سُمُوُّ الأميرِ
قراءة ذاتية في شخصية المبدع الدكتور علاء جانب
إعداد الدكتور/صبري فوزي أبوحسين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في اليوم الثامن من شهر يوليو عام 2013م، ووسط الجو السياسي المحتدم بمصرنا، نجد فجأة في شريط الأخبار ما يفرح ويدهش: حصول الشاعر المصري علاء جانب على جائزة أمير الشعراء، في دورتها الخامسة. وهو برنامج أدبي يأخذ شكل مسابقة في مجال الشعر العربي تنظمه لجنة إدارة المهرجانات والبرامج الثقافية والتراثية بإمارة أبوظبي، وقد بدأ البرنامج في عام 2007م، وهو حدث سنوي كبير يتم في آخر كل مسابقة تتويج شاعر بلقب أمير الشعراء، الذي كان قد انفرد به الشاعر المصري أحمد شوقي لعقود من الزمن، ويتم عرض فعاليات المسابقة على شاشة قناة أبوظبي، ويحصل صاحب المركز الأول على البردة التاريخية والخاتم، ومبلغ مادي، ويطبع ديوان له مقروءًا ومسموعًا، على نفقة رعاة المهرجان. وبطريقة الباحث فيَّ تساءلت: مَن علاء جانب؟ من هذا الذي أفرح المصريين وقت ألمهم الكبير، كأنه حاصل على كأس العالم؟! مَن الذي استطاع أن يحقق ما لم يحققه شاعران مصريان أعجوبتان مُدهشان من قبل: أحمد بخيت و هشام الجخ؟! و ما هذا الاسم العجيب(جانب)؟!
قالت لي نفسي المهمومة زمانئذ: عدِّ عن ذا، ودع الأيام تفعل ما تشا!
ومن عجب بعدُ أن أعلم أن (علاء جانب) أزهريّ، باحث جامعي أكاديمي، في تخصصي نفسه! ففي قاعة كنترولية بكلية اللغة العربية الأم، أجتمع مع الحبيب العريق، والصديق العتيق: مصطفى السواحلي، ومعه شخص طويل، قسيم وسيم بسيم، دقيق رشيق، ظريف لطيف، ضحوك، إلف اجتماعي، عرفني به الدكتور مصطفى بأنه (الدكتور علاء جانب)، فقلت فرحًا: سُمُوُّ الأمير، فهشَّ وبشَّ، وقال: أنا هو، وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث: مرة حول مصطلح، وثانية حول قضية نقدية، وثالثة في انتقاص لحالة بعض المثقفين الكبار المهيمنين في وطننا، فقلت عن أحدهما: إنه دولة عميقة في مؤسساتنا، وأضاف السواحلي عن ثان: إنه خبيث مرتزق مأجور! وقال الدكتور علاء عن ثالث: إنه كائن ديناصوري، يريد أن نعيش معه في عصره الحجري، تابعين مقلدين! فأعجبني لفظه وفكره، ودخل قلبي وعقلي معًا. وجدت فيه كما في الحبيب (السواحلي) صدقًا وأملاً وفألاً وأمانًا! فبمثل هذين الأصيلين الأزهريين يكون النصر لوطننا وأمتنا!
ثم كثرت لقاءاتي السريعة الخاطفة به في رحاب كلية الدراسات العليا بالقاهرة، حيث كنا نؤدي سويًّا فيها محاضرات، فرأيته يقبل عليه الطلاب كأنه نجم من نجوم الفن أو الرياضة قديمًا، أو نجوم الإعلام والسياسة فيما بعد! حتى ظننت أنه إن مشى فطيور الكون تتبعه!
