جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
بين الثأر والحلم بالسلام ..!
بقلم / ناصر العزبي
سامي عبد الوهاب واحد من الكتاب الذين يمتلئ بهم الوطن، وهو ليس بغريب عن الحياة الثقافية ، فهو ـ قبل أن يكون كاتباً ـ قارئ جيد للتاريخ، ويعمل باحثاً بأطلس المأثورات الشعبية، وهو ينتمي لمدينة المحلة ، تلك المدينة الرائعة التي يتميز ناسها بالوعي الثقافي والفني والتي يعيشها جمع كبير من الأدباء، وينتمي لها من كًتَّاب المسرح الراحل "فتحي فضل" و"عبد الحافظ ناصف" و"لطفي مطاوع" و"مجدي الحمزاوي" و"جابر سركيس" ... وغيرهم
وسامي عبد الوهاب واحد من قطفات تلك المدينة، فهو يمارس فعل الكتابة منذ أكثر من ثلاثين عاما،.. بدأ بكتابة القصة القصيرة و التي نشر بعضها فى مجلة "إبداع" وغيرها من مجلات الماستر فى الثمانينات، وكتب العديد من الدراسات فى مجال التراث الشعبى ونشرت فى بعض المجلات العربية، أيضاً في مجال المسرح كتب دراسة حول جدلية المسرح والتراث ونشرت بجريدة مسرحنا، ودراسة أخرى عن الكاتب فتحى فضل، ..وقد صدر له؛ "نوسر قلب القمر" ـ رواية ـ ضمن سلسلة "تاريخ مصر" عن دار الهلال، ورواية "أحمس بن أبانا" عن دار الهلال، وهما روايتان متصلتان بمجال اهتمام وعمل سامي عبد الوهاب، وقد صدر له أيضاً في ذات الاهتمام كتاب "الحكاية الشعبية" وهو دراسات فى الأصول والقوانين الشكلية ضمن "سلسلة الدراسات الشعبية" ـ العدد 86 ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة .
وفي مجال المسرحية ؛ له نص بعنوان "لعبة الملوك" وهو أول مسرحية يكتبها ومجازة له بإدارة مسرح الهيئة العامة لقصور الثقافة، وله أيضاً مسرحية" الموت خارج الصندوق"والتي قدمها له نادى مسرح زفتى في التسعينيات، ونشرت مسرحيته "حزب الشرفا" بكتاب دليل النصوص ـ عن إدارة مسرح الثقافة الجماهيرية ـ العدد 13 ـ 2002، وجدير أن نذكر ضمن كتاباته المسرحية نص " الثأر" ـ الذي في حوزتنا الآن ـ والذي كتبه في أواخر الثمانينيات، حصل عنه عام 1990 على جائزة مسابقة جامعة الملك سعود وقد كانت من فصلين فقط دون وجود للزباء، وقد أعاد المؤلف كتابته مضيفاً إليه فصلاً ثالثاً لتكون على صورتها الحالية ..، فالمادة التاريخية إذن هي ملعب سامي عبد الوهاب بحكم اهتماماته، ولكن يبقى أن أشير هنا إلى مسرحيته "حزب الشرفا" والتي لها موضوع معاصر مرتبط بالمرحلة الراهنة حيث يتناول فيها سامي عبد الوهاب لعبة الأحزاب أو المناخ السياسي الحالي وما يعتريه من فساد وما يحكمه من قوانين المصالح الشخصية والسماسرة ومن خلاله يكشف الكثير من السلبيات للواقع السياسي .. والقارئ لنصوص سامي عبد الوهاب يكتشف أنه أمام كاتب تتميز جمله الحوارية بالبساطة والسلاسة والانسيابية خاصة في تلك التي كتبت بالعامية
و "الثأر" من الموضوعات التي تناولها الأدب العربي الحديث، وهو أيضاً من الموضوعات الخصبة درامياً والتي كانت مادتها الثرية تجذب الكتاب إليها، وقد سبق سامي عبد الوهاب في تناول هذا الموضوع أساتذة من الرواد، نذكر منهم محمود تيمور "اليوم خمرـ 1945"، و"الملك الضليل"، "زنوبيا ملكة تدمرـ 1937" لمحمد فريد أبو حديد، وتحضرني هنا مسرحية "الثأر ورحلة العذاب ـ 1982" للكاتب محمد أبو العلا السلاموني والتي تناول من خلالها حياة الشاعر الأمير المخلوع إمرئ القيس بن حُجر بن الحارث سليل ملوك كندة في بلاد الحيرة القديمة ـ جنوب العراق وشمال منطقة الخليج حالياً ـ وحكاية ثأره من بني أسد الذين قتلوا أبيه ـ ومن قبل قتلوا جده ـ وتردد الابن بين أخذ الثأر أو عدم أخذه لما كان يحمل داخله من كره لأبيه الذي طرده لصعلكته وأمر بقتله ... إلخ
شخصيات الحكاية :
جذيمة" ؛ كان جذيمة بن مالك ملكاً على الحيرة و ما حولها من السواد و ملك ستين سنة وكان به وضحاً، شديد السلطان يخافه القريب و يهابه البعيد فنهيت العرب أن يقولوا "الأبرص" فقالوا "الأبرش"، وهذا حسبما قال هشام بن الكلبي ...
