أيمـــــــن تعيلـــــــب
فى مديح شيخ الأزهر الشريف فضيلة الدكتور أحمد الطيب
الأزهر الشريف نبض الضمير الجمعى المصرى
قراءة فى استعارة
(أنت تتنكر لبيت أبيك)

كشف حوار شيخ الأزهر الشريف فضيلة الدكتور الطيب عن معالم انسداد الأفق الحضاري العربي الإسلامى فى عقول معظم مفكرينا،كشف الشيخ العوار المنهحى الجذرى الكامن فى عقل المثقف المستقيل من العقلانية والحيوية بعيداً عن مقولات الفكر ، ونظريات الساسة وكلاهما شارك بصورة مباشرة حاسمة في معالم هذا التيه والانغلاق ،ساعد حوار الشيخ الجليل على تفكيك الانحباس الحضارى العربى المزمن لدى معظم مفكرينا وسياسيينا وتربويينا بين الماضي والحاضر والمستقبل،بعد أن تم تفتيت وتشتيت هوية الماضي العربى الإسلامى المجيد، لصالح نفعية نخب ثقافية وسياسية سلطوية إقصائية كل همها مصلحتها الشخصية الأنانية الضيقة وتغريب الواقع والثقافة والقيم لصالح أوهامها،مما شارك في تعتيم أفق المستقبل العربى،وجعل الواقع العربي المعاصر للأسف يعيش خارج مدار الزمان والمكان بمعناهما التاريخى الحى يعاني وحشة الاغتراب الحضاري والضياع السياسي والتخلف التربوى حتى جفت شجرة التاريخ العربى أو كادت فكل أشجار التاريخ العربى أراها عاريات من رؤاها تنتظر من يعيد إليها بهاها.

لقد تبددت فكرة الأصل التاريخي والجمعي العربى لدى معظم المفكرين العرب تحت دعاوى وهمية شكلانية،مثل محاولة التحديث العقل الإسلامى العربى بتبديد ماضيه لا الوقوف العلمى المنهجى الحى عليه،أو تجديده بالاستلحاق الفكرى بالغرب ، وهنا نسأل سؤالا: كيف يصح تحديث الأصول بجذور الغير؟ فلن نستطيع أن نستعيد قوة اتصالنا الروحي والعقلي والقيمي بأسباب أصولنا العربية الإسلامية الأولى ،إلا إذا اتصلنا بها اتصالا علميا حيا خالقا متجددا.

لقد أبان كلام فضيلة شيخ الأزهر عن خلل منهجى وعلمى جذرى فى فكر الدكتور الخشت،أبان الإمام الأكبر شيخ الأزهر أن فكرة البيت القديم ليست مجرد بيت مبنى من طين لازب ولا من حجر أصم ولا من حديد صدىء إلا فى عقول عميت عن المنهح العلمى الرصين والتحليل الفكرى الناقد،فقد أبان الشيخ الجليل ان فكرة البيت أو الأصل ليست مجرد شيئ قد انتهى أمره ويجب ردمه حتى نستطيع ان نبنى اليت الجديد،هذه فكرة مشوشة ووهمية ومغلوطة،لأن بداية بناء البيت الجديد يجب أن تكون من خلال العيش العميق المستمر فى البيت القديم حتى تخرج منه ولاتخرج عليه،مثل الابن الوليد فليس معناه أن يولد الإبن أن يتبرأ من أبيه بل معناه أن يحيا حياة مختلفة عن أبيه وان ظل موصولا به بألف سب وسبب.

