إيجابيات الحياة الكورونية
قد يُنعمُ اللهُ بالبلوى وإن عظمت ويبتلي اللهُ بعض القوم بالنعمِ
نعم في كل محنة منحة، وفي كل عسر يسر، وفي كل هم فرج، والعاقل العاقل من يضع عينه ونفسه على الجميل النبيل الطيب في كل أمر طارئ وظرف حادث. فلنترك شر كورونا وفتكه إلى من ابتلي به، داعين الله تعالى أن يرفع البلاء ويخفف الداء عن ساكني المعمورة كافة، ولننظر إلى ما في الحالة الكورونية العالمية من إيجابيات، من خلال مشاهد واقع حياتي الكوروني .
فعلى المستوى الشخصي استطعت أن أكتشف بيتي وأسرتي، وأن أعيد النظر في ترتيب أولوياتي، وأن أغير معاملتي لأهل بيتي، اكتشفت فجأة أن أولادي كبروا، وأنه يجب علي أن أؤاخيهم، وأن أترك لهجة الكبير الحازم الصارم الذي بيده الأمر كله! أخيرًا اعترفت بوجود شعب له رأي، كنت ديكتاتورًا قبل كورونا، وصرت فردًا في سفينة أثناء كورونا! وراجعنا موقفنا من النظافة الفردية لكل شخص منا، خرج من البيت فدخل إليه، ولكل من هو قابع فيه، النظافة الذاتية والعامة صارت همًّا أكبر وسلاحًا واقيًا، فتذكرنا حقًّا وطبقنا السلوك المنبثق من الحديث النبوي الشريف: "الطهور شطر الإيمان"...
ثم هذه المسكينة(الأم، الزوجة، الأخت، البنت الكبرى) التي تعمل طباخة، غسالة، خادمة بيت، طوال اليوم، ولم نك نشعر بها أو نرى عملها! لأننا لا نحضر البيت إلا في الفترة المسائية، أما في النهار فكل في عمله وشغله ومتاهاته، وإن وجدنا ننشغل بمتطلبات العمل الخارجي، فكأننا غير موجودين، ومن ثم لا نرى هذه الجندية: النحلة الشغالة والنملة العمَّالة! عرفناها ورأيناها وأحسسنا بها عندما أجلسنا كورونا طول اليوم بل طول الأسبوع بل طول الشهر، واخشى أن أقول: طول العام في بيتنا، فشاركناها وتعبنا كل تعب من هذه المشاركة وعككنا كلَّ عكِّ خلال هذه المشاركة!
تمتعنا في البيت بالعبادة المنزلية، وعرفنا مظهرًا جديدًا من جمال إسلامنا وسماحته ويسره، وصلاحيته لكل زمان ومكان، وامتلاكه القدرة على إصلاح كل زمان ومكان، بهذه العبارة النبوية الشريفة(ألا صلوا في بيوتكم، ألا صلوا في رحالكم): صار بيتنا قبلة، وتخصص منا في وظيفة المؤذن، وتخصص الثاني في وظيفة المقيم، واستعد ثالث ليكون نائب الإمام، وصار في بيتنا مكان مخصص للعبادة: صلاة وذكرًا وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقراءة للقرآن الكريم، واجتماعًا على ما يرضي الله من مقرأة ومجالس علم خاصة شديدة الخصوصية، فيها صراحة وصدق وتأثير إيجابي بناء فاعل، حقًّا: كم كنت مقصرًا في حق أسرتي، ليل نهار نعلم ونثقف وندعو الآخرين والأخريات، ونفرط في حق أولادنا وبناتنا!
وفي البيت تفرغت لمكتبتي فأعدت النظر فيها، وتعرفت على بعض ما كان مخبوءًا مكنوزًا فيها، وكما استدعيت مشاريعي المؤجلة قسرًا وقهرًا بسبب ظروف العمل ومستجدات الحياة، فكانت هذه الحياة الكورونية منحة تفرغ تام لكل جديد مفيد ثقافيًّا ونقديًّا ودعويًّا...
