آفــــــــــــــاق

الموقع خاص بالكاتب ويتضمن إنتاجه الأدبى المنشور

<!--<!--<!--<!--<!--

صورةالمرأة العربية فى الحكاية الشعبية


        يختلف تصور القاص الشعبى للمرأة فى الحكايات الشعبية عن تصوره لها فى السير والملاحم الشعبية ، وذلك أمر بديهى ومنطقى ، فالملاحم والسير قصص بطولى ، وميادين الصراع فيها هى الجهاد القومى ضد محتل غاصب أو عدو للدين والوطن أو خطر يتهدد الأمة ، ومن ثم تتطلب الأحداث أبطالاً لهم مواصفات خاصة سواء كانوا من الرجال أو النساء ..  أما الحكايات الشعبية فهى تختلف عن ذلك .. فميادين الصراع فيها هى الحياة اليومية بهمومها  وآمالها ، وآلامها ، وطموحاتها ، وأيضاً بمخاوفها ، ورؤيتها الفلسفية للحياة والموت والمستقبل ، وما يخفيه الغيب .. باختصار هى تعبير عن الواقع بكل تناقضاته فى علاقة جدلية ترفض وتقبل عناصر منظومة القيم والعادات والمعتقدات السائدة ، والمتحكمة فى سلوكيات الفرد والجماعة .. وهى من جهة أخرى أسلوب اجتماعى هدفه الإصلاح والتقويم والمدافعة فى مجال الحياة العامة ، وعلى هذا نجد فيها النقد اللاذع والسخرية المرة والفكاهة اللاذعة ، كما نجد فيها إثارة العبرة الرادعة أو القدرة النافعة أو الإقناع بحقيقة الواقع الأليم وتكريس قيمة الرضا به ..

          وقبل أن نعرض لصورة المرأة فى الحكاية الشعبية ، وكيف تعاملت معها ، نعود للحظات إلى الماضى البعيد لنجد أن للولد فى مجتمعنا العربى وضع متميز يختلف كثيراً عن البنت التى كانت تتعرض للوئد فى زمن سالف ، وتحرم من معظم حقوقها فى متطلبات الحياة ، ويبدو أن هذا الفعل كان يحدث غصباً ومن ثم فقد ترك وجعاً فى الضمير الجمعى يستلزم التكفير عنه فجاءت الحكاية الشعبية وسيلة لتعيد لها وضعها وتعوضها عن سنوات القهر والذل ، وتجعل منها بطلة مثالية كاملة القدرات ، تقفز فوق القوانين وتتحكم فى الظواهر الطبيعية، كما جعلت منها تحقيقاً أرضياً للحورية وصورة مثالية للزوجة والأم الحامية الحانية (1).. وإن كان هذا كله لم يمنع من ظهورها فى بعض الأحيان فى صورة أخرى سلبية تظهر فيها فى شكل الغول مثلاً ( أمنا الغولة ) تقتل وتنهش لحم البشر وتشرب دمائهم وتخيف بمنظرها البشع أو فى شكل العجوز الشمطاء الساحرة الشريرة التى تؤذى الآخرين ، وربما جاءت هذة الصورة لتحافظ على التوازن والثنائية الأخلاقية لأن الصراع الأزلى بين الخير والشر قائم إلى الأبد ، كما أن الثنائية ظاهرة موجودة دائماً فى الفن والأدب فى كل الثقافات ..

          وتعرض الحكاية الشعبية للمرأة فى كل مراحل حياتها العمرية إبتداءاً من الطفولة وحتى الشيخوخة ، كما تعرض لصفاتها المختلفة ما بين الطيبة الحنون والوفية المخلصة وما بين الطماعة الجشعة والحقود الجاحدة وأيضا فى الحكايات المرحة تعرض صورة المرأة الحمقاء الساذجة وغير ذلك ، وسوف نتوقف قليلاً عند كل صورة من هذه الصور من خلال نموذج من جمعنا الميدانى أو من جمع آخرين .. متبعين التسلسل العمرى تصاعدياً من الصغر إلى الكبر ..


                 أولاً : البنت ..

          هناك الكثير من الحكايات الشعبية العربية التى تدور حول البنت ، ودائما البنت هنا هى البنت المظلومة سواء من الزمن أو من البشر وفى الغالب يقع الظلم من جانب زوجة الأب – بديل الأم – ولأن الظلم قيمة سلبية لا يرضى بها القاص الشعبى فإننا نجده يسخر القوى الخفية – من الحيوان أو الجن – لمد يد العون للبنت وتعطيها هذه القوى قدرات تعويضية فينزل المطر إذا ابتسمت ، وتصفر الرياح إذا تنفست ، بل يتجاوز الأمر إلى قدرتها على إعادة الخلق فتعيد العظام الرمية إلى الحياة ولكن فى صورة أخرى كما فى الحكاية التالية(2) ..