"الزباء"؛ أو"زنوبيا" ملكة تدمر"بالميرا" والشام والجزيرة، كانت عربية اللسان حسنة البيان شديدة السلطان كبيرة الهمة ـ يقول ابن الكلـبي ـ لم يكن في نساء عصرها أجمل منها ، و كان اسمها فارعة وكان لها شعر إذا مشت سحبته وراءها.وقد تختلف الحكاية من مدون إلى آخر، فاسمها"الفارعة" وقيل أنها "ميسون" أو "نائلة بنت مليح بن البراء"، وهي أميرة عربية من عمات المناذرة ملوك العراق المسيحيين.وقال مدونون تاريخيون آخرون أنها بنت عمرو بن الظرب بن حسان ابن أذينة بن السميدع، أمها إغريقية، وهناك من قال أنها اعتزلت الرجال فهي عذراء لم تتزوج، وهو ما يختلف مع مدونات أخرى ذكرت أنها تزوجت ملك ملوك تدمر (أذينة الحيراني) الذي ساد المشرق في العهد الروماني، أنجبت منه 3 أولاد. وعندما توفي زوجها (أذينة) خلفه ابنه (وهب اللآت) القاصر فتولت (الزباء) الوصاية عليه، واستطاعت أن تستقل بتدمر من الدولة الرومانية. وأما عن أمر وفاتها فإن هناك من قال أنها انتحرت عندما كانت في الآسر لدى"اورليانوس" الإمبراطور الروماني ، وهناك من اتفق على أمر انتحارها ، ولكن بسم إلتقمته من تحت فص خاتمها عندما وقعت في آسر عمرو بن عدي اللخمي الآخذ بثأر خاله جذيمة، وأيضاً هناك خلاف على عام وفاتها فمن المؤرخين من ذكر أنها ماتت عام 273 م وهناك من قال في عام 260 م.
"قصير" ؛ أطلق عليه هذا الوصف ـ ولم يكن اسمه ـ فقيل هو قصير بن سعد، وهناك من قال أنه كان عبد لجذيمةوكان عاقلا لبيبا ، وآخر قال أنه كان ابن عم جذيمة وكان خازنه وصاحب أمره وعميد دولته
"عمربن عدي" ؛ هو عمرو بن عدي اللخمي ، وهو ابن أخت جذيمة الأبرش والذي استخلفه على مملكته ليكون ملكاً على بلاد الحيرة من بعده ، وهو الذي قام بأخذ الثأر لخاله من ملكة تدمر..
