النذير الفصيح الجامعة
قراءة ذاتية في سيرة الدكتور مصطفى السواحلي
للدكتور/صبري أبوحسين
تجمعني بالزميل الحبيب الدكتور: مصطفى السواحلي علاقة خاصة، قدر الله تعالى لها أن تكون مُثاقَفةً غيرَ مباشرة، وعن بُعدٍ: هاتفيًّا أو إلكترونيًّا، غالبًا، وحينًا تكون مثاقفة حيةً مباشرة في لقاءات لَحْظيةٍ خاطفةٍ! وهي قائمة على حب وإعجاب مني لشخصه الجامع عقليًّا بين العلم والأدب والموسوعية العلمية، والجامع ذاتيًّا وسلوكيًّا بين الشخصية المؤدَّبة المهذَّبة اللطيفة الخفيفة والصريحة الثائرة الحادَّة، والطموحة الجسورة المقدامة. بارك الله فيه وزاده في قولة الحق كل توفيق وسداد ونصر.
وقد بدأت العلاقة بيننا بأننا من جيل واحد: جيل السبعينيات، ذلك الجيل الذي لم تصبه كل التغييرات العشوائية في التعليم بعدئذٍ: جيل السنوات الأربعة في مرحلة الثانوية الأزهرية، جيل الكتب التراثية والأزهرية الأصيلة، جيل العام الدراسي الكامل! جيل امتحن في القرآن الكريم كاملًا في مرحلة الإجازة العالية وسنتي تمهيدي الماجستير، وفي مرحلة الدكتوراه من خلال كلية أصول الدين بالقاهرة! إنه جيل يمثل ثمرة أخيرة من ثمار التعليم الأزهري الموروث، يخرج فيه الطالب مؤسسًا على أصول التوحيد وقضايا العقيدة، ومزوَّدًا بأجزاء تحليلية من تفسير القرآن الكريم وعلومه، ودارسًا شروحًا لعدد من نصوص الحديث النبوي الشريف ومصطلحه، ومتقنًا أبواب علم الفقه كاملةً، ومُحمَّلاً بعلوم العربية الأساسية: علم الإملاء كاملاً، وعلم النحو كاملاً، وعلم البلاغة كاملاً، وعلم الصرف كاملاً، وعلم العروض كاملاً، ومطلعًا على نصوص أدبية فذة لكبار كتاب العربية قديمًا وحديثًا، كل هذه العلوم على يد صنف عظيم مخلص مصلح بناء من الشيوخ الجهابذة الكبار، إضافة إلى عصر كان يؤمن أهله من آباء وأمهات ورعاة ودعاة، ونخبة وعامة، بقيمة العلم، وضرورة التعلم، ويرى أثر ذلك اجتماعيًّا وماديًّا في العلماء والمتعلمين حوله، حيث كانت النظرة الغالبة أنَّه:
بالعلم والمال يبني الناس ملكهمُ لم يُبنَ مُلكٌ على جهل وإقلالِ!
فخرج منه الدكاترة: علاء جانب، ومحمود الفوي، وضياء حمودة، وخالد الدسوقي، وأحمد الشناوي، وعصمت رضوان، وأسامة العدوي، وأحمد حسين، وكاتب هذه السطور، إضافة إلى الصحفي اللامع بمؤسسة أخبار اليوم الحبيب الأستاذ رأفت الكيلاني... وغيرهم.
فمَن مصطفى السواحلي الذي يستحق هذا اللقب (النذير الفصيح الجامعة)، المبالغ فيه جدًّا في نظر القارئ العَجِل، حيث الجمع بين الدعوة النُّصْحِية التحذيرية، والفصاحة الأدبية، والتجميع الثقافي المتنوع تنوعًا عجيبًا؟!
تجيب هذه الصورة القلمية لهذا النموذج البشري الفائق:
مهادٌ ريفي
إنه مصطفى محمد رزق السواحلي، المولود في السابع والعشرين من شهر يوليو سنة 1970م، في قرية حصة شبشير، بمركز طنطا، في محافظة الغربية. ولقبه (السواحلي) لقب شائع في محافظات مصرية مختلفة، ودول عربية عديدة، بل تنسب إليه اللغة الرسمية لدول الساحل الشرقيِّ لإفريقيا، ويطلق عليهم اصطلاح الإقليم السواحليّ؛ حيث يتميَّز هذا الإقليم بثقافة وحضارة خاصَّتين تختلفان عن ثقافة الأجزاء الأخرى من القارة الأفريقية، وتبدأُ الحدود الجغرافية لهذا الإقليم من المدن الساحليَّة في شرقي الصومال وتمتدُّ جنوبًا حتى دولة موزمبيق، حيث تتبع إليه شواطئ وجُزرٌ تعودُ إلى ست دولٍ حديثة، ومُعظم السواحليِّين يعتنقون الديانة الإسلامية، وذلك لتأثّرهم الكبير بثقافة المُهاجِرين العرب والمسلمين الذين امتزجوا مع سُكَّان الإقليم منذ العصور الوسطى، وقد كانت اللغة السواحلية تكتبُ بالحرف العربيِّ حتى عام 1907م، وهي متأثرة بالعربيَّة تأثرًا كبيرًا بدلالة اسمها، وتُشكِّلُ المفرداتُ العربيَّةُ أكثرَ من ثلثها، ناهيك عن حكم العرب للجُزُرِ المقابلة لها "زنجبار"، التي ظلَّتْ تحت حكم سلطنة عمان حتى عام 1964م. ولعل هذا اللقب (السواحلي) راجع إلى أحد الأجداد الذين قدموا من السواحل في مصرنا الحبيبة، أو ربما من إحدى دول الساحل الشرقي لأفريقيا: تنزانيا وما حولها.
وقد أشار (الدكتور مصطفى) في بحث من أطرف بحوثه بعنوان: (السيجة حفريات في التاريخ واللغة) إلى أصله الأول من جهة والده، قائلاً:" والبحث له قصة طريفة؛ فقد كان المقر الرئيس للسيجة في قريتنا في بيت جدي، رحمه الله. وقد أدركت ثلاثة أجيال من اللاعبين: جيل الكبار الذي كان فيه جدي، والشيخ عبد الوهاب شاهين والأستاذ محمد بدير أبو هاني. رحمهم الله جميعًا. وجيل الوسط الذي كان فيه والدي رحمه الله والكبار من أعمامي ونفر من الأقران وهو أقوى الأجيال احترافًا إذ كانوا ربما يسهرون حتى الفجر. وجيل الصغار الذي كنت فيه وأصغر أعمامي: عبد الحي ونصر الدين -رحمه الله- الذي كان عمي وزميلي في الفصل. وعندما كتبت بحثًا مطولاً عن عمي وشيخي الدكتور أحمد السواحلي رحمه الله بعنوان: أي نجم أفل؟ أشرت في المقدمة إلى جلسات السيجة التي كان أحد فرسانها، وكان على الأعراف؛ فربما صعد مع الكبار لكنه كان لا يلعب مع والدي مطلقًا؛ حياءً منه لأنه أخوه الأكبر وهو الذي كان ينفق عليه، وربما نزل مع الصغار فلعب مع أخويه الصغيرين، لكني لم أكن ألعب معه حياءً أيضًا". وقد كان جده هذا راوية للمواويل الساخرة، يطارح بها الناس ويسامرهم!
