منذ نشأة فقه المعاملات، كانت الفتاوى المتصلة بالأنشطة التجارية والاقتصادية جزءا رئيسا وأساسيا من الفتاوى التي يحرص كثير من الناس على الاطلاع عليها ومتابعتها، خاصة عندما يتصل الأمر بالتقوى والورع والرغبة في الرزق الحلال.
ومع تقدم وتعقيد التركيبة الاقتصادية المعاصرة بأنشطتها المختلفة، تحولت الفتاوى الاقتصادية وفتاوى الأعمال إلى باب واسع من أبواب الفقه التطبيقي المعاصر. لكن ثمة ما بدأ يطفو على السطح مؤخرا ويحول هذه الفتاوى إلى غير ما يفترض أن تكون عليه، سواء لجهة الخلط المفرط بين التقوى والتفضيلات الشخصية، أو محاولة فرض أجندات خاصة، أو حتى الفتوى عن جهل بقضايا ذات طابع متخصص، هذا عداك عن الفتاوى التسويقية التي تلجأ إليها البنوك الإسلامية (وما ماثلها، مثل شركات المشروبات الغازية الإسلامية) لتسويق منتجاتها متجنبة التدقيق الفقهي المطلوب.
وأرجو في البداية أن أشير إلى حقيقة مهمة، وهي أن كثيرا من هذه الفتاوى المشكلة إنما تصدر عن مفتين أفراد، هم في الغالب لا صفة مرجعية لهم أو يعملون لدى الشركات المعنية، ما يجعلنا ندعو منذ البداية إلى التأني قبل الاستماع لهم، والتعامل بدلا من ذلك مع مرجعيات الفتوى التي تتصرف بمسؤولية المفتي أكثر من شهوة الشهرة أو رغبة الظهور أو المصلحة الضيقة.
وحين أقول ذلك، فإنني أذكر أن مرجعيات الفتيا الرسمية (وهي المرجعيات المعول عليها فقها ومصلحة إذا كنا نفهم دور الفقه والفتيا بشكل سليم) مطالبة بأن تلعب دورا أكثر إيجابية في هذا الإطار ليس فقط لتيسير أمور الناس، وإنما لتخليصهم كذلك من الفتاوى التيك-أواي وفتاوى المصالح والمضاربات
لماذا أقول هذا؟ دعوني أذكركم بفتوى أثارت جدلا كبيرا، وهي الفتوى التي أصدرها مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر (ومن قبله مفتي مصر) حول سندات الخزانة المصرية وبعض المعاملات البنكية. وهذا المجمع لمن لا يعلم يضم نخبة من فقهاء مصر المميزين، الذين يجمعون تخصصات فقهية عدة، ويمتازون بأنهم غير مسيسين، (أو بكلام آخر، ليسوا من أصحاب المواقف المسبقة الجاهزة). ولعلكم تذكرون أن هذه الفتوى تمت شيطنتها في بعض وسائل الإعلام، رغم أنها فتوى عملية نتجت عن دراسة منطقية للسؤال المطروح وأجابت على ضرورات فقهية واقتصادية ومجتمعية بما يتفق وشرع الله. كيف تعاملنا معها؟ اختصرناها في عنوان تبلويدي عريض اسمه: (الأزهر يبيح الربا).. ولا زلت أسأل كل من يرفع هذا العنوان: هل تعرفون عمّاذا كانت هذه الفتوى تتحدث، أو هل قرأتموها؟ والجواب الجاهز دائما: سمعنا!!
