آفــــــــــــــاق

الموقع خاص بالكاتب ويتضمن إنتاجه الأدبى المنشور

<!--

<!--<!--

 

-4-

 

         جلس الأولاد الثلاثة" با- حور" ابن الجندي الذي مات في الحرب ضد الأعداء في الجنوب ، و"جسر" ابن المزارع الطيب" كا بتاح "، و"إيب- خنسو" ابن الموظف المحترم" مري إن بتاح" الذي أصبح كاتباً في مخازن الحبوب الملكية ، جلسوا كعادتهم في مكانهم المفضل علي شاطئ النهر تحت ظل شجرة الصفصاف يتبادلون الحديث بعد أن تعبوا من الركض واللعب طوال الظهيرة .. أمسك "با- حور" بغصن طويل جاف واستل سكيناً يحتفظ به دائماً في حزامه وأخذ يهذبه ليجعل منه رمحاً كما يقول ، وبينما هو منهمك في عمله اقترح علي صاحبيه أن يخرجوا في الغد إلي الصحراء ليقضوا يومهم هناك يلعبون ويصطادون الحيوانات الصغيرة والطيور .. أسرع جسر بالموافقة علي الفكرة ، وتباطأ "إيب- خنسو" في الرد ، ولما استحثه" با- حور" ، وافق بشرط أن يستأذن والديه أولاً .. علق " با- حور" قائلاً ..

-         لقد كبرت يا" إيبو" ، وآن لك أن تتصرف كالرجال ..

-         وهل يجب أن يعصي الرجال آبائهم .. ؟

سرح" با- حور" في الفضاء الممتد أمامه وقال :

-         لا .. لو كان أبي حياً ، ما عصيته أبداً ..

أضاف محدثاً نفسه " ولن تهدأ روحي حتى أثأر له بيدي هاتين .." ، سادت فترة من الصمت احتراماً لمشاعر" با- حور" الذي لم يكن يترك فرصة ليؤكد أنه لن يترك ثأر أبيه وأنه لابد من أن ينتقم له ، كان كلما تأمل تلك اللوحة التي تصور أربع سفن مشحونة بالأسري الفينيقيين وحولهم البحارة المصريون ، تنقبض ملامح وجهه ، ويخرج الشرر من عينيه ، ويظل يتفرس في وجوه البحارة عله يلمح والده بينهم ، يجز علي أسنانه ويقول في نفسه " لتهدأ روحك يا أبي فقد حققت النصر ، لكني لن أترك هؤلاء الخنازير حتى أبيدهم جميعا .."   كان هذا هو هدف حياته الأول .. أن ينتقم لأبيه ولذلك فقد رسم لنفسه طريقه منذ البداية ، سيكون ضابطاً في الجيش ، فحرص علي تعلم القراءة والكتابة مع صديقيه في المعبد حتى يبلغ سن الإلتحاق بالجيش ، وعبثاً حاول" إيب- خنسو" مراراً أن يثنيه عن عزمه ليكون كاهناً مثله ومثل جسر ، لكن دون جدوى ، بل إنه كان يقابل تلك الفكرة أحياناً بالسخرية قائلاً إن هذا ليس عملاً حقيقياً، فالعمل الحقيقي في نظره هو الذي يمارسه الإنسان بيديه ..

     وفي الحقيقة كان الولد مهيئاً لهذا العمل الذي اختاره فقد كان معتدل القوام ، فارع الجسد ، قوي البنية ، مفتول العضلات ، واسع الصدر ، عريض الكتفين بحيث إذا تأملته لا يمكن أن تتخيله غير جندي ..

     أما "جِسِر" و"إيب- خنسو" فقد اختارا الكهنوت طريقاً لهما ، ولما كانت عبادة الشمس قد انتشرت وأخذ نجم الإله رع في الصعود فضّلا أن يلتحقا بمعبد الإله رع ، وحسب النظام المتبع تبدأ الدراسة بتعلم القراءة والكتابة أولاً ثم تبدأ بعد ذلك مرحلة التعليم الديني وتدريس الطقوس والفلسفة والفلك والحساب وغيرها ..

     ورغم الاختلاف الواضح بين طبائع الأولاد وظروف نشأتهم إلاّ أن حبل الصداقة الذي جمعهم كان قوياً متيناً ، ولا يتأثر بتلك المشاحنات التي تنشب بينهم في بعض الأحيان ، وخاصة بين الإثنين معاً وبين" با- حور" حيث أنه كان حاد المزاج ، سريع الانفعال ، معتز بشخصيته ، مؤمن بنفسه وقدراته إلي حد بعيد ، لكن لا يستطيع أحد أن يدعي أنه لم يكن طيب القلب، نقي السريرة، سليم الطوية ، فقط كان إذا دار الحديث عن الآلهة والإيمان والعقيدة ، لا يشارك فيه ، فإذا ما استفزه أحد – وكان هذا الأحد بالتحديد هو" جسر" غالباً – ثار وهاج وصرخ فيهم ..