فنحن أمام أصل ريفي قروي أصيل، يعيش الحياة سهلة، فيملأ وقت الفراغ بلُعبة شعبية، تجمع بين الأجداد والآباء والأحفاد، مع وجود الآداب المَرْعية والأعراف المُرْضية بين الصغار والكبار، ومترجمنا غراسهم ونسلهم.
أما عن أصله من جهة أمه فهي من عائلة (السواحلي) أيضًا، ولكنها نشأت يتيمة، فتربَّت في كنف واحد من أفاضل عائلة بدران بعدما تزوج أمَّها، وقد أشار إلى ذلك في مقاله عن وداع الأستاذ عصام بدران، قائلاً: "ذَلِكُمْ هو الحسيبُ النَّبيلُ عصام بدران، الَّذِي نُسِلَ من مُصاهرةٍ فريدةٍ بين كُبْرَى عائلاتِ حصَّة شبشير "بدران"، وكُبْرَى عائلاتِ سبرباي "الخُولي"، وقدْ قَضَى طفولَتَهُ وصَدْرَ شبابِهِ في رحابِ القَريةِ في طَرفِها البحريِّ فيما يُشْبِهُ أنْ يكونَ وَقْتَئِذٍ ضاحيةً أرستقراطيَّةً خاصَّةً بتلكَ الأُسْرَةِ النبيلةِ، لا تشبعُ عينُكَ مِنْ بَهائِها، ولا أنْفُكَ مِنْ عَبَقِ أَزْهارِها. وقد قضيْتُ جُلَّ أيامِ طُفُولَتِي في تلكَ الضَّاحيةِ لَصِيقًا بهم؛ لأنَّ جدَّتِي لأمِّي "سِرِّيَّة" تزوجَّتْ عمَّه الأكْبر "توفيق" رحمهما اللهُ تعالى، فنشأتْ أمِّي الـمُبَاركةُ الَّتِي لم ترَ أباها الحقيقيَّ هناكَ، رَبِيبةً لِعَمِّهِ الَّذِي لم تعرِفْ سواهُ أبًا، كما أنَّني لم أعرِفْ سواهُ جَدًّا، والَّذِي كان مثالًا للكَرمِ والصَّلاحِ ونَقاءِ السَّرِيرةِ؛ ومِنْ ثمَّ توطَّدَتْ علاقَتِي بالأقْرانِ مِنْ أبناءِ هذا الفرعِ النَّبيلِ، وعلى رأسِهم الفقيد عصام وإنْ كانَ يكبُرُنِي بنحوِ عَشْرِ سَنَواتٍ.
اصطفاء أزهري:
لم يكن في قرية (مصطفى) معهد أزهري ابتدائي، فتلقى تعليمه الابتدائي الأولي في التعليم العام، حتى الصف الخامس، ثم تيسر له الانتقال إلى التعليم الأزهري الشريف عن طريق مسابقة القبول التي كان يمتحن فيها الطالب المتقدم في القرآن الكريم كاملاً، وبعض مبادئ المعارف الأساسية في الإملاء والحساب والعلوم والتاريخ والتربية الإسلامية، فاجتازها بتفوق؛ لينتقل إلى الصف الأول الإعدادي الأزهري مباشرة، ، ثم أتم حفظ القرآن الكريم وأتقنه، وهو في سنِّ الثانية عشرة من عمره، وبدأ رحلته مع هذا التعليم الأصيل الماتع الساطع الصادع، فكان الحدث الأبرز المبشر بنبوغه ونباهته، وهو الحصول على الشهادة الإعدادية الأزهرية عام 1984م، وكان ترتيبه الأول على مستوى جمهورية مصر العربية، وقد نشر هذا الخبر في جريدة الأهرام وأجرت جريدة (النور) حوارًا معه آنذاك، وكان من المنطقي آنئذٍ أن يدخل (مصطفى الطالب) القسم العلمي، حيث كليات القمة من طب وهندسة! لكن حدث حادث آخر صرفه عن هذا القسم، وهو أن عمه -الدكتور أحمد السواحلي (ت2003م)، رحمه الله تعالى، والذي كان يكبره بثماني سنوات- قد عين في تلك السنة معيدًا في كلية اللغة العربية بالمنصورة، وكان أول معيد يعين بالقرية، وكان هذا حدثًا كبيرًا، وكانت وظيفة (المعيد) وقتئذ ذات بريق لا يوصف! فحدث ضغط إيجابي على (مصطفى الطالب) من قبل الوالد والعم لدخول القسم الأدبي، ليكون مثل عمِّه، وقد كان! وهذا العم أكبر من تأثر به الدكتور مصطفى في رحلته التعليمية؛ فقد كان يصحح عليه ألفية ابن مالك وروائع الشعر ويسمعها عليه، حتى أتمَّ حفظ الألفية في المرحلة الثانوية، وسمعها عليه بيتًا بيتًا، وبابًا بابًا، كما كان يشرح له بعض غوامض النحو والصرف ومبهماته، وكان يعقد له امتحانات صعبة في المقررات العربية، لا تقل عن امتحانات الكلية آنئذٍ!
وهذه المُكْنة من ألفية ابن مالك قراءة وحفظًا وفهمًا جعلت (مصطفى الطالب) في موقف غريب من زملائه، يقول بلديَّه الأستاذ عبد الفتاح سالم المحامي بمنطقة الغربية الأزهرية: بعدما عُيِّنتُ بالأزهر حكى لي شخص محترم، تولى منصب موجه عام اللغة العربية، قال: حينما كان مدرسًا بالمرحلة الإعدادية كان يحدث شجار بينه وبين زملائه المدرسين عند توزيع الفصول بداية العام؛ هربًا من الفصل الذي به أستاذنا الدكتور مصطفى السواحلي، فسألته عن السبب! قال لي ضاحكًا: يا أستاذ! طالب قادم إلينا من المرحلة الإعدادية حافظ ألفية ابن مالك ماذا سنعمل معه تجاه أسئلته التي كانت تحرجنا أمام زملائه؟!".