هذا هو المعنى الحقيقى للولادة الطبيعية الصحية للتجديد لا الولادة القيصرية المريضة المشوهة.أبان شيخ الأزهر الجليل أن فكرة الأصول والأسس والمرجعيات الأساسية والقيم الرسخة تتعالى وتتأبى دوما على الزوال والفناء لأنها تجسد الوجه الحى الأزلى المتجدد للأمة رغم تموضعها العلمى المتجدد في أسباب الزمان والمكان والحضارة والجدل ،لقد أبان الشاعر الإنجليزى ترزياس إليوت من قبل في بحثه عن " الموهبة والتقاليد الجمالية " عن فكرة التراث أو فكرة التاريخ بقوله أن التقاليد الجمالية والمعرفية ليست مجرد زمن ماض ( وهى هنا تعنى فى كلام الخشت هدم بيت أبيه تماما والتنكر اللاأخلافى له) بل هى تعنى ديمومة زمنية تاريخية حاضرة دوما فى جسد الحاضر والمستقبل معا على الدوام، وما يقوله إليوت لا يبتعد عما قصده شيخ الأزهر الشريف من استعارته البديعة العبقرية الموفقة عندما وصم الدكتور الخشت بأنه متنكر لبيت أبيه مما يعنى أن البيتوتة التاريخية التجديدة الحقة لاتعنى أبدا كما فهم خطأ الدكتور الخشت ـــ وهو متخصص فى الفلسفة الإسلامية ــــ ضرورة هدم البيت وهجرانه من أجل بناء بيت جديد وهو تصور آلى شكلانى فج وقاصر لمعنى التجديد على كافة المستويات سواء كان تجديدا دينيا أو سياسيا أو تربويا أو أخلاقيا أو ثقافيا.

ولعل هذا المعنى العلمى الدقيق الموفق الذى عدل به شيخ الأزهر الشريف خلل فكر الدكتور الخشت يرجعنا إلى أصالة وأهمية فكرة " تأصيل الأصول " التي تخلى عنها معظم مفكرينا وسياسينا في قيادة الواقع والثقافة العربية والإسلامية، وتوجيه العلوم والمنهجيات ، استبدلوا الذى هو ادنى بالذى هو خير فصنعوا وأنتجوا أشكالا من الجدل الثقافى والإسلامى تخدم السلطة أكثر مما تخدم الواقع العربى والشعوب العربية ، وأسسوا لنا للأسف نمواً حضارياً إنشائياً معوقاً مشوها ، لم يساعدنا على طوال مئة عام من التجديث الشكلى الوهمى على خلق واقع عربى إسلامى فعلي ، لقد فضلت النخب الفكرية والسياسية والثقافية العربية أن تؤسس لصناعة الكلمات بدلاً من تأسيس صناعة الواقع ، وفضلوا الاجترار على الحوار

فضلوا اجترار التاريخ على إنتاج التاريخ ،واتهام الماضى والتخلص منه على الحوار المسؤول معه،لأنهم وجدوا أن مؤونة اتهامه اخف ثقلا عليهم من مئونة الحوار الحى معه،كان ماضيناالعربى العظيم أعظم بكثير من ضيق مناهجهم،وقصور تصوراتهم مماجعلهم يضفون على الواقع العربى أوهاماً لفظية واستعارية وإنشائية حتى أوهمونا بأننا نملك واقعنا وتاريخنا بالفعل، لكننا كنا نخادع أنفسنا وأفكارنا وواقعنا على طول قرن مضى بخداع الخطب السياسية وطنطنات عقليات التبرير الحضاري ، والإسقاط اللفظي المرضي ، حتى صرنا ظاهرة صوتية في الفضاء الثقافي العالمي كما يقال ويردد عنا زورا وبهتانا،وكان الأحق بهذه الصفة التسفيهية ان يوصف بها معظم المفكرين العرب لا الشعوب العربية ولاماضيهم الحى الخلاق.

لقد فصل معظم مفكرينا وكتابنا بين العقل والواقع،التجربة والتصور، النظرية والممارسة ،العقل والنقل،الدين والدولة،التجديد والتقليد،مما اوقعنا جميعا مما أطلق عليه هنا( التحديث الشكلانى بالطنطنة الإنشائية اللفظية ).