وقد وضع له القَبُول في الأرض، فما من مهرجان داخلَ مصر أو خارجَها يحضره إلا كان النجم الثاقب، والكوكب المنير فيه بسمته ولسانه وشعره! فلسمو الأمير مشاركات كثيرة في المهرجانات والمؤتمرات المتنوعة مكانًا وزمانًا وبشرًا، وفيها نجد حضوره الجاذب المثير، وإقبال الجمهور عليه، لا سيما جيل الشباب، وهذا يدل على أنه استطاع أن يصل بشعره السهل الممتنع إلى أكبر قطاع من الجمهور والمتلقين، حتى صار اندماج الجمهور مع شعره الفصيح كاندماج الجمهور نفسه مع الشعر العامي، وهذا الطريف الجديد الذي يحسب بحق لعلاء جانب وجيله من المبدعين الشباب: أحمد بخيت، هشام الجخ، شريفة السيد، تميم البرغوثي وغيرهم ممن جعلوا الشعر على كل لسان وفي كل جنان! أولئك الذين غيروا في تقنيات القصيدة تغييرات تجعلها سهلة ممتنعة آسرة ساحرة فاعلة في المتلقين. ويدلك على هذه كثرة الدروع والشهادات التقديرية وصنوف التكريمات التي استحقها ونالها وحصل عليها في كل بلد عربي، وفي كل مؤسسة ثقافية أو معهد أو جامعة،، يزورها في تظاهرة شعرية أو ثقافية... مثل (جامعة الأزهر وغيرها بمصرنا، وجامعة نزوى بعمان، ومؤسسة البابطين، والهيئة العامة لقصور الثقافة بوزارة الثقافة المصرية، ومركز الإمارات للدراسات، والنادي الأدبي بالدمام، والنادي الأدبي بالمدينة المنورة، ورابطة الأدباء الكويتيين...).
وكل مرة أرى فيها سمو الأمير يزداد حبّي إياه وإعجابي وزهوي وفخري به، حتى انتقلت عاطفتي هذه إلى أسرتي، فهذه فاطمة ابنتي تأتيني فرحةً مرة عندما وجدت في كتاب التربية الإسلامية المقرر عليها نصًّا شعريًّا له، وتقول: هذا زميلك يا أبي، وأخذت تردد ذلك في معهدها!
وفي سوهاج، محافظة الأصالة والكرماء النجباء، كانت زمالتي إياه في مناقشة رسالة ماجستير مع الحبيب الكريم نبيل أبورفاعي، وعشنا سويًّا ليلة من ليالي ألف ليلة وليلة: ثلاثة أزهريون متنوعون:صعيديان سوهاجيان ودلتاوي منوفي، يتسامرون: سمو الأمير ينشد شعره ويحكي عن مهرجاناته الشعرية، وعن طباعه الشخصية الخاصة جدًّا بكل صراحة وجراءة وصدق، والكريم النبيل يقرأ علينا القرآن مجودًّا كأنه الطبلاوي، رحمه الله، والعبد لله يجيد الإنصات والتعليق، مع حديث عن أبحاثه التليدة ورؤيته المستقبلية للدراسات الأدبية والنقدية! وقد ظهر لنا سمو الأمير الإنسان بجلاء: تواضع، دم خفيف، لسان صريح، ذاكرة حية، ثم حديث كله وفاء عن أخيه الأكبر الشيخ والأستاذ محمود جانب: المعلم الأزهري، والداعية الألمعي، رحمه الله تعالى، الذي كفل سمو الأمير ورعاه، وثقفه وبناه، والذي التقيته في زورة سابقة إلى سوهاج؛ نظرًا لصلته أثناء الإعارة بصديق وجار منوفي، ورزقت بحضنه الدافئ وبسمته الصافية ولسانه الصدوق. وأثناء تلك الليلة علمت مدى صلة الأمير برحمه وموطنه الأول(العرابة)، ومدى بره بأهله الراحلين منهم والأحياء!
وفي هذه الليلة وما بعدها تعرفت أكثر على سمو الأمير: الإنسان بكل ملامحه، من خلال معاشرة ومحاورة ومُظارفة متبادلة. حقًّا إنه شخص بديع مغاير، وليس تقليديًّا مملاًّ! إنه آتٍ على مُهْرَةِ الأحْلَام يَسْبِقُه قَلْب، وَرِيحُ الْهَوى بِالشَّوقِ تَحْدُوه، من بلادٍ، الفرْدَوْسِ تُرْبَتُها، وطبْعُ تاريخها فَوْحُ الرَّيَاحِينِ، وسحر الأساطين! على النحو الذي يصف به نفسه شعرًا.
ثم أخذت أتعرف عليه شاعرًا من خلال سماع إبداعاته مُلقاةً بصوته الصعيدي الأخاذ، ومن خلال ما ينشره في صفحته الفيسية، إنه شعر مفعم بالشجن والوفاء والصدق، والإيقاع الفاتن، والأخيلة المجنّحة، شعر يمزج التراثي بالآني، ويجمع بين الأرستقراطي والشعبي في مهارة فائقة خاصة، كما تجد في شعره ما يمتع القطاع الكبير من المتلقين، فيحقق بشعره تلك المعادلة الصعبة العتية: الموازنة بين ما يطلبه العامة والنخبة على السواء! ومجموعة دواوينه شاهدة بذلك، وهي ستة، هي: ديوان "وأنا وحدي" طبع عام على نفقة الشاعر بمكتبة كاسل للطباعة 2002م، و وديوان "ولد ويكتب بالنجوم"، طبع دار التلاقي بمصر 2011م، و وديوان "لاقط التوت" دار روعة بمصر 2013م، و وديوان "متورط في الياسمين" أكاديمية الشعر بأبو ظبي 2015م، و وديوان "السكوت"، طبع دار الهدف 2018م، وديوان "لم يفهموك" دار اكتب 2019م، و وديوان "المغنّي" طبع ٢٠٢٠م، ثم كان الجزء الأول مجموعة الأعمال الكاملة، طبع سنة٢٠٢٠م.