          " تزوج رجل وأنجب ولداً وبنتاً ثم توفيت الزوجة فتزوج امرأة أخرى ، وذات يوم أمرت البنت أن تذهب لشراء ملح ، وقالت للولد : اصعد هذا السلم لتحضر بعض الحطب ، صعد الولد وما إن وصل إلى آخر السلم أسرعت المرأة فهزت السلم فوقع الولد على الأرض وأحضرت سكيناً فذبحته ووضعته فى القدر ، عادت البنت وسألت عن أخيها ، أجابت زوجة الأب بأنه ذهب يحضر زيتاً وأمرتها بأن تحضر بعض الحطب من السطح .. نزلت البنت بالحطب وكشفت القدر وسألت عما بها .. ردت زوجة الأب قائلة : بها لحم .. لا تقربيه شكت البنت بالأمر وانتهزت فرصة غيابها بعيداً وكشفت القدر وتأملتها جيداً فوجدت الأخ الغائب .. فزعت وخافت أن تتكلم لئلا تذبح .. عادت الزوجة وأكملت طهى الولد .. ولما عاد الأب جلسوا لتناول الطعام .. دعا الأب البنت لتشاركهم فرفضت بحجة أنها ليست جائعة .. وسأل الأب عن ابنه ، فأخبرته الزوجة بأنه ذهب ليحضر زيتاً ولم يعد .. وبعد أن فرغوا من الطعام ، نهضت البنت فجمعت عظام أخيها ودفنته تحت شجرة وظلت ترويها بدموعها حتى خرج عصفور جميل كان يقف كل يوم على الشباك ويندب بصوت جميل :

    أنا العصفور الأخضر               

    أمى ولدتنى وربتنى

    مرات أبــويا دبحتنى                   

    وابــويا كــل منى

    أختى العزيزة لمتنى                 

    بدمــوعـها سقـــتنى

          وتروى هذه الحكاية بأكثر من طريقة ، لكنها لا تختلف فى عناصرها الأساسية ، ولا فى عدد شخصياتها والمتأمل لهذه الحكاية يلاحظ أن محرك الأحداث فيها هو موت الأم ، والخوف من فقد الأم عند الأطفال يولد المأساة ، والخوف عند الأم على أطفالها يمنعها من الطلاق أو حتى التفكير فيه .. هذا من الجانب الإجتماعى ، أما من جهة الرمز فإن أكل الأب للحم ابنه دون أن يدرى يمكن أن يترجم بالإهمال أو النسيان أو التجاهل ، وقيام الأخت بجمع عظام الولد والحنو عليها والدموع التى ذرفتها يجعل البنت وكأنها حلت محل الأم وصارت بديلاً لها فى مقابل قبول الأب إحلال شخص آخر محل الأم .. وتحول روح الميت إلى طائر يظل يحوم حول البيت معتقد قديم وراسخ فى الذاكرة الشعبية العربية .. كما يشيع فى المعتقد الشعبى أيضاً أن الأطفال والرضع الذين يموتون يتحولون إلى عصافير خضراء فى الجنة ..

   ثانياً : الفتــــــاة ..

          تكبر البنت الصغيرة وتصل إلى سن الفتوة ، لكنها تتعرض ثانية للظلم ومن نفس المصدر ، زوجة الأب أو بديل الأم التى يجعل منها الضمير الشعبى نموذجاً للخجاع والظلم ، فهى أولاً تخدع الأب – الغائب واللاهى تماماً عما يحدث فى بيته – بمعسول الكلام والاهتمام الظاهرى بأبنائه حتى تصل إلى بغيتها وتتزوجه ثم تبدأ فى الكشف عن وجهها الحقيقى كما فى الحكاية التالية (3)..