أصل الحكاية :
قام جذيمة بغزوالحضر، وقتل ملكها مليح ابن البراء،وطرد الزباء إلى الشام فتوَّلت عرش المملكة، وازدهرت تدمر في عهدها، وانشأت جيشا قويا فاستولت على العديد من البلدان ..، وعادت إلى ديار أبيها و ملكتها فأزالت جذيمة الأبرش عنها و ابتنت على الفرات مدينتين متقابلتين من شرقي الفرات و من غربيه وجعلت بينهما نفقا تحت الفرات و كان إذا أرهقها الأعداء تحصنت به، و كان بينها و بين جذيمة بعد الحرب مهادنة، فحدث نفسه بخطبتها و جمع خاصته فشاورهم في ذلك، فحذره قصير منها ، فعقب عليه جذيمة:"ياقصير الرأي ما رأيت الحزم فيما قلته و لكن النفس تواقةإلى ما تحب و تهوى"، فأرسل رسولاً يطلعها على مراده، فلما سمعت كلامه أظهرت له السرور به والرغبة فيه و أكرمت مقدمه، و قالت: "قدكنت أضربت عن هذا الأمر خوفا أن لا أجد كفؤا، و الملك فوق قدري و أنادون قدره .." وحمّلَّت رسوله هدايا طائلة، فلما رجع إليه رسوله أبهجه ما سمع من الجواب فأعجبته نفسه،واستخلف على مملكته ابن أخته عمرو بن عدي اللخمي ، وسار من فوره ـ مع من يثق فيه من خاصته وأهل مملكته ـ إلى الزباء، فلما قرب من ديارها أرسل يُعلمها بمجيئه فرحبت وأظهرت السرور به و قالت لرعيتها: "تلقوا سيدكم و ملك دولتكم" وعاد رسوله إليه بالجواب بما رأى وسمع ، فزاد جذيمة من عزمه غير ملتفتٍ لزيادة الشك والريب عند قصير الذي لما رآه على عزمه قال: ".. فإن كنت و لابد فاعلا و لهواك تابعا فإن القوم إن تلقوك غدا فرقاًو ساروا أمامك وجاء قوم و ذهب قوم فالأمر بعده في يدك والرأي فيه إليك، وإن تلقوك رزدقاً واحداً و أقاموا لك صفين حتى إذاتوسطتهم انقضوا عليك من كل جانب فحدقوا بك فقد ملكوك و صرت في قبضتهم وهذه العصا لا يشق غبارها ـ وكانت لجذيمة فرس تسبق الطير وتجاري الرياح يقال لها "العصا" ـ فإذا كان كذلك فتملك ظهرها فهي ناجية بك إن ملكت ناصيتها" فسمع جذيمة كلامه ولم يرد جوابا و سار فيما عزم عليه...
وكانت الزباء لما انصرف رسول جذيمة من عندها قالت لجندها : "إذاأقبل جذيمة غدا فالتقوه بجمعكم و قوموا له صفين عن يمينه و شماله وإذاتوسط جمعكم فتعرضوا عليه من كل جانب حتى تحدقوا به وإياكم أن يفتكم"
فلما لقيه قوم الزباء وصدقت شكوك قصير، ورفض الملك الفرار،امتطى قصير ظهر العصا فاراً بها، ودخل قوم الزباء بجذيمة عليها فقالت: "ما أحسنك من عروس تزف إليَّ"وكانت جالسة على سريرها وقالت لجواريها:"خذوا بيد سيدكن و بعل مولاتكن فقطعن رواهشه فلما مات قالت: "والله ما وفى دمك ولا شفى قتلك و لكنه غيض من فيض"
ولما عاد قصير أخبر عمرو بن عدي بالخبر وطالبه بالثأر من الزباء،واتفقا معاً على خطة لذلك ونفذاها بداية من جدع قصيرلأنفه بنفسه ثم لجوئه للزباء كأنه هارب من عمرو بن عدي، مروراً لكسبه ثقتها فيه ، نهاية بإدخال ـ عن طريق الحيلة ـألفي رجل من فتيان قومه على خيولهم وبأسلحتهم ، ولم تلتفت لواشي يشككها فيه، بل كانت تقول: "إن قصير اليوم منا و هو ربيب هذه النعمة وصنيعة هذه الدولةوإنما يبعثكم على ذلك الحسد ليس فيكم مثله" .حتى إذا توسط الموكب المدينة عرفت قصد الثأر منها،ففرت قاصدة النفق فسبقها إليه قصير فحال بينها وبينه، فلمارأت أن قد أحيط بها و مُلِكت، التقمت خاتماً في يدها تحت فصه سم وقالت:" :بيدي لا بيدك يا عمرو" فأدركهاعمرو وقصير فضرباها بالسيف حتى هلكت و ملكا مملكتها و احتويا على نعمتها
" ثأر " سامي عبد الوهاب
