بنية السرد ودلالته في تجربة (ابنة الشمس) للقاص عصام عبدالحميد

مقاربة للدكتور/صبري أبوحسين

تجربة (ابنة الشمس) للقاص الروائي الأصيل النبيل الأستاذ عصام عبدالحميد، وهو روائي دمياطي مصري من مواليد 24/5/1962م، عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وعضو رابطة أدباء الحرية، وعضو في قصر ثقافة المطرية بالقاهرة.  صدرت له مجموعة قصصية بعنوان : (فتافيت امرأة)، سنة 2008م، ومجموعة ثانية بعنوان (زوجتك نفسي) سنة2011م, ، ومجموعة ثالثة بعنوان (هان الود)سنة 2013م، وقصتان بعنوان(منازل للحب) سنة 2015م، ورواية أولى بعنوان (عزة) سنة 2019م، ورواية ثانية بعنوان (الست مها) سنة2020م...

تنتمي تجربة (ابنة الشمس) إلى القصة القصيرة من حيث كمُّها وكيفُها، فقد جاءت في أكثر من صفحة، وبلغت خمسمائة كلمة تقريبًا، وهي تجربة عاطفية رومانسية في ظاهرها، يكاد يمر بها كل إنسان في مرحلة المراهقة. وهي تنتمي إلى ما يمكن تسميته أدب المراهقة، أي المعبر عن مرحلة المراهقة، والمخاطب لمن هو في مرحلة المراهقة.

والعنوان(ابنة الشمس) تركيب إضافي، جاء كناية عن بطلة القصة؛ للإعلان عن جمالها ونورها وضيائها وحرارتها وتأثيرها الفاتك فيمن حولها ويتعرض لها وتتعرض له!

وتدبر النسج السردي للنص يدلنا على أنها عُرضت بضمير المتكلم، على لسان القاص، كأنها مشهد من سيرة القاص الذاتية، وموقف من مواقف الحياة. وقد تكون النسج القصصي من مشهد تمهيدي يمثل المطلع، ومشهدين أساسيين، وختام للنص.

المشهد التمهيدي نصه:" في الصف الأول الثانوي وقعت في غرام ابنة الشمس.. نعم كما قرأتموها ابنة الشمس" وفيه تحديد زمن الأحداث(الصف الأول الثانوي) وهو زمن الشباب المراهق! والحدث الأبرز في القصة (غرام ابنة الشمس). ثم نجد عبارة(قرأتموها) التي تدل على أن القصة حكاية مقصودة من السارد القاص، مروية إلى مخاطبين غير محددين ولا معينين، بل عبر عنها بضمير الخطاب التاء، وبواو الجماعة المبهمة! كأنني بالأستاذ القاص السارد معلم في مرحلة ثانوي، وهو يسرد هذه الحكاية لجيل المراهقين من طلابه، وعظًا لهم وإرشادًا!

وفي المشهد الأول بيان بالحدث الأول في القصة، وهو رؤية البطلة للبطلة، ويبدأ بالفقرة الثانية التي تبدأ بقول السارد: بدأت القصة ذات صباح شتوي حنون...واستمر ثلاث فقرات، وانتهى بقوله:" وحالي لم يعد يخفى عليها حتى ولو لم تنظر في عيني مباشرة. وفي هذه الفقرة الثانية نجد وصفًا للزمان والمكان، يقول السارد: ذات صباح شتوي حنون.. حين طلت الشمس من مشرقها تتأود مبتسمة بنسيج حريري ناعم كثيف بأشعتها الذهبية لتغمر الحياة وشارعنا الطويل والبيوت العتيقة المتراصة على الجانبين.. فتتراءى ساحرة يتخللها ضوء يغمرها يغشى العيون فتخفيها قليلا". وواضح هنا جمال اللغة وحيويتها، والتركيز على الجميل في زماننا ومكاننا، وليس القبيح كما يفعل السوداويون!