وهنا أتساءل هل مجرد رصف الكلمات والعبارات والمصطلحات والاستعارات يعني أننا تملكنا تاريخنا وأصولنا وواقعنا بالفعل ؟! هل الكلمات تساوي الأشياء والحياة نفسها ؟ هل المناهج العلمية تطابق تماما الموضوعات التي تتحدث وتتكلم عنها ؟ هل الفكر يساوى الواقع ؟ هل اللغة التى تصف الظاهرة تساوى تماما هذه الظاهرة؟ ،هل النظريات الفكرية هى هي الحراك الدنيوي والديني الفعلي والمعملي ؟

لقد نظر المفكر المغربي عبد الله العروي في كتابه " الأيديولوجيا العربية المعاصرة ) فوجد أن من أسباب ضياعنا الحضاري عدم وجود العقل النقدي إلى جوار العقل التنظيري ورأى مفكر مغربي آخر الدكتور عبد السلام بن عبد العالي في كتابه " في الانفصال " أن العرب المعاصرين شغلوا بنمط استنساخي من التحديث العلمي الأجوف ، وكان قدماؤنا كانوا أكثر وعياً بمفهوم التطور والحركة والتحديث من المحدثين أنفسهم ، فقد رسخ القدماء مفهومات جديدة كانت تعمل ضد ما ترسخ من عادات كما ( استطاعوا أن ينفتحوا على تيارات فكرية مجددة كان من شانها أن تحول مفهوم الثقافة ذاته وتبدل دورها في تغيير الذهنيات وتكوين أفراد قادرين على " التفاعل الناضج " مع مستجدات الواقع وتغيرات التاريخ ، ... وأدركوا أن ما يحصل لا يستمد من فحواه أكثر مما يستمدها من طرق تحصيله ، وأخذ الإدراك يسود بأن الثقافة تفاعل مع الواقع والآخر والذات ، وليست تشرباً بالنماذج وتكريساً لقيم ، وأمكنت إعادة النظر في كثير من التأويلات الراسخة والمفاهيم الجامدة بهدف إرساء أسس للثقافة لا تستنسخ النماذج أياً كان مصدرها ، ومهما ترسخت جذورها .... ولم نعد الآن نهتم بتشرب الحداثة بقدر ما أصبحنا ننشغل بالتنظير والتغني بها).

لكن مفكرينا وكتابنا وسياسينا وتربويينا وقادة الفكر في بلادنا للأسف فضلوا،التحديث بالطنطنة اللفظية،وأجلبوا علينا بمصطلحات عويصة مربكة لاعلاقة لنا بها ولاعلاقة لها بنا لا من قريب ولا من بعيد،فضلا عن استيرادهم النماذج المعرفية والمفاهيم الغربية واستنساخها فى حياتنا العربة الإسلامية دون تكييف ولاوعى ولاحوار ولانقد ولافحص،كأنهم قد نقلوا قداسة السماء التى لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها إلى طين الأرض ومايشوبها من نسبية ووهم وتحلل ونقص،إنهم أرضنوا السماء وقدسوا الأراضين،دنسوا المقدس وقدسوا المدنس وأحدثوا الخلل العظيم.أخذوا عن الغرب المتقدم بالفعل والمتسق مع بنيته التاريخية والاخلاقية والدينية الخاصة به المفاهيم والمصطلحات ورددوها بكل ـــ آسف ــ مثل قردة فوق شجرة راوا ثيابا جميلا مزركشا فى أيدى بعض المفترجين عليهم فقفزوا عليها وارتدوها ثم اختالوا فيها وهم عارون خالعون ولايدرون،كرس معظمهم أنماط القيم الاستنساخية الغربية ،وجلبوا صيغ الحضارات الأخرى في واقعنا العربي المعاصر، ليس على سبيل الحوار والتكييف والإستفادة بل على سبيل استلحاق الواقع العربى بالواقع الغربى،أو استلحاق الجديد بالقديم،أو هدم القديم والتنصل منه والتبرى منه،وبذلك فقد اعتقلونا فى صيغ فكرية اعتقادية إطلاقية تغريبية خالية من منهجية الحوار والجدل والفحص والمراجعة، حتى لنجد عندنا من يربط ربطا وهميا مباشرا بين الإسلام والاشتراكية ، ومن يقرن بين عقلانية الخوارج وعلمانية الغرب ، ومن يطابق بين عالمية الفكر الإسلامي ، وعولمة الرموز الرأسمالية الغربية وكأن العالمية الإنسانية والعولمة الاستعمارية شئ واحد ، ووجدنا من .. يجدد لهذه الأمة أمور روحها وقيمها وعقلها ومنهجها وفق أنماط الماضوية العربية أو العلمانية الغربية،أو التنكر المطلق للبيت العربى أو الذوبان المطلق فى البيت الغربى وهو لعمرى ((تجديد بالتبديد واستزراع بالاقتلاع)،

