جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
مولد البطل
فى الحكاية الشعبية
ربما كانت حالة ميلاد البطل فى الحكاية الشعبية من أهم الظواهر التى استرعت اهتمام الباحثين فى مجال الأدب الشعبى ، وذلك لارتباطها بالتراث الأسطورى الإنسانى ، وكذلك بالدراما ، وأوجه التشابه بينه وبين البطل التراجيدى من حيث المقومات والصفات والخصائص ..
إن هذا المولود الذى يأتى إلى الدنيا وهو غير مرغوب فيه ، فينبذ فى العراء ، أو يلقى به على سفح جبل، أو فى صحراء قاتلة ، معرضاً للهلاك فى أى لحظة ، لا تلبث يد خفية حنون أن تمتد إليه من مكان مجهول – وربما تكون يد غير بشرية – لتنتشله من الخطر المحدق به وتتعهده بالرعاية حتى يقوى و سرعان ما يشق طريقه متغلباً على الصعاب والمعوقات ليكون بطلاً تظل الأجيال تحكى حكايته حتى اليوم ..
كانت هذه الظاهرة – ظاهرة مولد البطل – من أكثر الظواهر حظاً فى تناولها بالتفسير والتأويل من جانب الباحثين والعلماء من جميع الاتجاهات ..
فأصحاب الاتجاه الطبيعى يجدون فى تلك الظاهرة تشخيصاً لظواهر طبيعية ، كأن يكون ما يتعرض له البطل فى مبتدأ حياته رمزاً لشروق الشمس وهى تجتاز طريقها فى عالم الظلام مصارعة قواه حتى تتمكن من الشروق كل صباح ، وكأن هذه القوى تحاول أن تمنع الشمس من أداء دورها فى الحياة ، تماماً كالبطل الذى تحاول بعض القوى أن تمنعه من أداء دوره البطولى المقدر والمرسوم له منذ ما قبل ميلاده ..
وهذا التفسير صورة من معتقد مصرى قديم يتخيل أن الشمس تصارع فى الليل أفعوانا ضخما حتى تتغلب عليه فى الصباح .
أما الأنثروبولوجيون فيردون البطولة فى الأدب الشعبى إلى المنابع الأسطورية القديمة وهم لا ينظرون إلى الأسطورة من خلال الفرد – كما فعل علماء النفس – بل من خلال علاقتها بالطقوس التى تقوم بدور الجهاز العصبى فى حياة الجماعة ، وقد استطاعوا أن يقرنوا الأساطير التى عرفت فى الآداب القديمة بما عرفه علماء الآثار عن عادات تلك الأمم من ناحية ، وبما جمعوه هم عن طقوس الشعوب البدائية من ناحية أخرى ، ووصلوا من ذلك إلى أن الأساطير لم تكن إلا التعبير القولى عما يمارس عملا فى الطقوس القبلية وأن البطولة فى تلك الأساطير لم تكن إلا تجسيما للوعى الجماعى أو تعبيرا عن النظام الذى تقوم عليه حياة الجماعة ، .. وبذلك جردوا البطولة من كل معنى ذاتى وأصبح البطل تعبيرا عن الجماعة أو عن وظيفة اجتماعية.
وقد نالت هذه الظاهرة لدى علماء النفس حظا أكبر من التفسير والتوضيح ، ومن أهم هؤلاء " فرويد " و" أوتورانك " و " يونج " ، وإن كانت دراسات " فرويد " قد انصبت على البطل الأسطورى متخذا من أوديب نموذجا له وقد بلور نظريته فيما يعرف بعقدة أوديب التى تعد مرضا نفسيا يعبر عن علاقة الابن بكل من أمه وأبيه .
فهو – الطفل البطل – يميل لأمه على حين يرى فى أبيه القوة المتسلطة التى تقف عقبة فى سبيل تحقيق رغباته ، وعندما يكبر وعى الطفل يحاول شيئا فشيئا أن يستقل عن سلطة الاثنين ولكنه ما زال يرى فى أبيه الحاجز الذى يحول دون هذا الاستقلال .
ويرى " رانك " أن الإسقاط هو تفسير تلك العلاقة بين الطفل وأبويه والتى تتلخص بالنسبة للبطل الأسطورى فى نبوءة تُطلِع الأب أو الأم على خطورة الابن الذى سيولد لهما ، وفى بعض الحكايات تكشف عن خوف الأب أثر هذه النبوءة من موقف الابن منه فيأمر بإبعاده بعد ولادته مباشرة .. هذا ما يفسره " رانك " بالإسقاط ، وقد لجأ " رانك " إلى هذا التفسير نتيجة لما رآه من قصور فى التفسيرات الأخرى غير النفسية بما فيها التفسير الأنثروبولوجى الذى يحتوى على قدر من الوضوح إلا أنه كان قاصرا فى نظر " رانك " .. فالأنثرولوجيون يرون ظاهرة ميلاد الطفل البطل تعبيرا كلاميا عن الطقوس يتجاوزون فيها المرحلة من الطفولة حتى مرحلة التدريب لخلوها من التجارب .. وعلى ذلك فالبطل شخصية شعائرية تستخدم أدوات شعائرية لتؤدى عملا شعائريا ، وهذه الظاهرة موجودة فى الحكاية الخرافية والحكاية الشعبية ، كما أنها موجودة فى الأسطورة .