كما أن عم (مصطفى الطالب): الدكتور أحمد-رحمه الله- صنع به صنعًا تعليميًّا عجيبًا، حيث أخذ منه شرح ابن عقيل المقرر عليه في سنوات الثانوية الأربع، وأعطاه بدلاً منه ستة كتب نحوية من مطبعة الحلبي، جلدها له في مجلد واحد، هي: شرح ابن عقيل وبهامشه شرح السيوطي للألفية، ثم شرح شواهد ابن عقيل للشيخ عبدالمنعم الجرجاوي، وبهامشه شرح آخر لشواهد ابن عقيل للشيخ قطة العدوي، ثم كتاب إعراب الألفية للشيخ خالد الأزهري، وبهامشه كتاب موصل الطلاب إلى صناعة الإعراب للشيخ خالد الأزهري، فكان (مصطفى طالب الثانوية) يسيح في هذه الشروح والحواشي، وكأنه فرد من أفراد تراثنا العتيق لا سيما في العصر المملوكي، فكان يقرأ الدرس وبيت الألفية في شرح ابن عقيل، ثم ينتقل إلى شرح السيوطي، ثم إذا أرد إعراب البيت نظر فيه عند الشيخ خالد الأزهري، ثم الشيخ قطة العدوي، ثم الشيخ الجرجاوي، وهكذا صار عنده شرحان للألفية، وشرحان لشواهد ابن عقيل، وإعراب لأبيات الألفية، ثم كتاب يعلم صنعة الإعراب، ومن ثم استغنى (مصطفى الطالب) عن أية مذكرات خارجية في علمي النحو والصرف!
وقد كانت عشرته وصحبته عمه الراحل ذات أثر في بناء ذاكرته اللغوية، إذ كان عمه يُعِدُّ رسالة للماجستير في تخصص أصول اللغة عن لهجة الحجاز في تاج العروس للزبيدي، فكان يقرأ معه هذا التاج أضخم المعاجم العربية، كما تعرف على شخصيات وآثار أساطين هذا التخصص في جامعتنا لا سيما الدكتور عبد الغفار هلال، والدكتور محمد حسن جبل!
وطبعي أن يكون تأثير في (مصطفى الطالب) من شيوخ معهده، وهم عدد من الأساتذة الفضلاء الذين لا ينسى فضلهم وأثرهم، من أبرزهم أستاذان كبيران: الأول معلم العربية الأستاذ (السيد رجب عتمان) ابن قريته، الذي تدرج في الوظائف القيادية بالمعاهد حتى وصل إلى منصب مدير التعليم الابتدائي بمنطقة الغربية، وقد درسه النحو والصرف ثلاث سنوات متتاليات لم يغب فيها إلا حصة واحدة، وكان معروفًا بالدقة والنظام والحزم. والثاني معلم العلوم الشرعية الأستاذ إسماعيل حمامة الذي حصل على درجة الدكتوراه فيما بعد، وقد درس لـ(مصطفى الطالب) التفسير، وكان أعجوبة في البلاغة والنصاعة، لا ينطق في الشرح إلا بعربية صحيحة فصيحة، وكان يقف على رجليه طول الحصة، لا يفتر في الشرح ولا يكل منه! ينتقل بالطلاب بين آيات القرآن تبيينًا وإعرابًا نحويًّا وتوجيهًا صرفيًّا وبلا غيًّا، مع استنباط لدروس تربوية وعبر وعظية!
ويشير (الدكتور مصطفى) إلى تكوينه داعيةً وخطيبًا، حيث كان الجيل السابق من الأزاهرة الذين على رأسهم عمه يدربونهم على الخطابة، ويوزعونهم على المساجد في العزب المجاورة وهم في المرحلة الثانوية، وقد أشار إلى ذلك في صورة قلمية رسمها لأحد رواد ذلك الجيل هو الشيخ يوسف شلبي رحمه الله، والذي وصفه بـ(مُجَدِّد لَا مُبَدِّد)، فقال: "كانَ عَلَمًا مُفْرَدًا في أوَّلِ جيلٍ أزهريٍّ مُتَمَاسِكٍ مِنْ أبناءِ القريةِ، فأثمرَ تماسُكُهُم المسابقةَ القرآنيَّةَ التي جاوزتِ الأربعينَ عامًا اليومَ، فضلًا عن فصولِ التقويةِ المجانيَّةِ، وصُحُفِ الحائطِ، وتَنَاوُبِ الخطابةِ في المساجدِ، وقد كُنْتُ مُقَرَّبًا جِدًّا إليهمْ؛ لِمُلازمَتِي عَمِّي، رحمه الله، الذي كانَ واسطةَ عِقْدِ ذلكَ الجيلِ، والذي كانَ أسْبَقَهُمْ إلى الدارِ الآخرةِ، كما أنَّني رأسُ الجيلِ التالي، وقدْ كُرِّمْتُ مِرارًا على أيديهمْ في شَتَّى المسابقاتِ التي كنتُ فيها صَاحِبَ القِدْحِ الـمُعَلَّى، كما تَدَرَّبْتُ على الخطابةِ وأنا في المرحلةِ الإعداديَّةِ في تلكَ الغُرفةِ العتيقةِ المملوكةِ للفقيدِ، والتي ما تزالُ ماثلةً إلى اليومِ، فقد اتخذْنَا مِنْ شُبَّاكِها الهائلِ مِنْبرًا، ومِنَ الأقرانِ مُسْتَمِعينِ، ومن الجيلِ السَّابِقِ مُحَكَّمِينَ ومُوَجِّهِينَ، وفيها كانَ الخُطَباءُ المتطوِّعُونَ يُوَزَّعون على مساجدِ القريةِ والعِزَبِ المجاورةِ، وقدْ كَلَّفَوني بأداءِ أولِ خطبةٍ للجمعةِ وأنا في الصفِّ الثَّاني الثانويِّ، ومنذُ ذلكَ الحينِ وأنا أمارسُ الخطابةَ بانتظامٍ لا يَعُوقُنِي عنَهْا إلا سفرٌ أو عُذْرٌ قاهرٌ، ولا أنْسَ أنَّهمْ أشركوني معهم في الاختباراتِ مُـمْتحِنًا بُعَيْدَ أنْ كُنْتُ مُـمْتَحَنًا، وعندما ظهرتْ نتيجةُ الثانويَّةِ الأزهريَّةِ قال لي الفقيدُ حَرْفيًّا: لقدْ آنَ الأوانُ أنْ تَتَسَلَّمُوا الرَّايةَ منَّا، فنحنُ اليومَ بينَ مُـجَنَّدٍ في الجيشِ، ومُسافرٍ في الخارجِ، وموظَّفٍ في مكانٍ بعيدٍ، ومُنْشَغلٍ بأمرِ الزَّواجِ، فقبِلْتُ مُغْتَبِطًا، وحملْتُ الرَّايةَ مع أبناءِ جِيلي لأكثرَ من عشرِ سنواتٍ، فما بَدَّدْنَا، بَلْ جَدَّدْنَا!".