لقد غفل معظم مفكرينا أو تغافلوا عن أن جميع النظريات العلمية والأدوات المعرفية،والمفاهيم الفكرية، إن هى إلا محاولات ونظرات محدودة بحدود أصحابها وزمانها ومكانها، فلماذا نحول افتراض المحاولة إلى حق مطلق لا يريم ومن ثمة كان لابد من الوعي المنهجي الدقيق بفقه (انتقال النظريات والمناهج بين الثقافات والقيم). من حضارة إلى حضارة ، ومن تاريخ إلى تاريخ ، ومن لغة إلى لغة ، فالوعي بالنظرية أهم من النظرية ، والتفقه بمنهجية النظريات أجدى من استيعاب مضامينها ومغازيها ، والتعرف إلى عوامل الحذف والإضافة التي تعتريها حال هجرتها وانتقالها من حضارة إلى حضارة أخطر من مقولاتها النظرية وإجراءاتها المنهجية التي تتضمنها ، ومن هنا كان من اللازم إنماء قوة العقل النظري المحلي ليكون قادرا على نقد المفاهيم ، وتحرير المصطلحات حتى نستطيع تملكها بأنفسنا لا بعقول الآخرين .لكن مفكرينا ومعظم قادة الفكر لدينا فضلوا نمطاً خاصاً من التحديث ،ومالوا إلى لون منعزل من التفكير ، فآثروا تحقيب الواقع الحضاري العربي لصالح الخطابات الفكرية الغربية ليس على سبيل الجدل والفحص والحوار والانفتاح،بل على سبيل التكريس والنقل والاستنساخ والذوبان حتى لنجد عندنا هذه الكثرة الفاشية من مصطلحات التفكير بصورة غربية فى واقع عربى غريب الوجه والملامح والسمات وكأن مصطلحاتنا أنبياء بني إسرائيل التى توازي كثرتهم ضخامة أخطاء شعوبهم حتى لقد تشابه البقر المصطلحى علينا.

نجد ذلك مثلاً لدى كثير من مفكرينا مثل: نصر حامد أبو زيد ، وفؤاد زكريا ، وحسن حنفي ،ومحمود أمين العالم،وسمير أمين،وأنور عبد الملك، وزكى نجيب محمود،ومحمد عابد الجابرى،ومحمد أركون، وغيرهم. وليس المجال هنا متاحا حتى أقيم الدليل تلو الدليل على أهمية ما أقول. نجد لدى معظم هؤلاء من يفصل فصلاُ متعسفاً بين سلطة وعي الليبرالي ( أحمد لطفي السيد ) وسلطة وعي الشيخ ( محمد عبده ) . وسلطة وعي التكنولوجي ( سلامة موسى ) من أجل إعادة صنع القرار الحضاري العربي.

لقد فرق مثلا المفكر المغربي عبد الله العروي في كتابه " الأيديولوجيا العربية المعاصرة " بين هذه الأنماط الثلاثة من الوعي ودورها في تحريك النهضة العربية المعاصرة ،ثم أقصاها جميعا ورشح نمطا واحدا منها فقط وهو وعي الليبرالية ليكون هو المحرك الوحيدلازمة الواقع العربى