وفي الفقرة الثالثة نجد وصفًا تفصيليًّا لبطلة القصة(ابنة الشمس)، يقول السارد، رابطًا بين الزمان والمكان والإنسان: "في غمرة هذا الجمال الدافئ.. تمخض هذا النور عن فتاة بارعة الجمال.. تخرج من بين أشعته.. ترفل في خطوات أنثوية باذخة.. بجسد ممشوق القد.. كأنه منحوت على كل مقاييس الجمال.. تتخايل خطواتها بكبرياء تهتز له أعطافها مع كل خطوة تخطوها.. ترتدي مريول المدرسة الكحلي نظيفا براقا وتضم كتبها إلى غياهب صدرها الفتان.. وكلما اقتربت بدت تفاصيلها الحلوة أكثر فأكثر". جمال جسدي بقول السارد:(جسد ممشوق القد.. كأنه منحوت على كل مقاييس الجمال)، وجمال الحركة بقول السارد: (تتخايل خطواتها بكبرياء تهتز له أعطافها مع كل خطوة تخطوها)، جمال الثوب بقول السارد: (ترتدي مريول المدرسة الكحلي نظيفا براقا وتضم كتبها إلى غياهب صدرها الفتان). ثم المبالغة في الإعلان عن جمالها بقول السارد: (وكلما اقتربت بدت تفاصيلها الحلوة أكثر فأكثر)     

ثم بين أثر جمالها الفاتك فيه بقوله:" ذهب لبي.. وذهلت مشاعري وخفق قلبي خفقات متتالية حتى ظننت أن روحي المستهامة ستطير من جسدي وراءها. هكذا خرجت من بين ثنايا النور.. ثم اقتربت ودنت.. ثم مرت من أمامي كأنني لا شيء.. وتركتني صريع جمالها.. ذبيح خطواتها المتئدة الواثقة" ويزيد شخصيته بيانًا بقوله:" ولا أدري هل تراني؟ هل تشعر بنظراتي ولهفتي.. وازادت حيرتي حتى بدأت أفكر في كسر هذا الصمت الذي يقتلني و لا يترك لي إلا الحسرة والحزن بعد ميلاد الأمل كل صباح.. وبدأت أفكر.. هل أكلمها؟ ولكن ماذا سأقول لها وأنا لم أتعرض في حياتي لفتاة لأكلمها" حيث نجد التأثر بجمالها والحيرة في الخلاص منه، والإعلان عن فطرته وعفافه، ويشير إلى ما فيها من كبرياء.

وفي المشهد الثاني تصوير لمحاولة البطل اللقاء بالبطلة والتفكير في محادثتها، ويبدأ بالفقرة الخامسة قائلا: وفي صباح متمرد.. قررت أن أتبعها حتى إذا ما سنحت الفرصة بعيدا عن المحيط المعروف لكلينا أن أكلمها.. ماذا سأقول لها؟ لا أدري.. قوة طاغية جذبتني للسير وراءها.. فسرت مسافة طويلة قطعتها وأنا وراءها يفصلنا عدة أمتار.. شقت شارع النقراشي.. ثم عرجت من شارع الجلاء إلى الكورنيش.. وهناك التفتت خلفها لفتة سريعة فهبت نسمات عليلة مبتسمة على وجهي من صفحة النيل فازددت إصرارًا على الاقتراب والتحدث إليها..."

ثم ينتقل في الفقرة التالية للموقف الذي يمثل الأزمة والمشكلة، يقول: وفجأة وجدت شابا على مسافة ليست بالبعيدة كأنه ينتظر أحدا.. ثم اتجهت ابنة الشمس ناحيته.. واقتربت بخطواتها المنتظمة بينما تعثرت خطواتي وجف حلقي حين رأيتها تقبل عليه ويسلم عليها بحرارة حتى شعرت أنه سيعانقها.. ثم أخذها من يدها إلى مدخل العمارة التي كان يقف أمامها ودخلا إليها معًا.." وهكذا ضاعت محبوبته، وذهبت إلى غير رجعة، مع غيره، ومن ثم كان الختام:

جاء الختام دالا على ذلك الضياع:" كانت هذه آخر مرة رأيت فيها إبنة الشمس.. فقد اشتدت حرارة أمها مع اقتراب الصيف.. ولفحتني بحرارتها لحد الاحتراق.. وتركت قلبي رمادًا وروحي منكسرة.." وهذا هو الأثر المتوقع لكل من يضيع منه شيء جميل ناصع ماتع.