          " تزوج رجل وأنجب بنتاً اسمها " سليسلة " .. ولما توفيت الزوجة تزوج بأخرى أنجب منها أيضاً بنتاً اسمها " خنيفسة " – لاحظ الأسماء – كانت سليسلة جميلة رقيقة أما خنيفسة فلم تكن كذلك .. وراحت زوجة الأب تكلف سليسلة بالأعمال الشاقة فى البيت وفى الحقل ودون أن توفيها حقها فى المأكل والملبس .. عندما تكون فى الحقل لم تكن ترسل لها سوى الخبز والجبن .. ولأنها راضية قانعة استمرت حياتها على هذا الوضع وفى ذات يوم بينما همت بتناول طعامها المتواضع فوجئت بصينية عليها أشهى المأكولات تهبط عليها من السماء فأكلت حتى شبعت واختفت الصينية .. وتمر الأيام على هذا النحو وسليسلة تزداد جمالاً وصحة .. الأمر الذى حير زوجة الأب وقررت أن تبحث عن السر .. عملت على أن تبقى سليسلة فى البيت مع بقرتها ولا تذهب إلى الحقل ، لكن الحال على ما هو عليه .. سليسلة تزداد جمالاً وتألقاً وخنيفسة على حالها ، فعزت السبب إلى البقرة فاحتالت على زوجها ليذبح البقرة بحجة أنها مريضة والطبيب وصف لها كبد بقرة .. فامتثل الأب لكن البقرة وبعد حديث هامس بينها وبين سليسلة رفضت أن تذبح إلا بكلمة من سليسلة أو تطهى إلا بكلمة من سليسلة أو تؤكل إلا بكلمة من سليسلة .. وبعد أن أكل الجميع البقرة – عدا سليسلة بالطبع – جمعت الفتاة عظام البقرة ووضعتها على فراشها وغطتها بالقفة .. فى الصباح خرج من تحت القفة قط لازم سليسلة التى اهتمت به وأخذت تطعمه اللبن كل يوم فيعطيها بيضة ذهبية ..

          وظل الحال على هذا المنوال حتى اكتشفت زوجة الأب السر فاحتالت ثانية لتبعد القط عن سليسلة .. وحدث أن جاء عريس يطلب الزواج بسليسلة .. اغتاظت الزوجة فهى لا يمكن أن تزوج سليسلة قبل ابنتها خنيفسة فدبرت حيلة وضعت ابنتها فى محمل العريس بدلاً من سليسلة ، لكن قط سليسلة يكشف الحيلة للعريس الذى يعيد خنيفسة لأمها ويستعيد عروسه الجميلة سليسلة .. "

          تشترك الحكايتان السابقتان – كما رأينا – فى الكثير من العناصر ، فالظلم الواقع على المرأة ( طفلة وفتاة ) وقع من مصدر واحد هو زوجة الأب التى تعتبر مغتصبة لعرش الأمومة وهو ما نراه تقديساً ضمنياً لدور الأم الحامية فى وجود النقيض فى صورة الأم المزيفة القاتلة ، تلك الصورة المترسبة فى الوجدان الجمعى من عصور الإنسان الأسطورية القديمة والتى يبدو أنها ترفض فراقه حتى اليوم ..

          كما تشترك الحكايتان فى إظهار موقف الأب السلبى تماماً وغير الفاعل على الاطلاق وكأنه مات يوم ماتت الأم الحقيقية ..

          كذلك نرى أن القاص الشعبى وبذكائه الفطرى بتصويره هذا الظلم الواقع على الطفلة والفتاة وكأنه يعيد إلى الأذهان تلك الحقبة البعيدة التى تعرضت فيها المرأة – بكل مراحلها العمرية – للاضطهاد والقهر من جانب المجتمع ومن ثم وجب أن يعيد إليها كرامتها وينتصر لها بأن يسخر لها قوى الطبيعة من رياح ومطر والقوى الخفية التى يزخر بها عالمه من جن وحيوانات عجماء ..

               ثالثاً : المرأة الناضجة ..

          إذا كانت المرأة فى سن الطفولة والصبا تحتاج لمن يرعاها ويحميها ، فإن المرأة الناضجة تعتبر مسئولة مسئولية كاملة عن نفسها وعن آخرين ( أبناء – زوج – الأب والأم ......... إلخ ) ومن ثم فهى التى تبادر بالفعل وتتحمل نتائجه إيجاباً وسلباً ، وعليها أن تواجه مصيرها وحدها فليس هناك دور للقوى الخفية فى حياتها كما هو فى حالة الطفلة والصبية التى لا تملك الدفاع عن نفسها أمام شراسة الحياة ..

          وتتعدد نماذج المرأة فى الحكاية الشعبية فقد رأينا فيما سبق نموذجاً للمرأة المخادعة الحقود ممثلاً فى زوجة الأب ، لكن أشهر نماذجها فى الحكاية هو نموذج المرأة الساذجة والذى سنتعرض له من خلال الحكاية التالية وقد رأينا أن ننقلها من قطر عربى آخر وليس من جمعنا الميدانى لتوسيع نطاق الميدان بقدر المستطاع وهى من كتاب " صياغات شعبية حول المعرفة والخصوبة والقدر " للدكتور على زيعور ..