مع اختلاف الحكايات عن الزباء في المدونات العربية، نجد سامي عبد الوهاب في مسرحيته "الثأر" يتناول الحكاية الأرجح منها ، ويلتزم بتفاصيلها في مسرحيته ، فهي عرض صريح لقصة تاريخية ، لكنه يرويها لنا من وجهة نظر آل "جذيمة الأبرش"، وهي بالطبع ستختلف لو أنها رويت من وجهة نظر آل "الزباء" ـ والتي أرى أنها أكثر ثراءا دراميا ـ ولكنه يعتمد افتراضية ليبني عليها قصته، آلا وهي افتراضية قصد جذيمة "المنتصر" للسلام مع الزباء "المقتول والدها" ، وسعيه لتحقيق السلام بين مملكته ومملكة تدمر، غير ملتفتاً إلى مشاعرها المتأججة تجاهه بلهيب الحرقة جراء قتله لوالدها، وأنه لن يشفى غليلها إلا الثأر منه، وببلوغ مرادها ـ بالحيلة والخديعة ـ بقتلها لجذيمة، يتبدل الموقف وتصبح هي المطلوبة بأن يؤخذ الثأر منها، لقد ثارت حفيظة عمرو بن عدي على اغتيال خاله ، تبدل الموقف وأصبح عمرو هو المقتول خاله وأصبحت الزباء هي المنتصرة ، ولكننا نجد أن غليلها لم يشفى ولم تُطفأ نار لوعتها بل أنها تكاد تكون تواقة لأخذ الثأر أكثر من مرة، ولم نجد عمرو يسلك نفس سلوك خاله بالسعي للسلام ، بل أخذته الحمية والكرامة ساعياً للثأر والانتقام ...
على مستوى الشكل ؛ ينتهج سامي عبد الوهاب الشكل الكلاسيكي في تقسيمه لمسرحيته إلى فصول ثلاثة ، كذلك يلجأ إلى التقسيم في الفصل إلى مشاهد، فهو تقسيم حسب تسلسل تصاعد الأحداث ، فنجده يتحرك بنا بفكرته بشكل مباشر ، وقد أصاب في هذا ، فقدم الفصل الأول في ثلاثة مشاهد ، في المشهد الأول ـ المنظر في ديوان ملك الحيرة ـ وتناول من خلاله عرض شخصياته والتمهيد لدخول الملك، وأيضاً الفكرة التي كانت وراء دعوة الملك "جذيمة" للاجتماع ، فكرة السلام وتحقيقه عن طريق زواجه من الزباء ، وفي المشهد الثاني ـ نفس المنظر ـ عمق المؤلف الجانب الإنساني لدى شخصية جذيمة وفي ذات الوقت استخلافه لعمرو بن عدي لإدارة شئون البلاد في غيابه ، أيضاً نزداد إحاطة بمدى ارتباط كل من "عمرو وقصير" بالملك ومشاعرهما تجاهه، أما في المشهد الثالث ـ المنظر في الصحراء ـ فيه يسجل رحلة الملك إلى مملكة الحضر واستشعار قصير لقرب الخطر وفشله في رد الملك عن عزمه ، وجاء الفصل الثاني في مشهد واحد ـ المنظر في قصر الزباء ـ حيث المواجهة بين الزباء والملك جذيمة المكبل بالقيود وحوار بينهما ينتهي برقصة طقسية للموت يتم خلالها قتل جذيمة وتصفية دمه لتحقق الزباء حلم الثأر من قاتل والدها ، وأما الفصل الثالث فقد جاء في ثلاثة مشاهد ـ مثل الأول ـ فيعود بنا في مشهده الأول إلى ديوان ملك الحيرة ـ نفس المنظر الأول في الفصل الأول ـ حيث يحكي قصير وقائع الرحلة للملك عمرو ويخبره بمقتل خاله ويطالبه بالثأر من الزباء ، ويتفق معه على إتباع طريق الحيلة وسلاح الخديعة التي استخدمته الزباء ضدهم ، وفي المشهد الثاني ـ نفس المنظر السابق ـ نتعرف على تطور الأحداث والاستعدادات بالحيرة ، وأيضاً نتعرف على نجاح خطة قصير وتمكنه من كسب ثقة الزباء ، ومع نهاية المشهد يبدأ تحرك قوات عمرو مع قصير للدخول إلى بلاد الزباء ، وفي المشهد الثالث والأخير في قصر الزباء ـ نفس منظر الفصل الثاني ـ حيث يتمكن "عمرو وقصير" من حصار الزباء لينتهي الموقف بآخذ الثأر منها .. ولنجد أنفسنا مع نهاية المسرحية أمام تساؤل قائد الجيش :
القـائد : انتهت المعركة يا مولاي .. هل آمر الجند بوضع السلاح ..؟
عمرو: (صائحاً) لا .. لم تنته المعركة بعد .. بل لم تبدأ بعد .. ما كانت الزباء إلا ذراعاً في يد عدونا الحقيقي .....، لا تغمضوا عيونكم .. معركتنا الكبرى قادمة فأمر الجند بالاستعداد ..