-    أيها الحمقى .. إنكم تضيعون حياتكم سدي .. ليست الآلهة إلاّ لعبة في يد الكهنة يسلبون بها أقوات الناس ، ويتحكمون بها في رقابهم  ..

        ويتضاحك الرفاق ، فتهدأ ثورته علي الفور ، ينظر إلي "جسر" بغضب مصطنع ويقول له مهدداً : " سوف أضطر إلي قتلك يوماً .. أيها الخبيث .." ويزداد الضحك والبهجة حتى يتفرقون في النهاية كلٌ إلي بيته

     ونهضوا ليذهب كلٌ إلي بيته فقد أزف الوقت ، وبدأت الشمس تميل نحو الغروب ، "با- حور" وقد انتهي من إعداد رمحه استوقفهم حتى يجربه ، أمسك به من وسطه وشد قبضته عليه ، وأخذ عدة خطوات للخلف ، ثني جذعه للوراء ثم استجمع قوته وأطلقه في اتجاه شجرة الصفصاف فاستقر الرمح في جذعها ، صفق الصديقان لبراعته الفائقة ، سار بفخر إلي الشجرة ونزعه وعاد به وهو سعيد ، علق جسر قائلاً هكذا يمكننا أن نصطاد أسداً في الغد ..

    نظر إليه باحور باحثاً عن أي آثار للسخرية في وجهه فلم يجد ، أيقن أنه جاد فاطمئن ورضي ، وواصلوا مسيرهم إلي منازلهم ..

 

        في اليوم التالي ، وفي الصباح الباكر ، قبل أن تشتد حرارة الشمس ، حملوا ما يحتاجون إليه من متاع وطعام واتخذوا طريقهم إلي مشارف المدينة قاصدين الصحراء ، ضربت نسمات الصباح الرطبة وجوههم فبعثت في نفوسهم النشاط والحيوية والأمل في قضاء يوم ممتع، وأسرعت حركتهم أكثر، وفي الطريق اعترض طريقهم ضابط كبير الشأن كما يبدو من هيئته ، أطال " با- حور" النظر إليه معجباً بملابسه والقلادة الذهبية التي تزين صدره  وهو يحلم باليوم الذي يرتدي فيه هذا الزي ويتزين صدره بالنياشين والأوسمة .. استوقفهم الضابط سائلاً إياهم عن وجهتهم ، توقف الركب الصغير.. و تصدي" با- حور" للرد قائلاً بشجاعة وهو يشدد قبضته علي رمحه ويرفعه بيده ..

-         نحن ذاهبون إلي الصحراء لنقضي اليوم هناك في الصيد والقنص..

أجال الضابط النظر فيهم واستقرت نظراته أكثر علي" إيب- خنسو" ، سألهم ..

- ذاهبون إلي الصحراء !؟ وحدكم؟ ألا تخافون الوحوش ؟

رد" با- حور" بسرعة ..

- لا.. نحن لا نخاف .. إن معي رمحي ، ومعي سكين أيضاً ..

وجه الضابط سؤاله إلي" إيب- خنسو" ..

-    وأنت أيها الشاب ، ماذا معك لتحمي به نفسك ..؟

أشار" إيب- خنسو" إلي قلبه قائلاً ..

-      معي هذا .. قلبي العامر بالإيمان ..

     كادت ضحكة أن تفلت من" با- حور" ، لكنه كتمها فقد رأي أن الضحك في مثل هذا الموقف غير مناسب علي الإطلاق ، لكنه لم يسكت ورد علي الضابط قائلاً ..

-         أنا أحميه بحياتي يا سيدي ..

     قال " با- حور" ( سيدي) بطريقة تشبه طريقة الجنود في الرد علي من هم أعلي منهم رتبة جعلت الضابط يتبسم رغماً عنه ، تنحي عن طريقهم ليواصلوا سيرهم ، وظل يتابعهم بنظراته لمسافة طويلة ثم تبعهم دون أن يشعروا ..

      وكان بالفعل يوماً ممتعاً، قضوا وقتهم منذ الصباح في الركض واللعب، وأظهر "با- حور" الكثير من مهاراته في القفز من التلال المرتفعة ، والزحف علي الرمال ،      

     والإستخفاء ، وتقليد أصوات الحيوانات لدرجة أفزعت "جسر" عندما اختفي عن الأنظار وأخذ يقلد صوت الذئب وحسبه" جسر" ذئباً حقيقياً ، ومضي الوقت الجميل سريعاً ، وانقضت الظهيرة ، وشعروا بالجوع ، فجلسوا يتناولون طعامهم وهو يتضاحكون ، ويتخاطفون الطعام من بعضهم ، وبينما هم في لهوهم إذا بشيء يمرق بالقرب منهم ، كان أول من لمحه جسر ، قال بفزع ..