     تقول الحكاية : " خرج الزوج لرحلة صيد بعد أن ترك لزوجته ما يلزمها أثناء غيابه من مال وغذاء ونصائح وكان لديه خروف سمين فى البيت .. وبينما الزوجة جالسة أمام عتبة بيتها ذات يوم مر بها شحاذ فسألته إلى أين هو ذاهب ؟ رد الرجل بغضب واستنكار وهو يتابع طريقه باحثاً عن بيت يعطيه : إلى جهنم !! هنا ردت المرأة بسرعة : هل رأيت أخى هناك ؟ أريد أرسل له شيئاً معك .. توقف الشحاذ متفكراً وقد أيقن أنه أمام امرأة ساذجة ورد بالموافقة .. وهكذا أخذ الخروف السمين ونقوداً ذهبية ومضى لحال سبيله .. ولما رجع الزوج أخبرته بما حدث فأمع على ترك البيت والبلد باحثاً عن زوجة عاقلة .. أخذ الزوج يتجول فى البلاد حتى وصل إلى قرية حل فى منزول شيخها ، وعزم على الزواج من ابنته وتم الاتفاق على ذلك وتحدد يوم الزفاف ، وقبل موعد الزفاف ذهبت أم العروس لتملأ جرتها من عين الماء ، وكانت هناك عند العين شجرة تين ضخمة ، وقفت المرأة تفكر فى نفسها ثم بصوت عال وتقول : " بكره ( غداً ) بنتى تتزوج ، تولد صبى ، الصبى يطلع التوينى ( شجرة التين ) يقع فى العوينى ( تصغير العين ) تنكسر رجله .. يصرخ يا ستيتى ( تصغير ست بمعنى جدة ) .. تردد المرأة بصوت عال وتنتحب بقوة .. لما تأخرت المرأة لحقت بها الإبنة وسألتها عن سبب تأخرها فأجابتها فانخرطت البنت فى البكاء مع أمها ، ولما تأخرتا لحق بهما الأب ولما عرف الحكاية أخذ فى البكاء هو الآخر وقلق الزوج فلحق بالجميع ووجدهم على هذه الحال ..استفسر عن السبب فقالوا له .. أخذه العجب وعاد إلى نفسه وإلى زوجته الأولى بعد أن رأى من هى أكثر سذاجة من زوجته .. " ..

          تنتشر ثيمة هذه الحكاية فى مجتمعنا العربى باختلافات بسيطة فى التفاصيل تحددها الثقافات المحلية لكل مجتمع ، لكن دلالاتها واحدة فهى تمس بعض القيم المسيطرة على المجتمع والتى تتمثل فى القناعة بما لدى الانسان والرضا بنصيبة من الدنيا فمهما تمرد على واقعه لن يجد ما هو أفضل مما تحقق .. وتُعضّد هذة القيمة بمثل شعبى يقول : " اللى يشوف بلوة ( مصيبة ) غيره ، تهون عليه بلوته .." !

          أما التحليل النفسى لهذه الحكاية فيرى أن الخروج – أى خروج الزوج تاركاً بيته – بسبب الإحباط للبحث عن الأفضل يمثل خروجاً عن الذات فى رحلة اكتشاف تنتهى بمحصلة صفرية فالعودة إلى الذات مرة أخرى .. وفى نفس الوقت تمثل هذه العودة حلاً تعويضياً بالنسبة للمرأة ..


 المصادر :

(1)   صياغات شعبية حول المعرفة والخصوبة والقدر: د. على زيعور؛ دار الأندلس -  بيروت – لبنان ؛ 1984

(2)  الحكاية الشعبية – دراسة فى الأصول والقوانين الشكلية : سامى عبد الوهاب بطة ؛ الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة ؛ 2004

(3)   المصدر السابق .                           





                                                                                             سامى عبد الوهاب بطة

باحث بأطلس المأثورات الشعبية المصرية

نشر بمجلة البحرين الثقافية (العدد 24 ) 2011

المصدر: مجلة البحرين الثقافية
samibatta

أهلاً ومرحباً بك عزيزى القارئ .. أرجو ألاّ تندم على وقتك الذى تقضيه معى ، كما أرجو أن تتواصل معى وتفيدنى بآرائك ومناقشاتك وانتقاداتك ..

  • Currently 16/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 2075 مشاهدة
نشرت فى 5 يونيو 2011 بواسطة samibatta

ساحة النقاش

سامى عبد الوهاب بطة

samibatta
أهلاً ومرحباً بك عزيزى القارئ .. أرجو ألاّ تندم على وقتك الذى تقضيه معى على صفحات هذا الموقع .. كما أرجو أن تتواصل معى بالقراءة والنقد والمناقشة بلا قيود ولا حدود .. ولكل زائر تحياتى وتقديرى .. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

89,390