ثم تعرفت عليه باحثًا في تخصصي بالجامعة من خلال قراءة سيرته التي خطها بقلمه، فوجدت باحثًا أصيلاً مبينًا، وناقدًا جادًّا رصينًا، ذا شخصية في كل مادة أدبية يختصها بالبحث والدرس، وذا رؤية في المنهج الذي يختاره ليطبقه في التذوق والتحليل...
إنه علاء أحمد السيد عبد الرحيم، من مواليد قرية عرابة أبودهب 25/12/ 1973م، نشأ وترعرع في رحاب التعليم الأزهري، حتى حصل على ليسانس كلية اللغة العربية بأسيوط سنة ١٩٩٦م، بتقدير ممتاز، وقد صار في كل حركته الفكرية والشعرية فيما بعد الأزهري المالكي، المؤمن بوسطية الإسلام، والمعتقد الموقن بحق الناس في التجاور الآمن والتعايش السلمي، والذي يحاول تحقيق ذلك من خلال كتاباته الشعرية والإبداعية الأخرى، وعلاقاته البشرية. وتلقيبه(علاء جانب) راجع إلى صديقه الشاعر السماح عبدالله الذي اقترح عليه عند طباعة ديوانه الأول أن يغير في اسمه: من هذا الاسم العادي(علاء السيد أحمد)! إلى اسم آخر أكثر جاذبية، فعرض سمو الأمير عليه بقية أسماء أجداده حتى وصلوا إلى هذا الاسم(جانب) فوقف عنده الشاعر السماح، وقال عبارة ظريفة: "يا راجل حد يبقى عنده جانب ويسيبه"، يشير إلى ما فيه من ندرة وغرابة وطرافة من بين أسماء أجداده، و(جانب) اسم جده الخامس، واسم الربع الخاص بأسرته في العائلة(الجوانب).
وقد قدر الله تعالى له الانتقال إلى القاهرة العامرة، فعمل في رحاب (قسم الأدب والنقد) بكلية اللغة العربية الأم بالقاهرة في جامعة الأزهر، معيدًا سنة 1997م، ثم رقي إلى درجة مدرس مساعد، سنة 2002م بعد حصوله على درجة الماجستير عن موضوعه المقترح: "شعر الدكتور سعد ظلام دراسة تحليلية نقدية"، من كلية اللغة العربية (جامعة الأزهر) بالقاهرة – بتقدير ممتاز سنة 2002م، ثم رقي إلى درجة مدرس، بعد حصوله على درجة الدكتوراه في الأدب القديم عن موضوع (الصورة الفنية في قصيدة المدح بين ابن سناء الملك والبهاء زهير تحليل ونقد وموازنة) بمرتبة الشرف الأولى مع التوصية بطبع الرسالة وتبادلها بين الجامعات، سنة 2005م، ثم رقي إلى درجة أستاذ مساعد سنة2011م، ثم رُقِّي إلى درجة الأستاذية في الأدب والنقد بجلسة ١٢/ ١٠/ ٢٠١٩م. بعد تقديمه اثني عشر بحثًا علميًّا محكمًا ومنشورًا، وكتابين، تمثلت الأبحاث في:"الأبوة الثكلى: الموقف، والصورة، وحوار التراث، قراءة في قصيدة ولدي للشاعر الدكتور حسن جاد"، و"اللغة والصورة وجدل التراث والمعاصرة دراسة تحليلية نقدية لديوان "الموءودات" للشاعر كمال لاشين"، و"النماذج الإنسانية في شعر صالح الشرنوبي تعاطف أم إسقاط"، و"تجربة التصوف وأثرها في شعر الشيخ محمد زكي إبراهيم رائد العشيرة المحمدية"، والجزء الثاني من ديوان " البقايا " للشاعر الشيخ/ محمد زكى إبراهيم، تحقيق ودراسة"، و"أزمة الشعر المعاصر بين الإبداع والتلقي"، و"نونية المثقب العبدي : واقعية التفسير وآفاق التأويل"، و"قصيدة المواكب لصالح الشرنوبي قراءة في التوتر والثبات"،و"مرايا تميم بن المعز لدين الله الفاطمي"، و"ملامح الجنوب