سوق بغداد
بقلم: المنجي حسين بنخليفة – تونس -
وتمرّ بي عبر القرون خطى ذاكرة عبر شقوق السّنين ، فأرتمي في حضن سوق بغداد الكبير، فأرى المحال ازدانتْ بكلّ أصناف البضاعة، تكوّمتْ وتكردستْ حتّى ضاق بها المكان ، فزاحمت المارين على الرّصيف . التّاجر على باب محلّه، لبس أفخر الثياب، و أزهاها . سروال فضفاض و قميص طرّز بألوان طغى الأزرق عليه، قفطان حبريّ طُرّزتْ حواشيه بعناية ، قلنسوّة بيضاء تزيد صاحبها فخارا ؛ ينادي على بضاعته: تعالوا ...هنا يباع الدّيباج، والغضائر الفاخرة، هنا العود الصنفيّ، ومسك قنبار، والصغدي، والطغرغري...قاطعه تاجر آخر بصوت منغّم: هنا عندي الثياب الموشيّة، و المناديل ، وطيالس من صوف... استوقفني تاجر يشاحن في بضاعته مع زبون ظهر النعيم عليه:
ـ يا سيدتي أؤكد لك أنّه مسك قنبري.
ـ بل هو مسك تيبتي ...أتريد أن تغشّني؟.
وقفتُ أمام محل لبيع السّيوف، والرّماح ،والسّروج، و أربطة الخيل.
حدّق الناس فيّ، واجتمعوا حولي . لباسي يخالف لباسهم، ملامحي تخالف ملامحهم، كلامي يخالف كلامهم . اقترب مني أحدهم ،سألني:
ــ أروميّ أنت أم فارسيّ أم..؟؟
ــ أنا عربيّ مثلكم .مثلكم. !
ــ عرفتُ العرب ، بلدانهم وقبائلهم، لغاتهم و ملابسهم، لكنّي أراك تخالف هيئة العرب .
ــ وأنا أراكم تخالفون هيئة العرب، في الثّراء البادئ عليكم، في ائتلافكم وانسجامكم، وهذا الأمان في أسواقكم ...
ــ كأنّك قادم علينا من عصر غير عصرنا !!
حملوني لقاضي البلاد، اجتمع الأعيان والجند والتّجار والعلماء...حتى أطمئنهم على حال الأمّة في القرون التي جئت منها خلسة من نظام الزمن.
حدّثتهم، طال حديثي... سُمع نشيج القوم خارج مجلس القاضي ، بلّت الدموع اللحيّ ، احمرّت العيون ، انتفخت الأوداج، ضُربت الأخماس بالأسداس ، ارتعشت قبضة قائد الجند على مقبض السّيف .
قلت يا سيدي القاضي هل تقبلوني بينكم، فأنا سئمتُ من عصري المتوج بالفقر، والحرب، والتشرّد، والدماء؟
صاح الجميع: لا..لن نقبلك، فأنت تذكّرنا بانتهاك طهر هذه الأرض، ومستقبل الهزائم...