<!--
<!--<!--<!--<!--<!--
فصل من رواية " العودة إلى الجنوب "
- المنسى هيتجوز فطوم يا ولاد....شاع الخبر في الحارة .. وما من أحدٍ سمع به إلاّ وأغرق في الضحك ..
- معقول الكلام ده ..؟ المنسى !!؟ وفطوم .. !!- آى والله .. المنسى .. وفطوم ..أصبح هذا الخبر هو موضوع الساعة بين الرجال وبعضهم وبين النساء وبعضهن ، عند طلمبات المياه والرشاحات وأمام أفران الخبيز وعلى المصاطب وأمام الزوايا والجوامع بعد الصلاة ، وحتى بين العيال والصبيان ..
فسر امام الصفطاوى دهشة الناس بأنها تعبير عن صدمة الاكتشاف ، وعندما سأله حموده البغل عن معني هذا الكلام ، رد محاولاً تبسيط كلامه حتى يفهم حموده – فهو قليل الثقة فى ذكاء حموده - أن كل أهل الحارة اكتشفوا فجأة أن فطوم امرأة مثل كل النساء " يعنى ممكن تحبل وتولد وترضع ويبقى لها عيال بيجروا فى الحارة زى بقية خلق الله " ، وأن المنسى رجل مثل كل الرجال .. له ما لهم ، وعليه ما عليهم ..
لم يستوعب حموده البغل الأمرجيدا ولم يفكر فيه مثلما فكر الإمام هذا – أبو راديون كما يدعوه فى بعض الأحيان - هز رأسه لأعلى وأسفل مدعياً الفهم وسكت ، لكن الصفطاوى لم يسكت كعادته إذا بدأ موضوعاً يجيد فيه الكلام – وهو يجيد الكلام حقيقة في كل الموضوعات وخاصة السياسة ويحفظ أسماء رؤساء الدول كلها وكذلك أسماء عواصمها - ومضى يشرح لرفاقه بإسهاب كيف أن هذا الأمر كان متوقعاً لا سيما – وهو يكثر من استخدام هذه الكلمة بمناسبة وبدون مناسبة – لا سيما وأن المنسى يبدو أنه حط رحاله واستقر في البلد ، وأن فطوم هي أنسب زوجة لمثله ..
وعندما شعر أن حبل الكلام سيمتد ، أغلق الراديو الذى لا يفارقه ليل أو نهار، وواصل معلقاً..
- ومش غريب ولا عجيب إن واحد جوّال يحط رحاله فى أى بلد ويتجوز ..حموده البغل ما زال يحملق في الصفطاوى وقد ثبتت نظراته علي الراديو الصامت علي يمينه ، ويبدو أن شيئاً في هيئة الصفطاوى أثاره فقال بغيظ وهو يشيح بيده في وجه الصفطاوى ..
- هي دى سياسة كمان يا سى إمام ..؟فتح البغل فمه قليلاً حين سمع الصفطاوى يرد بحدة وكأنه يتأهب لمعركة..
- أيوه سياسة يا بغل *.. دا زواج طبقى ..