ولكم هنا أن تتخيلوا كم تضرر كثير من الناس لأن "الدعاية المضادة" والمتعمدة صورت لهم الأمر على غير ما هو، فبينما تحدثت فتوى مجمع البحوث الإسلامية عن نشاط اقتصادي واستثماري حلال مجيبة على أسئلة تفصيلية بشأنه، كانت الصورة التي ينقلها المخالفون قلبا للحقيقة دون تقوى ولا دراسة ولا تفصيل، وإنما تفضيلا لرأي مسبق متعسف! وقد كانت هذه الفتوى فرصة ممتازة لبدء نقاش فقهي متعمق حول القروض الاستثمارية والمعاملات المالية المستحدثة وتجارة المال وتطبيقاتها المعاصرة بشكل أوسع يضم إلى المجمع شقيقه الأكبر مجمع الفقه الإسلامي، لكن ماذا نفعل إذا غلب الهوى (المسبق) الفتوى؟؟
إننا، دون أن نقصد، نقع ضحية منطق غريب في الفتيا والتدين، ناتجِ عن توجه بعض من يحاولون احتكار التقوى إلى محاولة ربط كل ما له صلة بالتطبيقات الحياتية والاقتصادية والحكومية الحديثة بالمعصية، حتى لو اقتضى ذلك ليّ عنق النصوص وتحميلها من المعاني ما لا تحتمل. وما الطريقة التي يتعامل بها كثيرون مع الآية الكريمة (ومن لم يحكم بما أنزل الله ...) إلا مثل بسيط! وهم ينسون في ذلك كله أن الشريعة في دين الله إنما ترتبط بالحياة ومعاملاتها ومشاكلها ومصانعها ومزارعها ومبانيها، أكثر مما ترتبط بالحدود والتكفير والترهيب وما إلى ذلك.
وهذا يعني أنه لا يجوز أن يفتي في مصالح العباد والبلاد كل من هب ودب؛ وثمة وزرٌ كبير تتحمله البنوك التي تسمي نفسها بالبنوك الإسلامية، حين أنشأت نظاما خاصا للفتاوى مرتبطا بمنتجاتها التجارية، ولم يبق إلا أن يضيفوا إلى إعلاناتهم ختما على طريقة السمك المذبوح حسب الشريعة الإسلامية. تمثل حالة التورق نموذجا واضحا لهذا الجدل الذي لعبت فيه شهوة الربح لدى بعض البنوك (الإسلامية) دورا أكبر من فكرة تقديم التعاملات الحلال. وكلنا يذكر الجدل الذي دار بعدئذ بين البنوك الإسلامية نفسها، ومستشاريها الشرعيين أنفسهم، بين محرم ومحلل للفكرة، ومتراجع ومراجع، حتى أربكوا الناس بطريقة غير مبررة! وقد كان الأمر أيسر منذ البدء لو أن "مجمع الفقه الإسلامي" أو لجنة متفقا عليها لفتاوى الصيرفة الإسلامية هي التي درست الفكرة وأفتت فيها. وفي غياب لجنة كهذه، كان الواجب أن ترفع المسألة إلى مفتي البلد لا إلى مفتي البنك، أيا كان!
لكن الحد الفاصل ليس هنا! إذ بين فتيا الأزهر (بما اتهمت به من تساهل) واجتهاد التورق (بما مثله من ارباك) يظل السؤال المطروح أيهما الأقدر على تقدير المصلحة العامة والإفتاء بها؟ وهل مفتو البنوك والشركات، مثلا، يحق لهم ذلك؟ إليكم المثل التالي:
قبل أسابيع قليلة، أصدر مفتي الديار الأردنية الشيخ نوح القضاة فتوى بحرمة التعامل مع (شركات المتاجرة في البورصات الدولية عبر الإنترنت)، وهو كان يقصد حالة محددة تتمثل في شركات مارست النصب والاحتيال على الناس (على طريقة توظيف الأموال السيئة الصيت)، ومعظمها يحاكم الآن أمام المحاكم الأردنية. فجأة، تناسلت فتاوى بطريقة الفاست فتوى لكل شركة، ترد على المفتي العام، وتبيح هذه التعاملات يمنة ويسرة، دون إدراك لمصلحة أحد سوى مالكي هذه الشركات.
نتحدث ها هنا عن المصلحة، وهذه مسألة ذات أهمية كبيرة في الفقه الإسلامي، وخاصة أن شأن الإنسان هو عمارة الأرض؛ ما ينساه كثير ممن يفتون. وحتى لا تفهم إشارتي خطأ، أقول إن المقصود هنا ليس تقديم المصلحة على شرع الله، وإنما فهم المصلحة العامة وإعمالها ضمن إطار الفتوى، حتى لو تعارضت مع مصلحة آنية أو لحظية لشركة أو رجل أعمال.