ويذيل القاص نصه ببيان المغزى من قصته قائلا على لسان البطل:" وأكملت سيري متجاوزًا المشهد، أضحك على نفسي المراهقة التي سعت وراء السراب.. ودموعي تتدفق على خد الحزن.." إنه واقعي في رؤيته، معالج لنفسه من حالة الفقدان والضياع والحرمان هذه، مرجعًا انكساره إلى نفسه المراهقة المنخدعة، لكنه صادق مع نفسه، فيصورها هذا التصوير الاستعاري الطريف:" ودموعي تتدفق على خد الحزن"!

وظاهر من هذا التحليل لأحداث القصة أننا أمام ثلاثة شخوص: ابنة الشمس، والسارد، وقد وصفهما القاص وصفًا تفصيليًّا، والشاب الذي لم يذكر من صفاته شيء، وكأن القاص تجاهله نفورًا منه وإعراضًا عنه!

وبيِّنٌ أيضًا أن لغة النص فصيحة صريحة، خبرية في مجملها، بها بعض الاستفهامات المعلنة عن الحيرة والاندهاش والإعجاب والتبتل الحادث في شخصية البطل تجاه جمال البطلة المثير!

وقد خلا النص من أسلوب الحوار الثنائي، أما الحوار النفسي الأحادي فقد ورد على لسان البطل، ليعلن عن تأثره بجمال ابنة الشمس، ومحاولته التخطيط للقائها والحديث معها، يقول في نفسه: (ولا أدري هل تراني؟ هل تشعر بنظراتي ولهفتي... وبدأت أفكر.. هل أكلمها؟ ولكن ماذا سأقول لها وأنا لم أتعرض في حياتي لفتاة لأكلمها.. ولم أغازل فتاة في الشارع كما يفعل أقراني بل أخجل أن أفعل ذلك. هل أكتب لها رسالة وألقيها أمامها؟ لا أظن أن كبرياء ابنة الشمس سيسمح لها بالانحناء لالتقاط ورقة من شخص لا تلتفت حتى ناحيته.. ولكنها بالتأكيد تراني.. وحالي لم يعد يخفى عليها حتى ولو لم تنظر في عيني مباشرة...)

ويعجبني وصف الزمان بالحنية والعطف  في أول القصة بـ(ذات صباح شتوي حنون) وهذا مناسب للحدث العاطفي الهادئ اللطيف، ثم الانتقال إلى وصفه بالتمرد في وسط القصة بأنه(صباح متمرد) المناسب للحادث الأزمة المقلق حيث محاولة الجرأة معها لقاء وكلامًا، وحيث فقدانه إياها! كما يعجبني في النص اللغة التصويرية العالية الفائقة، بدءًا من العنوان، ومرورًا بالتأنق في وصف الزمان والمكان بهذه العبارات الشاعرية الساحرة الآسرة، التي لا مجال للوقوف عندها، كل ما يمكن أن يقال: إنها تعبيرات وتصويرات جذبتنا جذبًا إلى النص وأمتعت آذاننا وعيوننا وحواسنا.

دام القاص الشاب عصام عبدالحميد مبدعًا جميلا نبيلاً، وواعظًا ساردًا لذيذًا. حقًّا أمتعت وأسعدت، ووعظت وأرشدت، أفدنا وتعلمنا، أنه لا جميل يبقى، وأنه لن تنتهي الحياة بضياع مخلوق جميل، بل تستمر الحياة، فالنفس المراهقة فقط هي التي تأسى وتحزن وتنكسر، أما النفس العاقلة الرصينة فتتجاوز الكبوات والزلات والمعوقات! وذلك المغزى الأكبر من نصنا المقروء!  

نص القصة:

ابنة الشمس للقاص عصام عبدالحميد

في الصف الأول الثانوي وقعت في غرام ابنة الشمس.. نعم كما قرأتموها ابنة الشمس..

بدأت القصة ذات صباح شتوي حنون.. حين طلت الشمس من مشرقها تتأود مبتسمة بنسيج حريري ناعم كثيف بأشعتها الذهبية لتغمر الحياة وشارعنا الطويل والبيوت العتيقة المتراصة على الجانبين.. فتتراءى ساحرة يتخللها ضوء يغمرها يغشى العيون فتخفيها قليلا..