وفي الشارع اختفت مظاهر الاجتماع الشعبي العابثة الفارغة التي لاجدوى منها ولا طائل في الكافيهات والمقاهي والنوادي، وكأني بكورونا جاء حربًا على البدع والسفاهات والسخافات في الأعراس والمعازي على السواء، فانتهت وانعدمت عن طريق السلطة الوازعة الرادعة !
وعلى مستوى الوطن عرفت هذا المصري العتيق -ذكرًا أو أنثى- الظريف اللطيف، الجاد المهتم المغتم، الحريص على الحياة والحريص على الإنتاج، والآخذ بأسباب الرزق بكل ما أوتي من قوة، يواجه كل تحديات كورونا ومخاطره، بوعي حينًا، ومن غير وعي أحيانًا! من أجل أطفاله وأهل بيته ممن يعولهم!
واكتشفت فجأة – كما اكتشف الجميع- أن طريقة التعليم الجامعي وما قبله وما بعده، لدينا لابد أن تتغير، وأن التعليم عن طريق القلم والسبورة والمحاضرة والكتاب الورقي، والمكتبة الورقية فقط لا يكفي، ويمكن أن تحدث ظروف تحول بيننا وبينه، ومن ثم لابد من تطوير أطراف العملية التعليمية: المعلم، والمتعلم، ومصدر التعلم، ومكان التعلم، وإدارة التعلم، الكل لا بد أن يحدث له ويحدث فيه تغيير وتطوير، نحن يا سادة في عصر(الكيبورد والوورد) رضينا أو أبينا! من لم يتسلح بهما فليس ابن الفترة ولا يعيشها! ولا يستحق أن يعيشها! وهذه هي الحداثة الإيجابية الضرورية في آننا هذا.
وعلى مستوى الأمة أدركنا عظمة السنة النبوية الشريفة، ووقفنا على محور من محاور إعجازها، حيث دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم- إلى الحجر أو العزل الصحيين،
أورد أصحاب الحديث والسنن جملة أحاديث نبوية شريفة تحت ما أسموه مثلاً: (بيان ما يجب أن يعمل في الطاعون إذا وقع بأرض، والدليل على إباحة اتقاء الصحيح مخالطة أهل الوباء) ([1](. وهي تدل على إدراك نبوي شريف لمفهوم الحجر الصحي(Quarantine) للآمنين من الوباء، أو العزل الصحي(Sanitary insulation) للمصابين بالوباء، وهما من إجراءات الطب الوقائي الحديثة المحتمة زمن الأوبئة والطواعين. ومنها حديث أسامة بن زيد-رضي الله عنهما-: أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: إذا سمعتم به في قرية فلا تدخلوا عليه، وإذا دخلها عليكم فلا تخرجوا منها فرارًا منه". وفي رواية: "فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها , فلا تخرجوا منها ([2]("، وعَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ رَجُلًا مَاتَ فِي بَعْضِ الْأَرْيَافِ مِنَ الطَّاعُونِ، فَفَزِعَ لَهُ النَّاسُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ: «فَإِنِّي أَرْجُو أَلَّا تَطْلُعَ إِلَيْنَا بَقَايَاهَا([3](».
واختلف السلف الصالح في ذلك فمنهم من أخذ بظاهر الحديث، وهم الأكثر، روي عن السيدة عائشة قالت: "هو كالفرار من الزحف"، ومنهم من دخل إلى بلاد الطاعون وخرج عنها. قال بعض أهل العلم: لم ينه عن دخول أرض الطاعون والخروج عنها مخافة أن يصيب غير ما كتب عليه ويهلك قبل أجله، لكن حذارَ الفتنة على الحي، من أن يظنَّ أن هلاك مَن هلك لأجل قدومه، ونجاة من نجا لفراره، وهذا نحو نهيه عن الطيرة والقرب من المجذوم مع قوله: "لا عدوى". وقد روي عن ابن مسعود-رضي الله عنه- أنه قال : "الطاعون فتنة على المقيم وعلى الفار: أما الفار فيقول: فررتُ فنجوتُ، وأما المقيم فيقول: أقمتُ فمتُّ ([4](.