ولعل كل هذا يصور لنا أزمة الترنح الثقافى والشقاق المعرفى والقيمى بين معظم المفكرين العرب،كما يجسد لنا أزمة الفكر والمفكرين العرب وإن تركزت خطوطها الكلية عبر شقين رئيسين تم التعبير عنها فى الفكر العربى المعاصر غالبا بثنائية: التراث والحداثة، أو الأصالة والمعاصرة،أو القديم والجديد ،إلى غير ذلك من التسميات التى كثيراً ما تتردد على ألسنة المفكرين العرب ،ولعلَ المأزق التاريخى والثقافى الذى يعيشه الواقع العربى المعاصر هو الوجه العملى لهذه الأزمة والذى يتجسد فيما نراه يوميا فى حياتنا العربية من هزائم سياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية وحضارية متلاحقة،وما يجره كل ذلك من خلافات ثقافية، وانقسامات سياسية لا تنتهى، فالواقع العربى لم يدخل بعد مرحلة المجتمع الإسلامى المدنى وما يتطلبه من الاعتماد على الذات والمشاركة الحرة الفعالة فى الحضارة العالمية المعاصرة، فالواقع العربى المعاصر غير قادر على استعادة ماضيه المجيد وما يشكله هذا الماضى من روح حية متجددة، وغير قادر على الدخول إلى رحاب المعاصرة ومايتطلبه ذلك من مسؤوليات فكرية جسام،ومن ثمَ فالواقع الثقافى العربى مصاب بعدم القدرة على التجانس فى الزمان ووحدة التاريخ

لقد اعتقد كثير من المفكرين العرب المعاصرين أن الحضارة الغربية هى الحضارة الوحيدة للعصر " ولكن الانتظام فى حضارة الآخر بالكلية قد أدى الى الاغتراب الثقافى والحضارى الذى نعيشه الآن على كافة المستويات، لأن الذوبان فى الآخر سواء كان الآخر الماضى العربى أو الآخر الحضارى الغربى يعنى ذوبان الذاتية وضياع الحرية والقدرة على النقد.ولقد عاش الإنسان العربى جراء هذا الاغتراب خارج نطاق ذاته الإسلامية، عاش كائنا غير تاريخى مفصول عن جذوره وروحه وقيمه وتاريخه، ضائع بين حداثة تغريبية مقيتة تستلب ذاتيتة، وبين استسلامية تستلب إبداعيتة وحضور فى واقعه الحى ، وبهذه المثابة فقد ضع المفكرون العرب المعاصرون ـ العقل العربى أمام مفترق طرق فكرية واجتماعية وقيمية متناقضة،فقد تصوروا التحديث عبر صورة ثقافية اغترابية قلقة وغليظة تترواح بين منطق متصلب ( إما ـ أو ): فإما الحفاظ على الذات مع التخلى الكامل عن الحضارة والتاريخ والفاعلية ، وإما الانخراط بالكلية فى الحضارة الغربية والذوبان فى العولمة العالمية التجريدية والتخلى التام عن الذات والقيم والدين، وعلى الرغم من استحالة هذه التصورات على المستوى العلمى والمنطقى والعلمى،لكن هذا ما حدث بالفعل!!وقد تضافرت كل من العوامل الداخلية والخارجية على ترسيخ الأزمة واستفحالها واستمرارها إلى الدرجة التى جعلت واقعنا العربى الإسلامى لا يسجل أى تقدم حقيقى فى أية قضية من قضاياه منذ أن ظهر فى شكل خطاب يبشر بالنهضة ويدعو اليها حتى هذه اللحظة التى تنكر فيها الدكتور الخشت لبيت أبيه.

الخطاب الفكرى العربى للأسف أشبة بجزر فكرية مشوهة متناقضة متناثرة يفتقد التصور المتكامل الحى حياتنا الثقافية لا تنطوي فى مجموعها على تصور محدد للوجود الإنسانى ، ولا على معنى تصور واضح للتقدم المنشود ، إذ يفتقد واقعنا إلى الهدف الثقافى المحدد،والاتجاه الواضح المشترك،إن مجتمعنا العربى شديد التمزق انتقالى منكفئ على جذوره ، سلفى تقليدى مما يزيد من ضبابية الرؤية وغموضها فى هذه المجتمعات،وافتقادها القدرة على الاتساق والتجانس والتميز ولعلَ ذلك يجرنا إلى التساؤل عن الأسباب العديدة التى أدت بالواقع العربى المعاصر الى هذه الأزمة المقيتة؟