وكل هذا بلا ريب أثمر منه الطالب المتفوق على جميع أقرانه وأترابه؛ فقد حصل على الشهادة الثانوية الأزهرية عام 1988م، وكان ترتيبه الأول على مستوى جمهورية مصر العربية. وهذا كان الحدث الثاني الأبرز في مسيرة مصطفى السواحلي!
مصطفى في الجامعة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد هذا التفوق في الثانوية الأزهرية كانت رغبة (مصطفى الطالب) في تخصص القانون بكلية الشريعة والقانون؛ حتى يلتحق بالسلك القضائي: وكيلاً للنيابة، ولعله كان يطمح أن يكون قاضيًا فنائبًا عامًّا فوزيرًا للعدل! وغير ذلك من أحلام المراهقة، وخيالات الشاب الطموح في الحصول على المناصب العالية أدبيًّا وماديًّا وتأثيرًا!
ولكن والده وعمه -رحمهما الله – ما فتئا يزهدانه في هذا الطريق المحفوف بالأشواك، ويرغبانه في طريق عمه، فالتحق بكلية اللغة العربية بالمنصورة سنة 1988م، وخلالها ظل تفوق (مصطفى) على أقرانه، حتى حصل شهادة الإجازة العالية (الليسانس) من كلية اللغة العربية بالمنصورة عام 1992م، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، بترتيب الأول على الدفعة في جميع السنوات. وقد اتصل بكبار الأساتذة خلال رحلته التعليمية هاته، لا سيما الدكتور محمد رجب البيومي، الذي عشقه مبدعًا، وعشقه باحثًا، وعشقه مثقفًا، فكتب عنه بحثًا بعنوان: (أصداء المعري في شعر البيومي)، والدكتور محمد أحمد العزب، الذي يعد من أحب الناس إلى قلبه، وله مواقف طيبة معه، ويراه أفضل شاعر وأفضل ناقد في تاريخ جامعة الأزهر بلا مثنوية! والدكتور محمد حسن جبل، ذلكم العلم الأزهري الأبرز والأكثر تأليفًا في تخصص أصول اللغة بجامعة الأزهر، والذي اتصل به (مصطفى الطالب) عن طريق عمه في المرحلة الثانوية، ثم كانت له به صلة وثيقة في مرحلة الجامعة، وصلت إلى أنه كان يعيد نسخ مخطوطات كتبه بخطه الجميل! ومنه كتابه فقه اللغة الذي قرر عليه في السنة الرابعة بالكلية!
وتظهر في شخصية (مصطفى الطالب) خلال رحلته التعليمية بالأزهر الشريف جامعًا وجامعة نبوغه في النشاط الثقافي في مجالات الإذاعة المدرسية بمعهد طنطا لعدة سنوات، ومنذ الصف الثاني الثانوي أصبح المسؤول عن الإذاعة في معهد طنطا، ذلكم المعهد الذي له مكانة تاريخية معروفة، وكانت له كلمة دورية بالإذاعة كل ثلاثاء، ينتظرها الأساتذة قبل الطلاب، وكان الأساتذة يتربصون بلسانه، ويتنافسون فيمن يوقفه على أي خطأ لغوي! حتى صار نجمًا معروفًا من كل من انتسب إلى هذا المعهد وسمع الإذاعة خلال سنواته السبع به! وهذا بلا ريب أخرج منه مالك اللسان الفصيح النصيح المبين!
وكذا كان ديدن (مصطفى الطالب) في المسابقات العلمية، على مستوى معهده ومنطقته الأزهرية، وعلى مستوى كليته فجامعته، بل على مستوى جامعات مصر والوطن العربي، حين كانت تقام معسكرات دولية لشباب الجامعات تابعة لوزارة الأوقاف! وإني شاهد على ذلك، فقد نافسته مرتين في مسابقة الطالب المثالي على مستوى جامعتنا، وكان هو المجلِّي لا المُصَلِّي! وما دخل مسابقة في معسكرات أبي بكر الصديق الدولي خلال سني الدراسة الأربعة إلا كان الأول فيها!
ودليل ذلك حصوله على العمرة مكافأة مرتين، وحصوله على جائزة الطالب المثالي لجامعة الأزهر -على مستوى الجمهورية – في العاميْن الدراسييْن: 1990/1991م، 1991/1992م، واستعانة مشرفي النشاط الثقافي في الجامعة به ليمثلها في ملتقيات الشباب الجامعي بمصرنا المحروسة غير مرة، واختياره ممثلًا شباب الجامعات في أسبوع التآخي المصري الليبي بطرابلس عام 1994م، وحصوله على عشرات شهادات التقدير في مسابقات القرآن الكريم والشعر والبحوث من جامعة الأزهر، ووزارة الشـباب والرياضة، ووزارة الأوقاف، ومؤسـسة (اقرأ) السعودية الخيرية بالقاهرة، والرابطة العلمية لخريجي الأزهر بالقاهرة. ولا أملك إلا أن أقول له:
دُمْ فَاعِلًا تُحييْ صَدَارَةِ أُمَّةٍ *** مَرْفُوعَ نفْسٍ، رَاسِخَ الأَسلوبِ
وكما علمنا بدأت رحلة (مصطفى الطالب) مع الخطابة منذ المرحلة الإعدادية تدريبًا، والثانوية ممارسة حرة، وظلت هذه الممارسة خلال الجامعة في مساجد القرية والعزب المجاورة، ثم لما انتقل إلى القاهرة صار خطيبًا مفوهًا محترفًا، معروفًا، يفد إليه الجمهور من كل فج وصوب وحدب! وكانت مرحلة الخطابة الانتظامية هذه من مراحل التزود العلمي والثقافي الماتع النافع، الذي أخرج من شخصه ما أسميته أو لقبته به: (الجامعة) أي ذلكم الشخصي الموسوعي الذي يمتلك من كل علم وفن بطرف، امتلاكًا تجده عند محاورته في ذاكرته، وفي مخطوطات خطبه القلمية، وعلى لسانه، وقد ظهر أثر هذا التزود في سلسلة مقالاته الفيسية العجيبة الخصيبة التي يقبل عليها جميع الأطياف والأجيال من مُريدِيهِ، الذين وجدوا فيه ضالَّتَهمْ، فاستأمَنُوهُ على حُدودِ هُوِيَّتِهمْ، ووَثِقُوا في يَقَظَتِهِ ودِرَايتِهِ، واطمأنُّوا إلى أصالَتِهِ واستنارتِهِ، فتلقَّوا مقالاته ومقاماته وصوره القلمية تلقيًّا عقليًّا وتمتعًا أسلوبيًّا! حيث يجدون في هذه المقالات الفيسية من صحيحِ النَّقْلِ وصريحِ العقلِ، ومن الإبداع وحسن البيان وضرب الأمثال وربط الماضي بالحاضر مع حسن الأسلوب وإمتاعه، والرؤية اللحظية والفورية والشمولية للأحداث والماجريات، على مستوى القرية، أو الوطن، أو الأمة، أو الكون!