ثم هنالك المصلحة الظرفية التي ترتبط بالمكان والزمان، فما يصح فقها أو عرفا في بلد قد لا يصح بالضرورة في بلد آخر، فكيف يصح عندها لمفتٍ أن يفتي الناس في بلد ما بأحكام يختلف تكييفها القانوني والفقهي عما هو شائع في ذلك البلد؟ أليس لمثل هذا نشأت المذاهب الفقهية العديدة؟ أوليس لمثل هذا راجع بعض أئمة الفقه فقههم وفتاواهم حين انتقلوا من بلد لآخر؟
وثمة إشكالية تغيب عن بال عدد غير قليل ممن يفتون، وعلى الأخص أولئك المسيسين منهم، تتمثل في الحجية الفقهية للقوانين السائدة (المعروفة بالوضعية)، طالما لا تأمر بمعصية واضحة، وبالتالي فمن المنطق أن تأخذها الفتيا بعين الاعتبار عند دراسة التطبيقات الاقتصادية والمالية فقها وتأصيلا. وبدهيٌ هنا التذكير أن قلة نادرة من قوانينا المعاصرة هي التي يمكن أن توصف بأنها تأمر بمعصية، هذا إذا نظرنا إليها نظر من يحسن الظن بأخيه، لا نظر من ينتظر ليثب إلى مقعده. وللتذكير فإن كثيرا من الفقهاء يوجب احترام العرف الحسن، فكيف بالقوانين التي تنظم وتحفظ مصالح العباد والبلاد؟
وأسجل ختاما قضية مكملة تحتاج للنقاش، فمن متابعتي للدراسات الأكاديمية المتخصصة أسجل أن دارسي ما يعرف باسم ماجستير الاقتصاد الإسلامي هم في الغالب من خريجي الاقتصاد والعلوم المالية والمصرفية، وفي معظم الأحيان يكون الهدف هو للحصول على عمل في البنوك الإسلامية، ما يؤطر الأفكار والبحوث في هذا الجانب.
أما في كليات الشريعة، فالغالب غياب التخصص في الاقتصاد الإسلامي (كتخصص شرعي) إلا ما ندر. وفي الأسماء المتداولة على الساحة اليوم، يكاد يوجد رجل واحد يحمل مثل هذا التخصص الدقيق هو الدكتور عبد السلام العبادي أمين عام مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي. وفيما عدا ذلك، فالأكثرية تتعامل مع الاقتصاد والمال من خلال المنظور التطبيقي العام لفقه المعاملات، أو من خلال الممارسة الوظيفية كما في حالة مستشاري البنوك. إنني أدعو كليات الدراسات الإسلامية أن تولي هذا الشأن بعده التخصصي المطلوب، حتى نقدم لأجيالنا القادمة معادلة منطقية للتعامل مع متطلبات العصر الحديث اقتصاديا وماليا، والأهم من ذلك، حتى لا نبقى اسرى لتفسيرات مبتسرة وقسرية ضمن ما يسمى نظريات الاقتصاد الإسلامي التي تحاول بعض التنظيمات السياسية (ولن أسميها الإسلامية) فرضها بخلط متعمد وشائن بين التقوى والكثير من الهوى. ولكم أن تتخيلوا هنا أن هنالك من يحرم الشركات المساهمة العامة، ومن يعتبر الجمارك والضرائب اغتصابا لأموال الناس، وغير ذلك من فتاوى الهوى المغرض، كفانا الله شرها.
بقيت قضية مهمة: فمقتضى الآية الكريمة (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) والحديث الشريف (من أفتى بغير علم فليتبوأ مقعده من النار) لا يقصد العلم الشرعي وحده. أليس لهذا، لا تقبل فتوى مفتٍ في شأن طبي تتعارض مع ما هو معلوم بالضرورة من الطب؟ فما بالكم يا بعض المفتين تفتون في مصالح العباد والبلاد وأموالها دون حتى أن تدركوا عماذا تتحدثون؟
ساحة النقاش