لقد كانت عودة الوعى العربى إلى تراثه لاستعادة هويته عودة غير صحية لدى معظم مفكرينا وعلى رأسهم الدكتور الخشت رئيس جامعة القاهرة،وكلنا شاهدنا مدى التعارض والتخليط والمصادرات والإقصاءات فى كلام الدكتور الشخت،وقد شاب هذا الوعى غير قليل من البعد عن التحليل الموضوعى لتراثه وحاضره الإسلامى والعربى،إن أفكار الدكتور الشخت وغيره ممن يفكرون على هذه الشاكلة التغريبية تعرب عن تصورات متناقضة مرتبكة مشوشة،ولعل كلمة شيخ الأزهر التى وجهها إليه بأن يجب أن يكون كلامك يادكتور مدروسا ومعدا بطريقة علمية دقيقة لم نعيها الوعى الدقيق أو لم نعيها كما يجب لأنها تعنى الكثير والكثير إنها تعنى ففيما تعنى أن يجب على المفكر قبل أن يتكلم أن يكون صاحب عقل نقدى ناضج،وان يكون صاحب معاناة فكرية حقيقية مع تراثه وتراث الاخرين،يعنى الا يكون الموضوع سلق بيض،مما يجعل أفكاره وتصوراته مرتبكة مشوشة ضحلة غير ناضجة،يجب أن يكون الكلام معدا فى القلب والعقل من قبل،يجب أن نكون قادرين فعلا على امتلاك قناعات إسلامية فكرية منهجية وحقيقية قادرة على الحوار والتعدد والوعى الحر الأصيل،حتى نعى إسلامنا وتراثنا وعيا صحيا موفقا،لكن للأسف كان وعى جل مفكرينا ـــ لا أقصد الدكتور الخشت أن يكون مفكرا بالضرورة ــــ ومنهم الدكتور الخشت كان يحركها الهاجس الايديولوجى،والرؤية الفكرية المتحزبة المنغلقة.

ولعلَ هذا الحوار البديع الذى أدراه شيخ الأزهر الجليل مع الدكتور الخشت يبين عن عور فكرى ومنهجى جذرى فى عقول معظم من يفكرون على هذه الشاكلة المشوشة المرتبكة فى ديننا وتراثنا واخلاقنا وماضينا وحاضرنا ومستقبلنا.كما يبين عن أزمة الحضارة العربية المعاصرة عبر وجهيها التراثى والحداثى،ولعل عمق الأزمة هنا يكمن فى عقول المثقفين وليس فى الواقع العربى نفسه،مما يؤكد هذا المأذق التاريخى الذى يقسم الوعى العربى المعاصر بين تجديد زائف وتقليد واهم،ويبعده تماما عن خلق هويته الإسلامية والعربية الخاصة به من حيث أن الهوية التاريخية الصحية المنسجمة هى ذلك النسق القيمى المعرفى المتسق مع ذاتة من ناحية ، ومع متطلبات واقعة المعيشى بكل ما يمثله من مؤسسات من ناحية ثانية، ذلك النسق الذى يعد الإطار القيمى المرجعى لمحددات الفكر والسلوك،النظرية والممارسة.ومن ثم فالحضارة العربية المعاصرة مازالت مغتربة عن هويتها الإسلامية الجمعية ومازال الوعى العربى المعاصر مصطرعاً بين تجديد أشبه بالتبديد وتقليد أشبه بالمسخ والهوان

للأسف إن معظم تياراتنا الفكرية المتعارضة والمتناقضة من دينية وقومية وليبيرالية واشتراكية لم تستطيع أن تحقق أهدافها الحقيقية الصحية فضلاً عن تخليق وتطوير نسق قيمى معرفى إسلامى مدنى متسق قادر على تشكيل إطار إسلامى معرفي كلي متجانس للحضارة العربية الإسلامية المعاصرة - وقد عمق كل ذلك من حدة الأزمة إذ خلَق فى حياتنا أنساقاً فكرية وقيمية متناقضة منفلتة ومشوشة انتقلت بالواقع ومن يعيشون فيه إلى مزيد من الإحساس بالاغتراب والحيرة والبلبلة.ولعل الدلالة الدقيقة الرائعة الكامنة فى استعارة شيخ الأزهر الدكتور الطيب عندما وصم حياة رئيس جامعة القاهرة بأنه متنكر لبيت أبيه، قد هجر بيته وتنكر له وهو لون أقرب للتنصل من البيت والهوية،كانت استعارة شيخ الأزهر دالة ودقيقة ونافذة ولعلنا لم نقف أمامها بصورة علمية منهجية لنعطيها حقها من الفهم والمعنى والدلالة.وكأنه يذكرنا بعظمة الدلالة القرآنية فى الآية الكريمة فى سورة الفرقان:(وقال الرسول يارب إن قومى اتخذوا هذا القرآن مهجورا) هذه بالتحديد تتوضح بدقة دلالة الهجران التى كشف عنها فضيلة شيخ الأزهر الشريف هجران بيت الروح والخلق والتراث والماضى بوصفهم بيتا عامرا دافئا خلاقا قادرا على الحياة الطيبة المتجددة والإقامة الحية المستقبلية،تماما كما قال شيخ الأزهر للدكتور الشخت يجب عليك يادكتور ألا تهدم بيت أبيك إذا أردت أن تجدده بل يجب عليك أن تعيد بناءه من جديد بصورة عصرية.