مصطفى الباحث:
التحق (مصطفى) في مرحلة الدراسات العليا بتخصص الأدب والنقد، خارجًا عن جلباب عمه، تاركًا تخصصه! ليحصل على سنتي تمهيدي التخصص (الماجستير)، وبعد انتظار عامين متتاليين اختير (مصطفى) للعمل معيدًا في قسم الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بالقاهرة في: 21/2/1995م؛ نظرًا لاعتماد الجامعة حينئذ على عقد مسابقة التعيين بين أوائل الكليات على مستوى الجامعة بفروعها: القاهري والبحري والقبلي، وكانت بعض الكليات دقيقة-وإن شئت فقل شحيحة- جدًّا في التقييم، وكان بعضها كريمًا جدًّا في التقييم! فحدث هذا التأخر في التعيين لنابغة لمّا تجد الجامعة بمثله!
وقد حصل على درجة التخصص (الماجستير) في قسم الأدب والنقـد من كلية اللغة العربية بالمنصورة عام 1998م، في موضوع (ابن جني ناقدًا) بتقدير: ممتاز. وقد طالعت نسخة من هذه الرسالة في مكتبة أخي الأستاذ الدكتور محمود الفوي، وكان ذا صلة بالدكتور مصطفى قبلي! فوجدت قلمًا خاصًّا وعقلا فذًّا في أعطاف البحث: مقدمة فتمهيدًا ففصولاً فخاتمة، ولا عجب في ذلك فهذا البحث يدور حول واحد من أعظم العقليات اللغوية في العالم العربي والإسلامي خلال القرن الرابع الهجري، وهو ابن جني، وهدفه بيان جهوده في ميدان النقد الأدبي . ويقع هذا البحث في أربعة فصول يسبقها تمهيد وتعقبها خاتمة. ويدور التمهيد حول عصر الناقد من النواحي السياسية والاجتماعية والعلمية، وفيه خلُص (الباحث مصطفى) إلى أن الانهيار السياسي لا يلزم عنه بالضرورة تخلف علمي، بل على العكس قد يكون الانهيار السياسي سببًا من أسباب النهضة العلمية، باعتبار العلم هو الأمل الوحيد في الخلاص، وقارب النجاة في محيط الأزمات. ودار الفصل الأول حول ابن جني ومكونات شخصيته النقدية، وفيه فصل (الباحث مصطفى) حياته من المهد إلى اللحد، ووقف أمام مكونات الناقد الأدبي فيه، وأهمها: ـ أصله الرومي إذ تتمتع العقلية اليونانية بالمنطقية والتنظيم وإجادة الجدل. ـ اعتناقه الفكر الاعتزالي الذي يمجد العقل؛ لأنه أهم أدوات إفحام الخصوم. وصداقته الحميمة لأكبر شعراء العربية بلا منازع أبي الطيب المتنبي. ودار الفصل الثاني حول تراث ابن جني النقدي ، حيث تناثر النقد الأدبي عنده في سائر مصنفاته، سواء اللغوية مثل كتابه الفريد في فقه اللغة (الخصائص)، وكتابه المتميز في علم الأصوات (سر صناعة الإعراب)، أو كتبه النحوية مثل (المنصف في شرح تصريف المازني ) و (المحتسب في توجيه شواذ القراءات) أو شروحه للشعر مثل شرحه لأشعار الهذليين، وتفسيره لمشكلات الحماسة، وشرحه أرجوزة أبي نواس، لكن أهم مصادره في مضمار النقد الأدبي هو شرحه لديوان المتنبي سواء الشرح الكبير المسمى (الفسْر) أو الشرح الصغير المسمَّى (الفتح الوهبي) وذلك لما يلي : أنه أول من شرح الديوان، وكل من جاءوا بعده أخذوا منه أو ردوا عليه. ـ ومن مكونات الناقد أيضًا أنه كان صديقًا للمتنبي، وقد قرأ عليه الديوان وناقشه في كثير من القضايا، وضمنه أكثر ما روي من شرح المتنبي لشعره. ـ أنه أول من رصد كثيرًا من القضايا المهمة مثل: المعاني المكررة، والجرأة النفسية والكافوريات. ودار الفصل الثالث حول قضايا النقد الأدبي في فكر ابن جني، حيث تعرض ابن جني في كتاباته لأكثر قضايا النقد الأدبي المطروحة في عصره مثل: الرواية وتحقيق النصوص، والسلامة اللغوية، وموسيقى الشعر، والقديم والجديد، واللفظ والمعنى، والسـرقات الأدبية، والفن والأخلاق، والتجربة الشـعرية، وقد اتسمت معالجة ابن جني لهذه القضايا بالحيادية والموضوعية.
ومن ثم عُيِّن (الباحث مصطفى) مدرسًا مساعدًا بقسم الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بالقاهـرة في: 26/3/1999م.
ثم اختار موضوع (المتـنبي في الأدب والنقـد الأندلسيّ) ليسجله في قسم الأدب والنقد من كلية اللغة العربية بالقاهرة، للحصول على درجة العالمية (الدكتوراه) في الأدب والنقد، تحت إشراف العلامة الأستاذ الدكتور: السعيد عبادة، العضو السابق باللجنة العلمية الدائمة لترقية الأساتذة والأساتذة المساعدين، وعضو هيئة كبار العلماء حاليًا.