هكذا كان تسلسل الأحداث ، في مسرحية سامي عبد الوهاب التي وفق صياغتها ،
ونسجل عليها بعض الملاحظات الاجتهادية :
ــ يحوي التاريخ تراثاً غنياً بالمواقف الدرامية والحكايات التي تعتمد بنيتها على حبكة درامية تشتمل على عناصر التشويق والإمتاع بما يشجع الكتَّاب على اللجوء إليه واستحضار مواقفه ، ولكن هل يكفي النقل فقط، وهل يجب الالتزام بالحكايات دون محاولة الإضافة والخلق والإبداع ؟! .. تقفز تلك القضية إلى الذهن بمجرد الانتهاء من قراءة مسرحية " الثأر " ، لقد التزم سامي عبد الوهاب بالحكاية التزاماً قارب المطابقة بالحكاية المعروفة ، مع عدم إنكارنا بأن انتقائه للحكاية في حد ذاته يؤخذ في الاعتبار ، ـ ربما عمله في مجال التراث جعله يتحرك بحساب وحذرـ وان كان لكل من شخصيتي جذيمة والزباء بناء ومواصفات وتعقيدات يبراز صراعاً داخلياً ـ صراع الأضداد ـ كان من الممكن توظيفه في العمل بشكل أكبر ، وربما نتلمس العذر في ذلك لو عرفنا أن النص كتب في بدايته دون اعتبار لتواجد الزباء ـ ذات الثراء الدرامي الأكثر ـ حيث كان موجهاً لجهة تشترط عدم وجود للعنصر النسائي، وأنه لو أعاد كتابتها ثالثة لربما زاد من تواجدها، وناقش من خلالها أبعاد أكثر إنسانية .
ــ وفي هذا العمل " الثأر" يدخل بنا سامي عبد الوهاب إلى "بلاد الحيرة" ويعيد طرح قضية "الثأر" التي وجد ضرورة لطرحها في ظل ظروف حالية قد تتماس مع هذا الطرح ، بما قد يحيلنا إلى الإسقاط السياسي وإلا فلماذا يختر الكاتب تلك القصة ليعيد طرحها في تلك المرحلة ..
عمرو : وهل كان حلمه بالسلام خطأ يستوجب القتل ؟
قصير : ليس الحلم بالسلام هو الخطأ يا ولدي.. لكن السلام مع من ؟ .. ومتى ؟ .. وكيف ؟ .. هذا هو المهم وهذا هو الطريق الصحيح للسلام ..
ــ يعرض المؤلف لعبة الثأر التي لا تنتهي ، فجذيمة بعد انتصاره يطلب السلام مع من يرغب الثأر منه، وتحدث الخديعة ، وينجح الطرف الثاني "الزباء" في الثأر ، ويتبدل الموقف ليصبح الطرف الأول مهزوماً ويصبح مطالباً بأخذ الثأر من الطرف الثاني ، وبالحيلة والخديعة ـ أيضاً ـ ينجح "عمرو" في الثأر من "الزباء" ليعود الموقف ليتبدل مرة أخرى .. وهكذا فالثأر لا يقف عند حد معين ....!
ــ الشخصيات جميعها تقريباً لها تواجد بالحكاية الأصلية (جذيمة ،الزباء ، عمرو ، قصير ، ...) وهو ما جعل الكاتب لم يلتفت لاستكمال رسمها ـ وأظنه اعتمد على وعيّه بالحكاية ـ فكانت تخدم هدف الفكرة بعيداً عن كونها شخصيات حيَّة ، لقد ركز على الفكرة أكثر من تركيزه على بناء الشخصيات .