كم شتت مفكرونا وكتابنا وسياسيونا ومفكرونا وتربويونا بيتنا العربى الإسلامى العريق تحت دعاوى علمية وهمية ومزاعم منطقية وعلمية تضليلية،كم ارتكبت جرائم فى حق العلم باسم العلم نفسه،وكم تم تأسيس الجهل باسم العلم نفسه،وماتفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم،وشتان بين علم الحق وعلم البغى؟! مالكم كيف تحكمون؟.

كم مزق معظم المثقفين العرب بيتنا العربى القديم وكم أفرز هذا الفصل التعسفي غير المنهجي وغير العلمي بين الماضى والحاضر ،القديم والجديد،التجديد والتقليد،النقل والعقل صوراً متناقضة فى الوعي العربى الحضاري المعاصر،مما أعاقنا عن أى نمو طبيعى فعال،فتت ومزق معظم المثقفين العرب مكونات الروح والعقل العربى فجعلوا المعقول فى مواجهة اللامعقول،والنقلى فى مواجهة العقلى،والدينى فى مواجهة المدنى،أى فصلوا فصلا متعسفا وكاذبا بين البرهانى والعرفانى والبيانى فى العقل العربى.مما سهل من بعد المهمة للجبروت السياسي أن يمارس مهنته الديكتاتورية بامتياز فكان الكهنوت الثقافى هو كتيبة الاستطلاع الحربى للتمهيد للجبروت السياسى،أسس جل المثقفين بطغيان البيان طغيان الدولة الديكتاتورية العربية.وفتتوا وشتتوا مكونات الوعي العربى الواحد ، حتى بغى بعضها على بعض،وأقصى بعضها البعض الآخر وتفرق الفكر والمفكرون طرائق قدداً يتناحرون ولايلتقون،يتصارعون ولايختلفون، مؤكدين هذا التنافر والتحارب لا التعدد والثراء ،حتى تجد السلفى فى مواجهة المدنى،والعقلانى فى مواجهة العرفانى،والماركسى فى مواجهة الرأسمالى، والدينى فى مواجهة الدنيوى،وكلها أوهام مثقفين لاحقائق دين،ولادنيا، وللأسف ساعدت كل هذه الصور التشتيتية والتجزيئية للفكر المغلوط إلى تعدد أنماط الصراع لا الحوار فى الوعي واللغة والثقافة مما مزق البيت الواحد والكل الحي الواحد وحوله أشتاتا متصارعات،يستبعد بعضها بعضاً، ويعمل بعضها بمعزل عن البعض الآخر،ويصادر بعضها البعض.