في غمرة هذا الجمال الدافئ.. تمخض هذا النور عن فتاة بارعة الجمال.. تخرج من بين أشعته.. ترفل في خطوات أنثوية باذخة.. بجسد ممشوق القد.. كأنه منحوت على كل مقاييس الجمال.. تتخايل خطواتها بكبرياء تهتز له أعطافها مع كل خطوة تخطوها.. ترتدي مريول المدرسة الكحلي نظيفا براقا وتضم كتبها إلى غياهب صدرها الفتان.. وكلما اقتربت بدت تفاصيلها الحلوة أكثر فأكثر.. فذهب لبي.. وذهلت مشاعري وخفق قلبي خفقات متتالية حتى ظننت أن روحي المستهامة ستطير من جسدي وراءها. هكذا خرجت من بين ثنايا النور.. ثم اقتربت ودنت.. ثم مرت من أمامي كأنني لا شيء.. وتركتني صريع جمالها.. ذبيح خطواتها المتئدة الواثقة.. وهكذا أصبحت في لحظة إشراق باهر أسير ابنة الشمس.. حيث تولد كل صباح من رحم النور وثنايا الأشعة الدافئة الغامرة بكل ألق وحسن وبهاء.. تقترب وتدنو وتمر دون أن تلتفت كأنني هواء..

 مرت أيام طويلة على هذا الحال.. ولا أدري هل تراني؟ هل تشعر بنظراتي ولهفتي.. وازادت حيرتي حتى بدأت أفكر في كسر هذا الصمت الذي يقتلني و لا يترك لي إلا الحسرة والحزن بعد ميلاد الأمل كل صباح..

وبدأت أفكر.. هل أكلمها؟ ولكن ماذا سأقول لها وأنا لم أتعرض في حياتي لفتاة لأكلمها.. ولم أغازل فتاة في الشارع كما يفعل أقراني بل أخجل أن أفعل ذلك. هل أكتب لها رسالة وألقيها أمامها؟ لا أظن أن كبرياء ابنة الشمس سيسمح لها بالانحناء لالتقاط ورقة من شخص لا تلتفت حتى ناحيته.. ولكنها بالتأكيد تراني.. وحالي لم يعد يخفى عليها حتى ولو لم تنظر في عيني مباشرة..

 وفي صباح متمرد.. قررت أن أتبعها حتى إذا ما سنحت الفرصة بعيدا عن المحيط المعروف لكلينا أن أكلمها.. ماذا سأقول لها؟ لا أدري.. قوة طاغية جذبتني للسير وراءها.. فسرت مسافة طويلة قطعتها وأنا وراءها يفصلنا عدة أمتار.. شقت شارع النقراشي.. ثم عرجت من شارع الجلاء إلى الكورنيش.. وهناك التفتت خلفها لفتة سريعة فهبت نسمات عليلة مبتسمة على وجهي من صفحة النيل فازددت إصرارًا على الاقتراب والتحدث إليها.. ولكن هل رأتني حقا وعرفت أني خلفها؟ اقتربت أكثر وقلبي يخفق من الخوف.. والقوة الطاغية تدفعني دفعا..

 وفجأة وجدت شابًّا على مسافة ليست بالبعيدة كأنه ينتظر أحدا.. ثم اتجهت ابنة الشمس ناحيته.. واقتربت بخطواتها المنتظمة بينما تعثرت خطواتي وجف حلقي حين رأيتها تقبل عليه ويسلم عليها بحرارة حتى شعرت أنه سيعانقها.. ثم أخذها من يدها إلى مدخل العمارة التي كان يقف أمامها ودخلا إليها معًا..

كانت هذه آخر مرة رأيت فيها ابنة الشمس.. فقد اشتدت حرارة أمها مع اقتراب الصيف.. ولفحتني بحرارتها لحد الاحتراق.. وتركت قلبي رمادًا وروحي منكسرة.. وأكملت سيري متجاوزا المشهد أضحك على نفسي المراهقة التي سعت وراء السراب.. ودموعي تتدفق على خد الحزن.. عصام عبد الحميد

 

<!--<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin-top:0cm; mso-para-margin-right:0cm; mso-para-margin-bottom:10.0pt; mso-para-margin-left:0cm; line-height:115%; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin; mso-bidi-font-family:Arial; mso-bidi-theme-font:minor-bidi;} </style> <![endif]-->

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 162 مشاهدة

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

337,354