وتدلنا السنة النبوية الشريفة أنه لو حدث أن رَجُلاً مُبْتَلًى سَكَنَ فِي دَارٍ بَيْنَ قَوْمٍ أَصِحَّاءَ فيجب مْنَعُهُ مِنْ السَّكَنِ بَيْنَ الْأَصِحَّاءِ؛ لأنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا يُورِدنَّ مُمرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ([5]("،أي لا يُؤتَى بمريضٍ على صَحيحٍ سَليمٍ؛ مخافَةَ أن يُعديَه. وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّهُ-صلى الله عليه وسلم- لَمَّا قَدِمَ مَجْذُومٌ لِيُبَايِعَهُ أَرْسَلَ إلَيْهِ بِالْبَيْعَةِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي دُخُولِ الْمَدِينَةِ([6](". فدعا إلى مُجَانَبَةِ مَا يَحْصُلُ الضَّرَرُ عِنْدَهُ فِي الْعَادَةِ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْرِهِ. . وهذا هو العزل الصحي. أما حديث: "لا عدوى ولا طِيرَةَ ولا هامةَ ولا صفر، وفِرَّ من المجذوم كما تفرُّ من الأسد"([7](" فالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ مَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَزْعُمُهُ وتعتقده أن المرض والعاهة تُعدي بطبعها لا بفعل الله تعالى، أو أن المراد لنَّهيُ عن الاعتقادِ أنَّ بعضَ الأَمراضِ تَنتقِلُ بسببِ العَدوَى؛ لأنَّ الأمرَ بقَضاء الله وقدَرِهِ.
وعلى مستوى الكون أقول صراحة: انكشف الغرب المتغطرس المغرور بقوته المادية، لم تفده أسلحته، ولم يفده علمه في مواجهة هذا الوباء: ذلكم المخلوق الصغير جدًّا، أين أمريكا التي قال عنها قائل مخدوع يومًا ما: أمريكا على كل شيء قدير! إن القوة الحقيقية في الإنسان: روحًا وجسدًا، ولذا فإنني أقول: إن كورونا بيَّن أن الإنسان الصومالي في ظلال الإسلام أقوى من هذا الأمريكاني الذي يؤمن بالفلسفة المادية فقط! فلا يواجه كورونا بثبات ونجاح إلا من كان نتاج حضارة عريقة عتيقة معطاءة، كما كان كورونا سببًا في نقاء الكون من الملوثات الصناعية الفاتكة، وكان سببا في حماية طبقة الأوزون، ومن ثم نلحظ ونشم هواء نقيًّا طيبًا طاهرًا...
([1]) مستخرج أبي عوانة(ت316هـ): المسنَد الصَّحيح المُخَرّج عَلى صَحِيح مُسلم 17/461..
([2]) أخرجه البخاري (5730) ومسلم (100/ 2219) مطولًا، وأخرجه مسلم في صحيحه -كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها (4/ 1738/ حديث رقم 2219)..
([3]) جامع معمر بن راشد البصري (ت153هـ)، رقم(20160)، 11/148، طبع بيروت 1403هـ .
([4]) إكمال المعلم بفوائد مسلم7/133، وعون المعبود شرح سنن أبي داوود للعظيم آبادي8/369.
([5]) صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، رقم(5771)، وصحيح مسلم(2221) عن ابن عوف رضي الله عنه.
([6]) أخرج معناه الإمام مسلم في الصحيح، في آخر أبواب الطب من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنا قد بايعناك فارجع".
([7]) أخرج الحديث البخاري بسنده في كتابه [الصحيح] في كتاب الطب باب الجذام، ورواه ابن حبان بزيادة ولا نوء. وهو في صحيح مسلم رقم (4234) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
<!--<!--<!--<!--