ولو قمنا بعملية رصد علمى أمين لأنماط الوعي الحضاري العربي لدى معظم المفكرين العرب المعاصرين في القرن العشرين لوجدنا أشتاتا متنافرات من أنماط الخطاب الفكري والاجتماعي والديني والسياسي والجمالى أسسها المثقف العربى فعملت في معظمها على تشتيت البيت لعربى والواقع العربى وتغريب هويتنا باسم بالتحديث اللاجدلى الأجوف الفارغ من حيوية الماضى وروح التاريخ وعبق البيت القديم ،لأن جل مثقفينا نفوا التاريخ باسم التاريخ،ونفوا الجدل الحى بالجدل الشكلانى الأجوف،وأسسوا للجهل بالعلم،وغربوا الدين و اللغة،وخلقوا هذا الارتباك المنهجي والمعرفى في النظر والممارسة،مما أجَّل الشهود الحضارى والتاريخي العربى الإسلامى فى الحيياة المعاصرة وشتت الفعل العربي وأغلق أفق الحياة.وجلعنا لقمة سائغة فى أفواه ذئاب العالم والرأسمالية العالمية المتوحشة. للأسف قدمونا ضحايا بامتياز للأمم الاستعمارية الحديثة،فكان معظم هؤلاء المفكرين والسياسيين هم الكهنوت الثقافى الذى مرر الجبروت السياسى فى بلادنا،سامحهم الله!!!!

ماذا كان يضيرهم مثلا لو عرفوا بديهية علمية بسيطة للغاية وهى أن الفكر أى فكر قد جاء من أجل الواقع لا العكس،لكنهم لم يدركوا حتى هذه الحقيقة البسيطة التى يدركها رجل الشاعر العادى،لقد كان الشارع أكثر وعيا من المشرع،والرجل العادى أكثر استقامة فكرية من سلوك كثير من المثقفين،ولعلنا لانعجب هنا إذ حول معظم المفكرين العرب المعاصرين قضية التجديد الدينى والحضارى والسياسى والتربوى كما فعل الدكتور الخشت وغيره من رجالات الفكر من اتجاهها الصحيح إلى الاتجاه الخطأ ، فبدلاً من أن يقود الواقع الحى الفكر المجرد، فضلو مفكرونا خطأ ووهما أن يقود الفكر المجرد الواقع الحى،فحكموا على الواقع بلافكر ولم يتركوا الواقع يحكم على الأفكاروتناسوا أن الأفكار – أية أفكار – مهما كانت دقيقة وعلمية ومنهجية هي مجرد وجهات نظر يثبتها صدق الواقع أو يعدلها أو ينفيها فهى فى النهاية مجرد محصلات فكرية تجريدية تتفاوت في دقتها ومدى علميتها وصلاح منهجيتها حسب الظروف القيمية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية للواقع الذي جاءت من أجله الأفكار.

يقول المفكر على حرب بخصوص (إشكالية المفكر) فى كتابه الهام (أوهام النخبة أو(نقد المثقف) (إن من يشتغل فى ميدان التفكير، وتكون مهمته إنتاج الأفكار، ومشروعيته تمثيل سلطة أصل الفكر، فإن إشكاليته تكمن فى أفكاره بالدرجة الأولي، أي تتجسد فى مأزق الأفكار نفسها،أو فى عجز المقولات عن تفسير ما يحدث ، ولهذا فالذي يمارس علاقته بفكره بصورة حية خلاقة ، ليس هو الذي يحرس أفكاره من الوقائع المباغتة، بل هو الذى يدخل على مقولاته بطرح أسئلة الواقع والحقيقة … ومن هنا خطورة الفكر وأهمية فى آن : فهو يحجب بقدر ما يكشف،ويقيد بقدر ما يطلق).

فما أبهاك ياشيخنا الجليل شيخ الأزهر الشريف إذ تقيم عوج مفكرينا المنهحى،وترد خللهم الإداركى،وتقيم وزن تطفيف مكيالهم الفكرى حتى تعيدهم إلى بيتهم العربى الإسلامى الفذ الذى هجروه من سنين طويلة. وما أحلى عودة الابن الضال إلى أبيه. فويل للمطففين الذين يكتالون على ماضى أجدادهم جهلا وعدوانا.

اللهم يارب الضالة ارجع معظم مفكرينا إلى بيوت أجدادهم الحيية الخلاقة آمنين مطمئنين وردهم ردا جميلا إلى اصول دينهم ومنطق هويتهم الأصيلة المتجددة وبراح تراثهم الفذ العميق مجددين خالقين مبدعين من جديد.

 

https://www.facebook.com/ayman.tealip/posts/2907078412660639

https://www.facebook.com/ayman.tealip/posts/2907078412660639

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 126 مشاهدة
نشرت فى 24 يونيو 2020 بواسطة sabryfatma

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

337,315