما اليوم فشيء اخر إذ اصبح يمر منه اشهر شارع في العاصمة (شارع الاردن) . حصلت على الغرفة مع زميل اخر لي بعد موافقتنا على قائمة طويلة من الشروط , اولها الدفع مقدما , لا يجوز التأخر بعد الحادية عشرة ؛ فسكان المنزل يريدون النوم والهدوء والسير على الاقدام فوق رؤوسهم مزعج , ثم الحي شعبي ومحافظ فلا يجوز الوقوف على الشبابيك , والبصبصة على بنات الجيران , وان بصّت عليك احداهن فلا تجاريها . ولا تدعو الى البيت اكثر من زميلين وبعد اخذ موافقة المالك . كانت الغرفة قريبة فعلا من وسط البلد واجرتها مقدور عليها , ولكن تنزل لها ستا وتسعين درجة ملساء بعرض حوالي 60سم . وتخيلوا ــ رعاكم الله ــ كيف يكون الوضع ايام المطر والثلوج , وكم زحلقة سنتزحلق على درجات من هذا النوع .
اخذنا بعد ذلك نتردد على المطعم المذكور فسعر رغيف الساندويش 3 قروش يتناسب مع الميزانية المخصصة لوجبة الافطار او العشاء , واحيانا الغداء اذا اردنا التغيير عن قلاية البندورة او مفرّكة البطاطا , او ايام الاختبارات . في السنة الثالثة حصل ما لم يكن بالحسبان , فوجئنا برغيف الشاندويش وهو بالمناسبة ليس رغيفا كالذي كنا نعرف , ولكنه (مِني رغيف ) اصبح سعره خمسة قروش اي ارتفع بنسبة 70% . اعترضنا واحتججنا يومها وأرغينا وأزبدنا, وقاطعنا فترة من الزمن ثم عدنا لأننا اكتشفنا ان كل شيء قد ارتفع . فطوعنا الميزانية لتستوعب الوضع الجديد وذلك على حساب بعض الرفاهيات . يعني مثلا ما في داعي للببسي او فنجان القهوة الصباحي . مع التردد على المطعم عرفنا سبب اصرار الشباب على الاكل داخل المطعم , ذلك ان المطعم يوفر على رفوفه اباريق ماء , ولأن الشانديش الواحد لا يشبع ولا توجد ميزانية لآخر او لكوب عصير , فيضطر الواحد ان يشرب بعد كل لقمة , فاذا انهى الساندويش يكون بطنه قد امتلا , فيشعر بالشبع . في ذلك والوقت كان اغلب طلبة الجامعة من الفقراء , لان الجامعة في ذلك الوقت كانت تأخذ فقط اوائل الثانوية واغلبهم من الفقراء , اما الاغنياء فيرسلون اولادهم الى الخارج وخاصة اوروبا الشرقية , من اجل البريستيج ، ليقال ابو الدكتور فلان وابو المهندس علان .
انتهت السنوات الاربع العجاف , تخرجت واشتغلت في احدى دول الخليج , وفي احدى الاجازات عــنّ على بالي ساندويش فؤاد , فذهبت لا جد نفس المكان ونفس الازدحام مع تغير في الوجوه . وكان سعر الرغيف ارتفع الى عشرة قروش , لكن لاحظت تنوع من يرتادونه بين غني وفقير . ثم مضت مدة طويلة خضت خلالها معترك الحياة , ورجعت وعملت حتى تقاعدت , وعلى راي المثل (الفاضي بعمل قاضي) تذكرت فؤاد , فسالت احد ابنائي الذين درسوا في الجامعة عنه فقال : ما زال على حاله , ولكن الوضع تغير فلم يعد الشاندويش طعام الفقراء بل زاحمهم عليه الاغنياء ,فصار هناك مطاعم فلافل خمسة نجوم لطلبة الVIP)). قلت من هؤلاء قال ابناء علية القوم والمبتعثون من دول الخليج العربي , فسعر رغيف الساندويش في هذه الاماكن دينار , اما المناطق الشعبية فبنصف دينار .
قلت : سبحان الله !! بحسبة بسيطة فان سعر الساندويش الذي هو مع صحن الحمص او الفول يشكلان الغذاء الرئيس للفقراء تضاعف (سبعة عشر) ضعفا , فهل ارتفعت دخول الفقراء بنفس النسبة ؟ اذكر ان راتب الجامعي كان في ذلك الوقت ( 47دينارا و52قرشا وثلاث فلسات ) واليوم راتبه اول ما يتخرج حوالي370 دينارا أي (ثما نية ) اضعاف .
اقول : في الدول التي تحترم شعوبها تربط الرواتب بغلاء المعيشة , حتى يحافظوا على ورقة التوت التي تستر عورات الفقراء , اما والامر غير متوفر عندنا فالمواطن الفقير بين احد خيارات التالية : اما ان يضع زوجته وابناءه في غرفة مغلقة ثم يقوم بخنقهم وينتحر بعد ذلك , وقد حصلت اكثر من حادثة من هذا القبيل , ولم يهتز خصر الحكومات الرشيدة . واما ان يختلس فيكون مصيره السُّبـَّة والسجن , لأنه لا يعرف كيف يخترع تصريفا قانونيا كالذي يعمل به من يختلسون الملايين . واما ان يقترض من البنك فيصبح عبدا له , يسعى طوال حياته ليسدد فقط فوائد الديون كما هو الحال في ديننا العام . واما ان يبحث في حاويات الزبالة عما القاه الاغنياء فيها من بقايا طعام , وهل هناك كرامة او ولاء لا نسان يعيش على ما تلقيه الحاويات . طبتم وطابت اوقتكم