- هه ..؟
بدا وجه الإمام – كما ينادى عادة عندما لا يلحق به لقبه – غاضباً أو متأففاً من جهل حموده ولم يفهم البغل في التو ما إذا كانت هذه إهانة موجهة لشخصه أم أنها حذلقة من حذلقات الصفطاوى الكثيرة والتي يلتقط فيها كلاماً كثيراً مما يسمعه من ذلك الراديو الملازم لذراعه ليلاً ونهاراً ويضمنه كلامه فلا يفهمه أحد، حقيقة هو يميل إلى أنها إهانة يجب الرد عليها فوراً خاصة وأن الصفطاوى ابن الكلب نطق بكلمة بغل بدون حموده، وأنه نطقها وفي فمه التواء الساخر ونبرة التحدى .. شعر معروف الزينى – الأكبر سناً منهما والخبير بطباعهما – بما يدور بخلد حموده ، ولأنه رجل عاقل ، فهو يدرك أن الوقت ليس مناسبا للعراك والمشاكل ، خاصة تلك التى تنشأ بين الصفطاوى المعتز بثقافته وبضعة سنوات قضاها بين
أعمدة الأزهر الشريف ولم يحالفه الحظ في الحصول علي أية شهادة فعاد صفر اليدين ليفلح فدانين تركهما له أبوه ، وبين حموده المعتز بكفه التي تشبه المطرقة في تأثيرها علي وجه وجسد الصفطاوى وغير الصفطاوى من هؤلاء الذين يوقعهم سوء حظهم في طريقه - فأسـرع بالتدخـل مغيراً اتجـــاه الحديث ومشــيراً إلي أنه ليس من الحــكمة أن نلقى ببناتنا بين أيدى أغراب لا نعرف شيئاً عن أصلهم وفصلهم ، ونظر إلي هنداوى مستنجداً به ليؤيد وجهة نظره ويساهم في القضاء علي سوء التفاهم الوشيك ، لكن الأخير لم يكن علي مستوى الفهم المطلوب ..
رد هنداوى قائلاً ..
- يا خىّ .. يعنى هو كان جاى من اسرائيل! ما كلنا ولاد عربوهنا أحس حموده بأنه كاد يتسرع في الرد علي الصفطاوى رداً قاسياً ، فخف احمرار وجهه وآثر أن ينتظر حتى يوجه إليه الصفطاوى إهانة تكون أكثر وضوحاً من هذا الكلام الغامض، والذي يمكن أن يلام في حالة اتخاذه موقفاً متشدداً تجاه الصفطاوى وينعت بالجهل والغباء لأنه لم يفهم كلام الرجل ، وأضمر في نفسه أن يكون الرد علي أية إهانة من قِبله لابد وأن يكون رادعاً بحيث يغلق فم ذلك الحمار من جهته إلي الأبد ، ومرت عيناه علي الراديو بيمينه فعزم على أن يضمنه دائرة انتقامه حتى لا يجد الرجل مصدراً لهذا الكلام الماسخ الذى يقذفه بوجوه الخلق ..
أضاف هنداوى :
- ربك والحق .. الواد بيشتغل بعشر أنفار..أسرع البسيونى قائلاً وقد بدأ في ضحكته المميزة ..
- يعنى يستاهل عشر نسوان ..أفاق حموده من تأملاته وخواطره تجاه الصفطاوى علي ضحكات الرجال تبرز من بينها ضحكة البسيونى الطويلة المتقطعة فانخرط معهم فى موجة الضحك التي انتهت باتفاق الجميع علي أن الولد غلبان ، ويستحق كل خير، وجانباً تعاهد هنداوى والبسيونى وحموده علي إقامة عرس لم يسبق له مثيل في الحارة للمنسى وفطــــوم ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*حموده البغل هذا ليس اسمه الحقيقى، ولكن اسمه محمد وشهرته حموده أما البغل فهو لقب اكتسبه منذ كان صغيراً، فقد كان ضخم الجثة قوياً مثل البغل وعندما شب علي ضخامته وقوته استمر اللقب مصاحباً له حتى رضي به بل وصل الأمر إلي اعتباره جزءاً من اسمه، ولا زال الناس في بلدنا يذكرون ذلك اليوم الذي ذهب فيه إلي مركز الشرطة ليدلي بشهادته في حادث مقتل الخفير حسانين وحين سأله وكيل النيابة عن اسمه رد بشكل تلقائي قائلاً " حموده البغل يا بيه " وهو لم يكن يغضب أبداً إذا ما نودى بلقبه من قبل أى شخص إلاّ أنه كان يضيق بشدة ويفرك كفه- كعادته حين يتهيأ للعراك- إذا سمع هذا اللقب من فم إمام الصفطاوى بالذات، ولا يدرى أحد السبب في ذلك ، ولم يفسره حموده يوما..
ساحة النقاش