الإمام الأكبر عباءة الأمة وعمامة الإسلام
للأستاذ الدكتور: محمد فكري الجزار

أستاذ ورئيس قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب بجامعة المنوفية، ورئيس تحرير مجلة فصول السابق 

بسم الله الرحمن الرحيم "أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ*الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ*لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" (سورة يونس- 64،63،62) صدق الله العظيم... لا أجد أكثر مناسبة من هذه الآيات الكريمة للحديث عن الإمام الأكبر شيخ الأزهر مولانا الأستاذ الدكتور أحمد محمد الطيب. ولسوف يتوقف تاريخ الأزهر بل تاريخ الإسلام طويلا أمام شخصية شيخ الأزهر مولانا الإمام الطيب. هذا النموذج الرفيع لخدمة الإسلام ومؤسسته الدينية بلا مقابل في عصر كاد المال أن يكون إلها يعبد من دون الله... سيتوقف طويلا أمام شخصية مولانا الإمام الطيب هذا الزاهد المتواضع الذي لم يتغير شيء في حياته وهو يتقلب بين المناصب الدينية الرفيعة مفتيا ثم رئيسا لجامعة الأزهر الشريف وأخيرا شيخا له... سيتوقف طويلا أمام هذا الشيخ الصلب الذي واجه ويواجه أعتى هجوم، ليس على الأزهر الشريف، وإنما على الإسلام نفسه بتحريف معاني آياته، والتشكيك بصحيح حديثه، وأخيرا إهانة علومه الشرعية والزعم بكونها تراثا غير ملزم لغير عصره ويجب تجديده معرِّضين وكذبوا، في هذا وذاك، بمسئولية هذا التراث عن إرهاب المتطرفين... وقف مولانا ضد كل هؤلاء، وبعضهم مسئولون في الدولة المصرية، ليقينه بانتفاء العلاقة بين الدين وعلومه وبين ما أصاب المنطقة العربية والعالم من الجماعات الإرهابية، ولإيمانه أن وسطية الأزهر هي حائط الصد الأقوى على الإطلاق في هذه المواجهة. نعم، سيتوقف التاريخ طويلا أمام شخصية مولانا الطيب العالم العامل الزاهد المتواضع الورع التقي النقي الذي لا تأخذ منه في دين الله لومة لائم، فكان بحق "عباءة الأمة وعمامة الإسلام"، علم من علم، وجهل من جهل. وقد ذكر أحد الصالحين من أهل الكشف أن مشيخة الأزهر الظاهرية تابعة باطنيا لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تبعية مباشرة وتحت نظره الشريف. ولقد نقلت كلامه بتصرف، فتعبير الرجل الصالح أكثر صراحة ووضوحا عن المعنى الذي عبرت عنه بلفظ لا يخلو من كناية تحسبا من إنكار المنكرين وخشية عليهم هم أنفسهم من إنكارهم. وهذا القول (الكشف) من العبد الصالح، يوضح أن الأزهر الشريف، بعلومه وعلمائه ومشيخته، هو النواة الصلبة لهذا الدين الحنيف، وأن أقدار الله في الأزهر الشريف هي هي أقداره في الدين الذي ارتضاه لخلقه، متلازمين تلازما لا انفكاك له حتى يقضي الله في هذه الحياة الدنيا أمرا كان مفعولا. وما ظنك بمجرد مسجد جامع أنشأه الشيعة الفاطمية فلم تجاوز شهرته بلده الذي أقيم فيه، ثم قيض الله له الظاهر بيبرس فأظهره بمذهب أهل السنة والجماعة، فصار مصنع العلماء ومحل نظر الأولياء ومقصد العارفين حتى طبق ذكره الآفاق وامتدت مظلته إلى غالبية الأقطار الإسلامية التي أتى أبناؤها إليه فأكرم وفادتهم وأحسن تعليمهم حتى عادوا إلى بلادهم مبشرين ومنذرين، لا يذكرون مصر إلا بأزهرها، ولا يذكرون الأزهر إلا بمصره، فمن ذا الذي ينكر هذه القوة الناعمة العالمية التي يمثلها الأزهر وتمتلكها مصر!! فهل من مصلحة مصر أن يتسامع هؤلاء بأن العلوم الشرعية التي تعلموها يقال فيها الذي يقول العلمانيون المصريون. وماذا تكون الصورة الذهنية لمصر عند هؤلاء!! ولمصلحة من نحرم أنفسنا من القوة الناعمة العالمية التي نملكها!! والسؤال: هل يستطيع العلمانيون أن يواجهوا بفكرهم وفلسفاتهم هذه الجماعات المتطرفة؟ وإن أجبتم نعم، فأين نتائج هذه المواجهة وقد كنتم دائما الأعلى صوتا والأكثر نفيرا!! الحقيقة أن أولئك العلمانيين لو تمكنوا من الأزهر الشريف، لاستفرد الفكر المتطرف بعوام الناس في رد فعل منهم على علمانية لا يقبلونها، وهم الذين يحكمهم الدين في مختلف مناشط حياتهم... فهل هذا ما تريدون!! ولو أن الدولة أطاعت هؤلاء العلمانيين وانتصرت لهم ولرؤيتهم لهزمت نفسها بنفسها في المعركة مع الإرهاب. سؤال آخر هل أوجع الإخوان المسلمين موقف العلمانيون منهم أم أوجعهم وقوف الأزهر الشريف إلى جانب الشعب في (30 / 6) فنالوا منه وتهجموا على مقام مشيخته، وما يزالون. وخرج أحد كبارهم من حملة الألقاب ليمثل بتجديد التراث والخطاب الديني بتجديد البيت القديم المتهدم، ولو كان لهذا التجديد محتوى في عقولهم لأحسنوا التمثيل، ولم يضعوا أنفسهم موضع السخرية التي نرفضها في حقه ونرفض أن يضع نفسه في هذا الموضع صيانة له... إن هؤلاء الذين يتحدثون في تجديد أصول الدين لا يعرفون عما يتكلمون، ولا يفرقون في كلامهم بين ما هو من اللغة بعامة وما صار منها اصطلاحا شرعيا، ومن ثم يلقون بالكلمات على ما في كلامهم عنها من علل قادحة في فهمهم لها ودينهم، وهكذا حال أغلب المطالبين بالتجديد، لا يدرون شيئا عن محتوى ما يطالبون بتجديده، فإذا ألجأناهم إلى ما لا يعرفون، انصرفوا إلى الحديث عن التطرف الديني، وحتى في هذا الموضوع لا يعرفون موقف الخطاب الديني الموروث المحرِّم لكل ظواهر التطرف في الفكر كما في السلوك، والأدلة الشرعية من القرآن والسنة على هذا الموقف، وصدق الله العظيم: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ". ماذا يخفي هؤلاء؟ الحقيقة أنهم يخفون خلف كلماتهم الخداعة فكرا يذهب إلى أن العلوم الشرعية ليست علوما وإنما آراء، وأن مقاصد الله عز وجل في آيات القرآن الكريم، حتى أحكامه وأوامره ونواهيه، لا يمكن لأحد الزعم بالإحاطة بها، وأن كل ما في كتب التراث مجرد تأويلات شخصية وإن تواطأت عليها الأمة. إنهم يريدون إسلاما متعددا بعدد المسلمين، يكون فيه لكل شخص إسلامه الخاص به، لا يسأله عن خطأ فهمه أحد، ولا يلزمه بفهم آخر أحد. إسلام ما بعد حداثي، حيث الحرية الفردية المطلقة التي تقف نصوص الدين وعلومها دونها، فأما النصوص فيزعمون استحالة معرفة مقاصدها، وأما علومها فمجرد آراء شخصية تلزم أصحابها. والسؤال، إذن، ما الذي سيجمع هؤلاء؟ ببساطة، سيجمعهم ويضبط حركتهم في الحياة والكون المصلحة الشخصية تحت مظلة القانون، أما الدين فبينك وبين خالقك إن كنت تعتقد وجوده وبحسب فهمك لوجوده. ما لا يعرفه هؤلاء، أو يعرفونه، أن دينا لا يخلق أمة لا يمكن أن يصدر عن إله، فهذه تصورات أقرب للإلحاد منها إلى أي شيء آخر، أو هو "دين جديد" لم يرسل الله به نبيا، ولم يكتشفه الناس الذين عاشوا خدعة النص وعلومه، طوال ما يقرب من قرن ونصف، واكتشفه أطفال ما بعد الحداثة وعيال النظام العالمي الجديد. ثم يريدون من الأزهر الشريف أن يعطي توقيعه على هذا الدين بأنه الإسلام، بل اٌلإسلام الحق، أو يطالبون برأسه!! والله، إنها لَفتنة دونها كل الفتن... وهل يخفى على المسئولين السياسيين في مصر، أن وراء هذه الدعوات محاولة لزعزعة استقرار البلاد، وزرع الفتنة الدينية بين أغلبية مواطنيها، فهذا مؤيد وذاك معارض، وللمؤيد حججه الدينية، وللمعارض ما يردده من أقوال أولئك الخبثاء. وبدلا من أن تنشغل الدولة بمواجهة إرهاب المتطرفين الدينيين تسندها وسطية الأزهر، تنشغل بهذه الفتنة الجديدة فتتوزع جهودها، وربما فقدت إسناد الأزهر الذي كان يحوز لها إجماع المسلمين المصريين دائما. إن الواجب على الدولة ومسئوليها أن تؤدي الوظيفة المنوط بها أداؤها بحماية مواطنها من التهيدات الفكرية والخلقية، وأن تقدم الدعم القوي ماديا ومعنويا للأزهر الشريف وتفعِّل دوره في حياة الناس لينشر وسطية الإسلام