ــ على عكس عادات العرب تأخذ المرأة بالثأر ، بالرغم من وجود أبناء للملكة ، حتى وان كانوا قُصر فوصايتها عليهم لا تجعلهم يحملون الثأر عن جدهم ، وفي ذات الوقت فإن الطبيعي أن يؤخذ الثأر من الرجال ، وأما أن يؤخذ من النساء فهذا على عكس عادات العرب ، بل المعتاد أن يؤخذ من الأبناء الرجال ، ولكنه مأزق عمرو ، وربما ما يجعله مقبول أنها ملكة تمثل مملكة فهي هنا شخصية اعتبارية أكثر منها شخصية إنسانية بالرغم من أن الثأر شأن إنساني حيث يحمله الابن أو القريب ، وهو يختلف عن ثأر البلاد ..
ــ في المشهد الثالث من الفصل الأول زادت حدة الحوار بشكل غير منطقي من قبل قصير لدرجة وصمه للملك بالجنون ..!! وهذا ليس من المقبول حتى وان اعتذر قصير عنه بعد ذلك
الملك : اسمع يا رجل( تبدأ الأصوات تعلو في توتر
قصير: اسمع أنت يا مولاي .. كفاني ما سمعت من أحلامك .. بل من أوهامك وهواجسك .. ما سمعت منك لا يمكن أن يسمعه المرء إلا من شاعر أو مجنون .. لا يمكن أن ينطق به ملك ....، إنك تقامر بحياتك وأرضك وشعبك وهذا ليس من الحكمة في شيء .. أنت لا تملك أياً منها حتى تقامر بها !
ــ حاول المؤلف إبراز تمتع الملك بالديمقراطية في اجتماعه بحاشيته حيث أنه يجتمع بهم ليعرض عليهم قراره في عمل سلام مع مملكة الحضر عن طريق زواجه من الزباء
جذيمة : ... إنني أرغب في سلام دائم.. سلام ينهي كل ما بيننا ثارات ودماء..
ويبارك الجميع تلك الفكرة ـ العبقرية !! ـ دون جدل يذكر إلا من قصير
قصير : مولاي جذيمة.. هل نسيت أنك سفكت بسيفك هذا دم المليح بن البراء؟ .. وأن هذا المليح هو والد هذه الملكة .. التي تناصبك العداء.. وهي لا تبغي من الدنيا شيئاً قدر ما تبغي الثأر لأبيها ..
ويستمر الجدل في حوار ظاهره الديمقراطية ، وحقيقته غير ذلك تماماً، لقد فكر الملك وقرر واتخذ خطوات في التنفيذ ، بل وليس لديه الاستعداد في التراجع عن ما قرره
الملك : ماذا تقول يابن سعد إذا عرفت أن.. الزباء قد قبلت يدي الممدودة إليها .. ووافقت على الزواج مني.. وسوف نقيم قريباً عرساً لم يشهده أحد من قبل.. ،.. لقد أرسلت رسولاُ منذ عدة أيام لأعرض عليها الأمر .. وأبلغني الرسول بردها .. لقد حمَّلت رسولي هدايا عظيمة وتحفاً نادرة ..
وهذه الملاحظات الاجتهادية ليست ملاحظات خلافية
وإنما أطرحها للمناقشة من أجل العمل على إثراء تلك التجربة الفنية عند تنفيذها على خشبة المسرح، فهو عمل يقبض على ثمة عظيمة ويستحق أن يرى طريقه إلى النور، ولعل نشره هنا من خلال تلك السلسلة يكون سبباً في عرضها ، ويبقى لي أن أسجل تقديري لهذا الكاتب الجاد "سامي عبد الوهاب" لجدية الموضوعات والقضايا التي يتناولها في أعماله، تحية وتقدير له على مثابرته وإصراره على الاستمرار ليؤكد على أن ببلادنا كتاب كثيرين لم يأخذوا حقهم من الانتشار ..!
ناصر العزبي
المصدر: الكاتب
أهلاً ومرحباً بك عزيزى القارئ ..
أرجو ألاّ تندم على وقتك الذى تقضيه معى ، كما أرجو أن تتواصل معى وتفيدنى بآرائك ومناقشاتك وانتقاداتك ..
ساحة النقاش