ويهدف هذا البحث (المتنبي في الأدب والنقد الأندلسي) إلى جلاء صورة من صور العلاقات الثقافية بين جناحي العالم الإسلامي في المشرق والمغرب، وذلك من خلال التطبيق على أعظم شعراء العربية بلا منازع أبي الطيب المتنبي، وكيف كان صدى شعره في الأندلس، سواء في الجانب الإبداعي، أو الجانب النقدي. ويقع هذا البحث في أربعة فصول يسبقها تمهيد وتعقبها خاتمة. ويدور التمهيد حول معيار الأندلسيَّة، حيث عرض (مصطفى الباحث) آراء العلماء في قضية النسبة، وخلص إلى أن الأَنْدَلُسِيَّ هو من قضى في الأَنْدَلُس مرحلة التكوين الفكري والثقافي؛ فاكتسب النسب إلى ترابها، وتغذى بلبان ثقافتها، وأَلِفَ نمط تفكيرها، وإن رحل عنها. ويدور الفصل الأول حول وصول شعر المتنبي إلى الأندلس، وفيه إشارة إلى الرحلات المتبادلة من وإلى الأندلس، بالإضافة إلى حركة نقل الكتب بين المشرق والمغرب، ورصد للروايات التي تقطع بسماع الأندلسيين بالمتنبي وإعجابهم بشعره، وتفصيل للرواة الذين نقلوا شعره إلى الأندلس، وأسانيدهم في رواية ديوان المتنبي. ويدور الفصل الثاني حول عناية الأندلسيين بشعر المتنبي أسبابها ومظاهرها، وفيه وقف الباحث أمام ضرورة تثقف اللاحق بثقافة أدبية واسعة، وقد ولى الأندلسيون وجههم شطر المتنبي باعتباره من أفضل شعراء العربية إبداعًا، وأكثرهم تمجيدًا للبطولة وحفاوة بالعروبة، وظلوا مهتمِّين بشعره حتى نهاية دولة الإسلام بالأندلس، بحيث يجزم الباحث بأنه لم يكن هناك شاعر مشهور أو عالم مذكور إلا له معرفة بشعر المُتَنَبِّي، وقد تجلى هذا الاهتمام في: ـ تناقل روايته ؛ حيث ظل الحفاظ يروونه بأسانيد متصلة حتى غروب شمس دولة الإسلام بالأندلس . ـ والإقبال على شرحه؛ حيث رصد الباحث تسعة شروح أندلسية للديوان كاملاً أو لبعض قصائده، ثم بين منهج أصحابها في شرحهم. وكثرة التمثُّـل بشعره في المواقف المختلفة، والاستشهاد به على شتى القضايا؛ إذ وجدوا فيه ضالتهم؛ لأنه ترجم عن عواطفهم وآمالهم وآلامهم، وأرضى أذواقهم الفنية بهذا البيان الرائق، والإبداع الفائق. وتشبيه شعرائهم به من أمثال: ابن هانئ، والرمادي، وابن دراج، وابن عمار، وأبي الحسن بن الأستاذ، وأبي طالب عبد الجبار، وابن قزمان، وغيرهم. ويدور الفصل الثالث حول تأثير المتنبي في الإبداع الأندلسي حيث تأثَّـر المبدعون الأَنْدَلُسِيون بشعر المُتَنَبِّي تأثرًا واضحًا؛ إذ أكثروا من تضمين شعره، وتناول معانيه، ومعارضته، واستدعاء شخصيته، وهم في هذا بين رجال ثلاثة: أديب مبدع نجح في سبك العبارة القديمة في النص الجديد، فتفاعلت معه تفاعلاً حميمًا يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وأديب ناقل لم ينجح في السبك بين النصين، فظهر النص المستعار كالرقعة في الثوب، ومهم من أفسد المعنى الجميل الذي أخذه بسوء فهمه له وعدم تمكنه من أدوات الفن لديه. ويدور الفصل الرابع حول المتنبي في النقد الأندلسي، وفيه عالج الباحث أهم القضايا النقدية التي طرقها الأندلسيون الذين نقدوا شعر المتنبي في شروحهم أو رسائلهم، وأهمها: ـ التوثيق والضبط؛ حيث كثرت الاختلافات في رواية الديوان بسبب: تباين أحوال الرواة، والتصحيف والتحريف، والتعصُّب، والتنقيح، والنحل، والتمثُّـل. والاختيارات الأدبية؛ حيث فرض شعر المُتَنَبِّي نفسه على المختارات الأَنْدَلُسِية من القرن الخامس وحتى نهاية القرن الثامن الهجريين، مؤكِّـدًا امتداد نفوذ الثقافة المشرقية بالأَنْدَلُسِ، واحتفاظ شعر المُتَنَبِّي بِجِدَّتِهِ، وإرضائه كل الأذواق. والموازنات النقدية؛ حيث اهتم بعض النقاد بالموازنة بينه وبين غيره، وبخاصة ابن السيد البطليوسي في شرحه المختار من لزوميات أبي العلاء، حيث وازن بين الرجلين كثيرًا، وإن كانت العقليَّـةُ الأَنْدَلُسِيَّةُ لم تتمخض عن أي كتاب في الموازنة بين المُتَنَبِّي وغيره، اللهم إلا رسالة: (روضة الأديب في التفضيل بين المُتَنَبِّي وحبيب) لابن لبَّال الشريشي، لكن صاحبها أفسدها بالانحياز التام لأبي الطَّيِّبِ، والتواري خلف الأحكام النظرية العامة البعيدة عن التطبيق. ـ والتأثر والتأثير؛ حيث بحث الأندلسيون ما أسماه القدماء السرقات الأدبية، ولكنهم لم يفرطوا فيها إفراط المشارقة، ولعل السبب في ذلك أنَّ الأَنْدَلُسَ لم تشهد صراعًا بين أنصار المتنبي وخصومه، ذلك الصراع الذي يسُلُّ سيف السرقات للتجريح، وإنما عرفت الأَنْدَلُسِ المتنبي عالَمًا فنيًّا يسبي العقول ويمتع الألباب. والتجربة الشعرية؛ حيث بحث النقاد عناصر التجربة الشعرية، وقد جرى أكثرهمِ على أن الشعر كلام موزون مقفى يدل على معنى، وأغفلوا التخييل الذي هو أهم خصائص الشعر، ولولاه لصار الشعر نثرًا تقريريًّا جافًّا، باستثناء ابن حزم الظاهري وحازم القرطاجني. وجاءت الخاتمة لتجلي أهم النتائج التي توصل إليها الباحث وأهم توصياته.