وأخلاقيات الإسلام وسماحة الإسلام. وعليها وأن تضرب على يد من يهزون الصورة الذهنية في ضمير المصريين للأزهر الشريف وعلومه ومشيخته، وألا توفر لهم أية مساحة لنشر خُبثهم وخَبَثهم بين الناس، لا أن يشكو مولانا الإمام الطيب بأن الفضائيات لا تسمح للأزهر بالرد على ما يثيره مشبوهون من آراء خاطئة وقضايا لا غاية من ورائها إلا ابتغاء الفتنة... وبعدُ، فإن من الدين النصيحة لولاة الأمر من مسئولي الدولة المصرية، واقول لهم لا تهزموا أنفسكم في الحرب على الإرهاب فكرا وأفرادا، فإن الأزهر الشريف بما يمثله من سلطة روحية هو أمضى أسلحتكم فيها على الإطلاق. للتطرف معنيان وليس معنى واحدا كما يشيع، فالإفراط تطرف والتفريط تطرف كذلك، وبين الإفراط والتفريط تكون الوسطية. وإذا قلت وسطية، لم ينصرف الذهن إلى سياسة ولا اجتماع ولا فلسفة، وإنما انصرف بكليته إلى الدين ومؤسسة وسطيته الأزهر الشريف. ونظرا لما تواجهه مجتمعاتنا العربية من إرهاب دموي يرفع شعارات دينية، وللمواجهة التي تخوضها دول المنطقة ومنها مصر، فقد كان طبيعيا أن يكون الأزهر الشريف ضد هذه الظاهرة لخروجها على الوسطية الدينية التي يمثلها بعلومه وعلمائه ومشايخه على طول تاريخه. وقد أتفهم أن تحاول الدولة استدراج الأزهر الشريف إلى موقعها السياسي في تلك المواجهة، غير أني أتفهم أكثر أن يرفض مغادرة موقعه العلمي بحكم وظيفته، وبنفس قوة رفضه الإرهاب بحكم وسطيته. وهكذا صارت وسطية الأزهر الشريف هي عين أزمته الآن، إذ يتهمه الإرهابيون بالخروج على الدين كما يفهمونه، ولا تبرؤه الدولة من التقاعس في تلبية مطالبها منه في حربها عليهم، دون أن تفهم أن مواجهة الأزهر الشريف لظاهرة التطرف الديني لها أصول وضوابط مستقرة ومستنبطة من العلوم الشرعية، ولا يستطيع أن يحيد عنها وإلا خرج عن وسطيته... ونتيجة منطقية، صار الأزهر الشريف في مرمى سهام الفريقين كل يستفزه عن علوم الشريعة. أما الإرهابيون فموقفهم لا يؤلم مسلما فمنه يتوقع كل شر. أما الألم الحقيقي فلا يحدثه إلا موقف الدولة وبعض المنسوبين إليها... ولست أزهريا، ولكن موقفي الوطني والديني يجعلني لا افهم كيف غابت الفطنة عن الدولة فشغلت الأزهر الشريف عن الرد على المتطرفين والإرهابيين ليدافع عن نفسه أمام اتهاماتها!! وكيف جعلت علوم الشريعة وعلماءها- وهي سلاحها الأمضى في معركتها ضد الإرهاب- غرضا لانتقاداتها!! وما هذه الدعوى الفارغة من أي مضمون لتجديد الخطاب الديني ترددها جماعة ممن لا علم لهم بشرع الله تعالى ولا بالعلوم التي نشأت حولها، بل أكاد اقول وإن كثيرا ممن يتبنونها من العلمانيين الذين لا يرون في الدين إلا مجرد منظومة قيمية وأخلاقية. أفي هذه المرحلة الأكثر حرجا في تاريخ الوطن والأمة تظهر هذه الدعوى وأمثالها!! ولمصلحة من إحداث انشقاق في الصف الوطني في وقت كان الإجماع أولى أم أن يكون وراء الأكمة ما وراءها!! ومن ذا الذي يقوم بتجديد الخطاب الديني إذن، وقد جعلوا المؤسسة الوحيدة القادرة على هذا غرضا لسهامهم!! هل يقوم بها من لم يعرفه أصلا!! ... لقد كان من واجب الدولة المصرية التي تواجه كما قلنا أخطر مراحل التطرف الديني المسلح والمدعوم من القوى العالمية والإقليمية أن تدعم الأزهر الشريف، وأن تحفظ الصورة الذهنية له علوما علماء ومشيخة عند جموع الشعب المصري والشعوب المسلمة كلها ، فالحرب مفتوحة على مساحة العالم كله، ولا تملك الدولة المصرية مؤسسة دينية عالمية مثل الأزهر الشريف تحارب المعركة الفكرية معها ضد هذا الفكر فيكمل معركتها الأمنية مانحا إياها الشرعية الدينية.

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 121 مشاهدة
نشرت فى 24 يونيو 2020 بواسطة sabryfatma

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

332,080