-         يبدو أنه ذئب ..

قال" إيب- خنسو" محاولاً طمأنته ..

-     لا..لا.. هذا ليس ذئب .. يبدو أنه ظبي صغير ..

انفرجت أسارير" با- حور" وقال بفرح ..

-         إن كان ظبياً .. فأبشروا بأكلة دسمة ..

نظر إليه صاحباه بدهشة وفي صوت واحد قالا ..

-         ماذا تعني .. ؟

-  ليس عليكما إلاّ المساعدة ، سأطارده من هذه الجهة ، وما عليكما إلاً الصياح إن جاء من ناحيتكما..

 وانطلق خلف الظبي رافعاً رمحه بيد وبالأخرى سكينه ، ومر الوقت وهم في طراد عنيف ، يظهر" با- حور" لصاحبيه لحظة خاطفة ثم يختفي ، وأخيراً شاهد الشابين باحور ينقض علي الظبي كالأسد ويقبض عليه بكلتا يديه ، حاول الظبي أن يتخلص من الذراعين القويين دون جدوى .. صرخ " با- حور" في صاحبيه ..

-         ليعطني أحدكما حبلاً ..

     أسرع "جسر" إلي حقيبة المتاع فأخرج حبلاً ناوله إياه وابتعد، وراح" با- حور" يقيد الظبي الذي استسلم تماماً ، وصاح ..

-         ها قد ربطته ، اقتربا ولا تخافا ، إنه لا يعض ..

واقترب" جسر" و"إيب- خنسو" منه وهما لا يدريان ما ينوي فعله ، كان الظبي ينزف من أثر ضربة أو ضربتين من رمح "با- حور" الذي ألقاه علي جانبه وأمسك بسكينه وبدأ يذبحه ، وما إن شاهد" إيب- خنسو" منظر الظبي والدم يندفع من رقبته حتى دارت به الأرض وسقط طريحاً ، توقفت يد "با- حور" حين سمع صرخة جسر..

-         إيبوووووو 

ترك" با- حور" ما بيده وخف إلي الطريح وهزه بعنف ، أسرع إلي حقيبة المتاع واختطف قربة الماء ، وأخذ يرش وجه الشاب ويناديه بصوت عال، وما من مجيب،ظهر الخوف والفزع وهما لا يدريان ماذا يفعلان ، همس "جسر" متسائلاً..

-         هل مات ؟ هل مات يا" با- حور" ..؟

نهره" با- حور" وأمره بالسكوت فسكت وجلس علي الأرض يندب صديقه دون أن يخرج صوته من حلقه ، أقعي با حور بجانبه وألصق أذنه بصدره ، شعر بتنفسه بطيئاً فاطمأن قليلاً وقبل أن يرفع رأسه أحس بظل طويل أمامه ، رفع رأسه ليجد الضابط الذي اعترض طريقهم في الصباح ..

-         ماذا حدث ؟

     تسائل الضابط وهو يزيح" با- حور" عن صدر الشاب ويجس نبضه ، أدرك أنه مجرد إغماء بسيط وأخذ يدلك له صدره ففتح عينيه ، وبدأ في النهوض ، وهنا عادت الدماء تجري في وجوه صديقيه ، وتهللت أساريرهما ، انكب" جسر" علي يد الضابط يقبلها شاكراً  وانحني" با- حور" له ممتناً ..

     تهيئوا للعودة جميعاً ، وحرص الضابط علي ألاّ تقع عين" إيب- خنسو" علي الظبي المذبوح ، سار الضابط معهم حتى اقتربوا من المدينة مع غروب الشمس ، شمل "إيب- خنسو" بنظرة أخيرة قبل أن يفارقهم ثم اتخذ طريقه بعد أن ودعهم ، تبعه" با- حور" عدة خطوات وناداه ..

-         سيدي الضابط العظيم .. ما اسمك يا سيدي..؟

-         اسمي .. اسمي" منتــــو"...      

 

samibatta

أهلاً ومرحباً بك عزيزى القارئ .. أرجو ألاّ تندم على وقتك الذى تقضيه معى ، كما أرجو أن تتواصل معى وتفيدنى بآرائك ومناقشاتك وانتقاداتك ..

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 177 مشاهدة
نشرت فى 23 أكتوبر 2014 بواسطة samibatta

ساحة النقاش

سامى عبد الوهاب بطة

samibatta
أهلاً ومرحباً بك عزيزى القارئ .. أرجو ألاّ تندم على وقتك الذى تقضيه معى على صفحات هذا الموقع .. كما أرجو أن تتواصل معى بالقراءة والنقد والمناقشة بلا قيود ولا حدود .. ولكل زائر تحياتى وتقديرى .. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

97,848