وبالفعل حصل باحثنا على درجة العالمية (الدكتوراه) في الأدب والنقد من كلية اللغة العربية بالقاهرة عام 2002م في هذا الموضوع (المتـنبي في الأدب والنقـد الأندلسيّ) بتقدير: مرتبة الشرف الأولى مع التوصية بطباعة الرسالة على نفقة الجامعة وتداولها بين الجامعات. ومن ثم عُيِّن (الباحث مصطفى) مدرسًا في قسم الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بالقاهرة في: 7/5/2003م.
وهكذا قدر الله - تعالى- لحبيبنا (مصطفى) أن يعيش في رسالتيه العلميتين مع أعظم شخصيتين في اللغة العربية وآدابها: ابن جني عبقري اللغة، والمتنبي إمبراطور الشعر العربي في كل الأعصار والأمصار! فضلاً عن التراث الأندلسي النضير، منقطع النظير!
مصطفى المنطلق:
بعد هاتين الرحلتين الشاقتين والشيقتين (الماجستير والدكتوراه) انطلق (الدكتور مصطفى) في الدراسات الأدبية والنقدية المتنوعة أصالة ومعاصرة، وقدمًا وحداثة؛ فقد تسنَّم ذروة اللغة وارتقى سلم الأدب، وصار ذا شأو كبير في عالم الدعوة والأدب والنقد، ومن الذابِّين عن الإسلام والتراث ومن حُماة الضاد، ضد الغازين والمأجورين والتائهين! وقدَّم مسيرة كفاح وعطاء مشرقة ومشرفة في الداخل والخارج.
يقول الدكتور السيد أبو شنب- زميل الدكتور مصطفى ورئيس قسم الأدب والنقد في كلية اللغة العربية بالقاهرة الآن-: "الحق أقول: إننا في حالة المكتوب عنه أمام نمط خاص فريد بين أقرانه، نمط تتنشي منه عبير الشيخ شاكر في اتساع علمه، ودقة تعبيره، وجودة قراءته وتعليقه وتحقيقه، وتلمح فيه أقباسًا من جِدِّ السعيد عبادة واحتشاده وصرامته ورصانته ووقوفه مع الحق مهما كلفه ذلك، تجد فيه غير قليل من اعتزاز بذاته مع كثير من إخبات وتواضع، ومع ثقافته الغزيرة المتنوعة في العربية والإنجليزية يتسم بذوق مرهف، وإحساس متوقد، وملكة ممتازة في درس النص الأدبي والحكم عليه؛ مما جعله يأتي في مقدمة أبناء جيله علمًا وأدبًا ونقدًا، وهو مع ذلك شاعر مجيد مبرز، وداعية خطيب مفوه، وحكيم مِدْره مُحنَّك... ولولا شجاعة تحدث عنها الكاتب لتلقفته الكراسي الوتيرة...سئلت في محفل كبير عن علمه قريبًا فقلت: " لو لم يكن له إلا خواطر دار السلام لكفاه.. فكيف به وقد أبدع الأسفار تأليفًا وتحقيقًا، وهز أعواد المنابر بجياد خطبه ودرر دروسه، والأهم من ذلك أن له مواقف تشهد له بالقوة والشجاعة وعلو الهِمَّة ورباطة الجأش... بقي أن أذكر أني شرفت بقراءته بعض أبحاثي وكنت أفرح بثنائه عليها، وأستجيب لنقداته الفذة التي لا تصدر إلا عن ناقد حصيف...
وقد كثرت أبحاثه العلمية المحكمة المنشورة، وكتبه المطبوعة، وتنوع مكان نشرها بين مجلة علمية، ومؤتمر دولي، وكتاب علمي، وكتاب دراسي، في مصر، والسعودية، والإمارات، والعراق، والهند، وباكستان، وبروناي، وماليزيا وإندونيسيا، وبريطانيا، وسلطنة عمان كما تنوعت آثاره في تخصصات مختلفة، بيانها على النحو الآتي:
ففي مجال نقد تحقيق كتب التراث نجده ينجز أبحاث: (التصحيح لتحقيق كتاب جهد النصيح لأبي الربيع الكّلاعيّ)، و(نقد التحقيق: تأصيلٌ وتقويمٌ)، و(المعريُّ في الأندلس: تحقيقاتٌ ومراجعاتٌ)، و(تسهيل السبيل إلى تعلُّم التَّرْسِيل نشرةٌ خِداجٌ)، و(ديوان الإمام الشافعيّ بتحقيق مجاهد مصطفى بهجت: نقدٌ وتقويمٌ)، و(تحقيقات ديوانُ الإمامِ الشَّافِعِيِّ: وصف وتقويم)، و(المآخذ على تحقيق الشعر في شرح شعر المتنبي لابن الأفليليّ)، وقد جمع ثلاثة منها في الجزء الأول من كتابه: (مِبْضَع الجراح: دراسات نظريَّة وتطبيقيَّة في نقد التحقيق)، ولعل بقيتها وما يأتي بعدها يجمع في الجزء الثاني منه إن شاء الله.
وفي مجال الدراسات الأدبية التراثية نجد له رسالته للماجستير (ابن جني ناقدًا)، ورسالته للدكتوراه (المتنبِّي في الأندلس) وقد نشرتا في كتابين بدار الآفاق العربية بالقاهرة. كما نجد له أبحاث أدبية متنوعة منها: (شعريَّة الكيمياء: طائيَّة ابن أرفع رأس أنموذجًا)، و(شعر الفقهاء في الميزان: الإمام الشافعي نموذجًا)، و(شَفَرَات الثَّوْرة في لاميَّة الطُّغْرائيّ)، و(قناع الشاعر الثائر: "تحوُّلات يزيد بن مفرِّغ الحميريّ" نموذجًا)، و(المِعْيار الثَّقافيّ للنَّسَبِ الجُغْرافيّ: الإمام الشافعيّ، المُتنبِّي، ابن خُلْدون نماذج)، و(تعظيم البلد الحرام في أدبيات المفاخرة بين الحرمين الشريفين)، و(مدحُ الشَّيْءِ وذمُّهُ: الرؤيةُ والإبداعُ، المفاخرات المُتَخيَّلةُ في النثر العربيّ: تأريخٌ وتقويمٌ)، وقد تحول هذا البحث إلى كتاب بعنوان: (الوجهان الرَّائقان: جماليَّات مدح الشَّيء وذمِّه في التراث العربيّ)، و(علاقةُ المطالع بالمقاصد من خلال تفسير الخطيب الشِّرْبينيِّ الشَّافعيِّ للبَسْمَلة. (بالاشتراك مع أحد طلابه بمرحلة الدكتوراه: أمان جيء هأمأ من تايلاند). ومن كتبه الدراسية: "اللؤلؤة والغوَّاص: قراءة في الأدب الوسيط سنة (2004م)، وفي النص الأدبي (عباسي ومملوكي)، سنة (2007م). بالاشتراك مع د. زكريا النوتي، والأدب الأندلسيّ: رؤية تاريخية وفنية جديدة سنة (2009م). بالاشتراك مع د. السيد الدد، د. عبده إبراهيم.