وكان " يونج " من الذين رفضوا تطبيق نظرية فرويد الجنسية على كل الظواهر النفسية وعلى تفسير الأدب الشعبى من منطلق أن الأسطورة والحكاية الخرافية والحكاية الشعبية لا تعبر عن مشكلة جزئية وإنما تعبر عن مشكلة كلية شبيهة بكلية الكون الذى نعيشه ، وحينما حاول الانسان الأول أن يعبر عن إحساسه بالكون المهول الذى يحيط به خلق صورة مصغرة للكون الكبير ترجمها إلى أفعال وكلمات تفسر الأصل الكلى ، حيث يبدأ كل شيئ والأصل النسبى حيث يعد هو استمرار لأجداده..
ويحدد " يونج " نظريته فى" لنموذج الأصلى " وهذا النموذج ذو طابع جماعى ، أنه يعيش فى اللاشعور شأنه شأن الأحلام ذات الطابع الجماعى ، والتى يمكن أن يراها الإنسان فى كل زمان ومكان ، فهما معاً تركيبة جمعية للنفس الإنسانية تورث شأنها شأن العناصر المورفولوجية فى الجسم الإنسانى ، وكما أن هذه الأحلام تنشأ فى حالة تنخفض فيها حدة الشعور بحيث يكف عن العمل فى الوقت الذى تتدفق فيه مادة اللاشعور. فكذلك الحال مع الخيالات الأسطورية التى تنشأ عن النموذج الأصلى ، فالإنسان البدائى لا يفكر عن وعى وإنما يمكن أن نقول أن هناك شيئاً يفكر بداخله ..
وتلخص د. نبيلة ابراهيم فكرة " يونج " فى النموذج الأصلى فى أنه الطبيعة الصافية غير الفاسدة فى الإنسان ، وهذه الطبيعة هى التى تدفع الإنسان لأن ينطق بكلمات أو يقوم بأفعال لا يدرك مغزاها ، إنه الهدف الروحانى الذى يسعى إليه الإنسان ليحقق كماله وهو البحر الذى تسعى إليه جميع الأنهار والجائزة التى يغتنمها البطل نتيجة صراعه مع التنين والقوى المهولة .
ويتميز الرجل البدائى عن الإنسان الحديث فى أنه يستجيب كلية لهذا النموذج الأصلى ولذلك فهو يخشى التجديد ويرتبط كل الإرتباط بتراثه ، أما الإنسان الحديث فإنه انفصل بعيداً عن جذوره، لأنه يركز كل نشاط تفكيره فى المجال الواعى الذى تتسم تصرفاته بأنها ذات جانب واحد ، وبأنها تنحو إلى الإسراف .
وحكاية البطل منذ مولده حتى يحقق غايته إنما هى تعبير عن سيطرة النموذج الأصلى الذى يدفه الإنسان إلى الوصول إلى الكمال .
ويكون الطفل إلهاً فى الأساطير الكونية ، أما فى الحكايات الخرافية والشعبية فهو بطل إنسانى له صفات فوق الطبيعية والبطل الإنسانى الذى يكشف عن الطبيعة الإنسانية هو نموذج من الشعور واللاشعور الإنسانى ..
وما التهديدات التى تتأتى عن طريق التنين أو الأفاعى أو الأشكال المهولة إلا إشارة إلى الوعى الجديد الذى يسعى إليه الإنسانوقد سيطر عليه اللاشعور .
وقد اهتمت هذه النظريات كما رأينا بمرحلة معينة من حياة البطل وهى مرحلة الميلاد ، وفى الحقيقة فإن هذه المرحلة تعد من أهم مراحل الحياة ،ففيها تتحدد خطوط المستقبل ويتعين الطريق الذىعليه السير فيه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع :
1- د. شكرى محمد عياد ،البطل فى الأدب والأساطير،القاهرة،دار المعارف ، 1959 .
2- د. نبيلة ابراهيم ، أشكال التعبير فى الأدب الشعبى ، القاهرة،مكتبة غريب 1989 .
أهلاً ومرحباً بك عزيزى القارئ ..
أرجو ألاّ تندم على وقتك الذى تقضيه معى ، كما أرجو أن تتواصل معى وتفيدنى بآرائك ومناقشاتك وانتقاداتك ..
ساحة النقاش