الشعرية، في شعر أحمد جمال مدني"، و"الجزء الثالث من ديوان المثاني للشاعر الشيخ/ محمد زكى إبراهيم، تحقيق ودراسة"، و"وصف الطبيعة ، عند شعراء أبوللو دراسة موضوعية فنية". أما الكتابان فهما (فن المقال بين الكتابة والقراءة)، (بالاشتراك)، و(أصالة الرأي في موسيقى الشعر وأوزانه)، (بالاشتراك). وبيِّن من هذه العنوانات ومن مطالعتي في بعضها أن سمو الأمير، عاش خلال رحلته البحثية النقدية في الشعر وللشعر وبالشعر، واختار المادة الشعرية التي يحياها ويعيشها، ففي القديم نجد المثقب العبدي ونونيته، وتميم بن المعز الفاطمي، وابن سناء الملك والبهاء زهير، وفي الحديث نجده يفاتش إبداع جماعة أبوللو، وشعر واحد من إفرازاتها الشاعر الغنائي الكبير صالح الشرنوبي. كما نجده يغوص في شعر كبار الأزهريين: الدكتور حسن جاد، والدكتور سعد ظلام، والشيخ محمد زكي إبراهيم، رحمهم الله، وحبيبنا الدكتور كمال لاشين حفظه الله تعالى. وقد تأثر بهؤلاء جميعًا، وبغيرهم من الشعراء الأفذاذ الذين يمثلون في نظره مذهب (الشعر السهل الممتنع) كزهير، وطرفة، وامرئ القيس ولبيد والشنفرى، مرورًا بجرير ومدرسة الشعر الغزلي العذري، وأبي تمام والمتنبي، وللبهاء زهير تأثير فيه على المستوى الإنساني والإبداعي، حيث التطابق التام بين شخصه وشعره، كما ينطق بذلك حديثه عنه في رسالته للدكتوراه. ومن عجب أن يكون للشواهد النحوية والبلاغية، التي درسها بأزهرنا الشريف في معاهده وجامعته، دور في تربية ذائقة أميرنا وتطويرها؛ فهي حقًّا شواهد منتقاة من جميل الشعر العربي انتقاء مقصودًا.
إن سمو الأمير خلاصة الإبداع الأدبي الأزهري الفذ في العصر الحديث عند الأعلام: محمد رجب البيومي، ومحمد أحمد العزب، وحسن جاد، وسعد ظلام، وصابر عبدالدايم، ومحمد جاهين بدوي، وكمال لاشين، وغيرهم من النجباء النبلاء، فسموُّ الأمير امتداهم السامي، وجينهم الغازي، يسير فينا شاعرًا ساحرًا، وساردًا آسرًا. ومن أسف أن نلحظ أن مؤرخي العصر الحديث يتناسون دور الأزهر الشريف في الحركة الأدبية الحديثة تمامًا ويتجاهلونه، ويتناسون أنه العامل الأساسي والمؤثر والمطور والحافظ للشعر والشعراء في هذا العصر. ويأتي سمو الأمير: الدكتور علاء جانب، بحركته الشعرية المعاصرة الآن؛ ليدل دلالة واقعية على أن الأزهر، دائمًا وأبدًا، سيظل العامل الأول في الحركة الأدبية في العصر الحديث، كما أن وجوده يدل على أن الأزهر جامعًا وجامعةً هما الموجهان والمطوران للشعر. وأطالب بضرورة تكريم الدكتور علاء جانب من الأزهر جامعًا وجامعةً، بالإضافة إلى نشر شعره على أوسع نطاق، وأن يصنع منبر له في قلب الجامع الأزهر باسمه.
و سمو الأمير بكل نتاجه الشعري والعلمي يقدم أنموذجًا أعلى للإنسان الجامع بين ثنائية الشعر والعلم جمعًا غريبًا لطيفًا مدهشًا ... وما زال الحبيب النجيب، سهم الجنوب، يبدع ويمتع ويقنع، شاعرًا، وساردًا، حاضرًا وقادرًا، دام بناؤه، وكثر عطاؤه وازدان حضورنا بنفحاته ولمحاته ومثيراته ...
<!--<!--<!--<!--