وفي مجال الدراسات الأدبية الحديثة والمعاصرة نجد له أبحاثًا عديدة منها: (المتاهة والمُخَلِّص: قراءةٌ في حصاد معركة المرايا)، و(أسئلة الصراع حول موسيقى الشعر)، و(المرأة في أدب الرَّافعيّ) و(وصايا الشَّهاويّ في الميزان)، و(الأندلس المشوَّهة في ظلال شجرة الرُّمَّان) و(توظيف التراث في شعر عبد الله البردُّوني)، و(تجليات "محمد جاهين" في مقام الدهشة)، و(فنُّ الخاطرة في كلمات عصام العطَّار: تحليلٌ ونقدٌ).
وفي مجال القراءة لسيرة الأعلام المعاصرين نجد له مقالات: (النَّذيرُ العُرْيانُ: الدكتور/ محمد أبو موسى)، و(أصداء المعري في شعر الدكتور محمد رجب البيومي)، و(الحبيس الطليق: الدكتور السعيد عبادة)، و(أيُّ نجم أفل؟ في عمه الدكتور/ أحمد السواحلي)، إضافة إلى مشروع كتاب عنوانه: صور قلمية لنماذج بشرية، قدم فيه صورًا قلمية موجزة لشخصيات أُخَر.
وفي مجال علم الكتابة، وطرق تدريس العربية للأعاجم نجد له أبحاث: (التأثير السلبيُّ للتقنيَّات الحديثة على متعلِّم اللغة العربيَّة الناطق بغيرها)، و(الخطُّ العربيُّ بين عدوَّيْنِ) و(الخط العربيّ من الانتشار إلى الحصار) و(مستقبل الكتابة العربية في ظل فوضى النقحرة وهجنة العربيزي) و(تدريسُ الأدبِ العربيِّ للنَّاطقينِ بغير العربيَّةِ تَجَاربُ ومُقْترحاتٌ)، و(تأثير البيئة اللغويَّة الأزهريَّة على الطلاب الملايو)، و(الكفاية الثقافيَّة بين التراث والمعاصرة)، و(توظيف المناظرات الخيالية في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها: مناظرة السيف والقلم نموذجًا)، و(منهجٌ مقترح لتدريسِ الأدبِ العربيّ للنَّاطقينِ بغير العربيَّةِ).
ومن قضايا علم اللغة نجد له بحث (الغُيوب اللغوية بين الافتراء والعصبيَّة)، ومن أغرب أبحاثه: (السيجة: حفريات في التاريخ واللغة).
هذا إضافة إلى ديوانين من الشعر، هما: (أصـداء الشباب) و (مرايـا الوحي)، مع عدد كبير من القصائد المنشورة في مجلة الأدب الإسلامي، ومجلة الأزهر، ومجلة منبر الإسلام، وجريدة صوت الأزهر، ومجلات نوادي الأدب بطنطا والمحلة الكبرى، وقد تضمنت بعض الكتب قصائد له ككتاب: كتاب (واقدساه) للدكتور سيد العفاني: 4/447، وكتاب (موسوعة المدائح النبوية) للحاج عبد القادر الشيخ علي أبو المكارم: 3/382... وغيرها.
وله ورقتان بحثيَّتان كُتِبتا باللغة الإنجليزية، هما:
- (Concealing the knowledge between Islam and the West: كتمان العلم بين الإسلام والغرب). بحثٌ محكَّمٌ باللغة الإنجليزية شارك به في المؤتمر السنوي الثالث الذي عقده مركز دراسة الحضارات العالمية (CSGC) في لندن (23-26 مايو 2008م) تحت عنوان: ماذا يمكن أن يقدم الإسلام للغرب.
-(Echoes of Egyptian Society in Arabic Literature during Mamluk Period) (أصداء المجتمع المصري في الأدب العربي في العصر المملوكي). بحثٌ محكَّمٌ باللغة الإنجليزية شارك به في المؤتمر الدوليّ الذي عقد في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة شاه عبد اللطيف، خوربور، السند، باكستان. (13-14 يناير 2015م) تحت عنوان: الأدب والمجتمع وإعادة البناء. وقد نشر في السجلِّ العلميّ لأعمال المؤتمر...
وكل هذه الأعمال العلمية الجادة الرصينة الهادفة كانت سببًا في ترقيه العلمي إلى درجة أستاذ مساعد (3/12/2008م) ثم (أستاذ 12/3/2014م) بقسم الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بالقاهرة بجامعة الأزهر الغراء. كما عمل زميلًا لمعهد الدراسات الإسلامية والعربية (IAIS)، جامعة إكستر (Exeter): بريطانيا، خلال العام الجامعي 2007/2008م.
وقدر الله تعالى له أن تزداد صلته بالأعاجم الوافدين فعمل منسقًا لبرنامج (وقائمًا بأعمال الوكيل) لكلية العلوم الإسلامية الأزهرية للطلاب الوافدين غير الناطقين باللغة العربية منذ إنشائها عام 2008م إلى عام 2013م، ثم كتبت له الهجرة إلى الأعاجم المسلمين فانتقل إلى العمل أستاذًا للُّغة العربية بكلية اللغة العربية، في جامعة السلطان الشريف علي (UNISSA) بسلطنة بروناي دار السلام ابتداءً من 1/9/2015م، حتى الآن. وهو رئيس برنامج الدراسات العليا في اللغة العربية بتلك الجامعة، منذ 1/7/2017م، حتى الآن. حفظه الله وزاد في عطائه، وبارك في حضوره.
ولعلي بهذه المقالة الموجزة أكون قد أديت بعض حق علينا نحن شداة الدرس الأدبي والنقدي تجاه حبيبنا وزميلنا ونبراسنا: الأستاذ الدكتور مصطفى السواحلي، أسد الأزهر القادم إن شاء الله تعالى.
صبري أبو حسين
سرسنا/ الشهداء، المنوفية، زمن الكورونا، 25/5/2020م.