المركز الثانى أسماء دبلاجى ... الجزائر عن قصتها ليلي
..... "ليلى"
كان جالسا ورأسه بين يديه وعيناه جامدتان..وصدره يرتفع وينخفض حتى خُيّل إليها أنها تسمع وجيب قلبه الملتاع..
ضرب القاضي بمطرقته معلنا صدور الحكم.."حكمت المحكمة حضوريا على المتهمة ليلى أحمد بالسجن 25 سنة نافذة"..
خرج الرجل فور سماع النطق بالحكم بخطى حثيثة جرحت قلوب الحاضرين..
أبو ليلى هذا ما يدعوه به أهل القرية نسبة إلى ابنته البكر ليلى..رجل طيب بسيط قضى عمره ينهال على الأرض بمعوله وينتزع الأعشاب والأحجار بيديه..يقلّب التراب ويسكب فيه من حياته ليمده بالحياة له ولأبنائه الثلاثة..
يخرج كل صبيحة مع أول تدفق لخيوط الفجر الزنبقية..ولا يعود الا بعد مغيب الشمس مسندا بعصا رزمة على كتفه مما تجود به أرضه من غلالها الوافرة..
يدفع باب بيته بعناء وهو منهك القوى..وسرعان ما تنفرج أساريره ويطلّ البشر في عينيه برؤية شعلته المضيئة وأمله الضاحك ليلى..
هذه الصبية التي أصبحت أما رؤوما لوالدها وأخويها الصغيرين بعد وفاة والدتها إزاء مرض عضال
مساء الخير أبي..كيف كان يومك..تقولها ليلى بصوت مبهج والبسمة تتماوج على محياها..
فيجيبها قائلا.. تعب بعض الشيء..تعلمين يا ليلى أن عطاء الارض لا يأتي تلقائيا إذا لم يصاحبه الانسان بعطاء ومجهود..
..تسارع ليلى بإحضار قصعة الماء الدافىء وتمسد رجلي والدها المتورمتين.. بيدين انسكبت فيهما ملامس الملائكة...مرددة دعواتها المعتادة..كان الله بعونك أبت وأجزلك عطاءً على كريم صنعك وتعبك..
غدا يوم آخر يا ليلى هنالك أراض لم تهدهدها يداي بعد.. غدا سأنهال عليها بالمعول وافجرها اخضرارا..تعودت نفسي على تذليل الصعاب ولن تكون راضية إذا لم أبحث كل يوم عن صعوبة جديدة ..وغدا لناظره قريب..تصبحين على خير بنيتي..وأنت من أهل الخير أبي.
أفاق الفجر لينحني على التلال الخضراء..ويوشح الوجود بلون الزنابق..كعادتها ليلى نهضت باكرا لتعد الذخيرة لوالدها..كي تعينه على شقاء يومه..وهبّت مسرعة للإيقاظ أخويها بفيض من الحب والحنان.. كي تعدهما للذهاب الى المدرسة..
تكاثفت أمام عينيها سحابة سوداء وعلقت غصة بحلقها..عقبتها تنهيدة عميقة..تذكرت أنها من عامين كانت ترتاد المدرسة هي كذلك لولا موت والدتها الذي غير مجرى حياتها..لكن سرعان ما تلاشى حزنها وطفحت على محياها بسمة حالمة.."لن يضيرني إن ضحيت بتعليمي في سبيل أخوي ..فالعلم سلاحهما الوحيد الذي سيرتقي بهما عاليا..سيتعلمان ويصبحان شيئا في المستقبل..وسأفخر بهما كثيرا"..هذا ما قالته ليلى وهي تحدث نفسها..
ليلى الصبية ذات الثمانية عشر ربيعا..تتفتح كزهرة برية..جمالا وبراءة..جمال بريء صاف صفاء الريف ونقائه..يزداد تألقا كلما لوّحته شمسه الدافئة..تحمل جرتها التي جادت بها أنامل جدتها على خاصرتها..وتتوجه إلى المنبع مع نظيراتها من الفتيات لجلب الماء العذب..
اليوم وعلى غير العادة هنالك ضوضاء وجلبة وضحكات عالية ماذا هنالك ؟ قالت ليلى لرفيقتها..ألم تسمع يا ليلى..حامد ابن المختار عاد الى القرية لقد رأته إحداهن بالطاقم الفرنجي..وتبدو عليه آثار السعة والبحبوحة..لقد أصبح من كبار رجال الأعمال..كما أنه فتح محلا فارها للمجوهرات على بعد خطوات من هنا..ما رأيك ان نتوجه اليه بعد ذلك..أومأت ليلى برأسها بالإيجاب..
وقفت الفتاتان عند واجهة المحل مبهورتين بشتى أنواع الحلي المرصع بأبهى الجواهر..ألح عليهما حامد بالدخول لكنهما امتنعتا بحجة ضيق الوقت..سنعود مرة أخرى قالت ليلى.
أصبح العبور على محل المجوهرات هاجس ليلى كلما أتيحت لها فرصة للخروج من البيت..لتقف مسمرة أمام واجهة المحل تتماهى بأحلامها.. قد سحرها بريق الذهب.وهي قد سحرت حامدا بجمالها ورقتها وبدأ بريق الشهوة يلمع بعينيه..
هذه المرة عرض عليها الولوج لرؤية المزيد من القطع في الداخل وهي لم تمانع..أغلق الباب فور دخولها واستل منها قبلة جعلت الدم يتصاعد الى وجنتيها..ثم انقض عليها وافترسها كذأب مسعور.. حاولت الصراخ بأعلى صوتها والافتكاك من براثنه بكل قوتها ..لكنها لم تفلح.. لمحت مقصا فوق طاولة العرض..فانتشلته وغرزته بصدره تاركة اياه سابحا في بركة دمه..سيق هو الى المشفى حيث لفظ آخر أنفاسه..وسيقت هي مكبلة بالقيود الى مركز الشرطة..
أطل أبو ليلى على بيته منهك القوى ..لامحا من بعيد الشرطة عند الباب..لم يستوعب من الأمر شيئا..اكفهر وجهه وبدأت آلاف الأسئلة تمور بذهنه..وما هي الا لحظات حتى توضحت جميع استفهاماته ..صعق مما سمع ولم يرد التصديق ..أنتم مخطؤون ..انتم لا تقصدون ليلى ابنتي أكيد انها ليلى أخرى قالها ابو ليلى صارخا ..بدأ يجوب أركان البيت وعيناه تكاد تخرجان من محجريهما.. يفتش البيت زاوية زاوية.. وينادي بصوت أجش ليلى اين أنت يا ابنتي.. أجيبني أرجوك ..ثم خر على ركبتيه مستسلما والدموع الحرّى تنساب من مقلتيه..
من ذلك اليوم وإلى يوم المحاكمة وإلى آخر يوم بعمره لم ينبس بكلمة.