توفر الأزمة المالية العالمية الراهنة الفرصة للعديد من الدروس سواء للأعمال أو للإدارة الاقتصادية بما يسمح بتحقيق فوائد وإنجازات إيجابية حتى في وقت يسود فيه التشاؤم وعدم الوضوح. وتوفر الأزمات في العادة، فرصة لقادة الأعمال المتبصرين لتحقيق نجاحات يعجز غيرهم حتى عن التفكير بها، ويبدو أن الأزمة الحالية توفر مخزنا كبيرا من الأفكار لمثل هذه النوعية من قادة الأعمال.
الاستثمار .. لا ينبغي أن يتوقف
تتيح أوقات الأزمات أنواعا جديدة من الاستثمار، وخاصة في شراء الأصول، بظروف وشروط قد لا تكون متوفرة في الأوقات العادية. وقد كنت أتوقع أن يستفيد كثير من المتمولين العرب من أزمة الرهن العقاري الأمريكي في بداياتها، وليست لدي أرقام حول هذا الأمر، لكن الظروف الحالية تتيح الكثير من الخيارات خاصة للذين تتوفر لديهم سيولة منتجة غير معتمدة على الأسواق الافتراضية. وعندما أتحدث عن الأصول فأنا لا أتحدث عن شراء الأسهم لغايات المتاجرة بها، قدر ما أقصد الاستثمار في الشركات المعنية وخاصة الشركات التي لا تزال تشكل أعمدة الاقتصاد التقليدي كالشركات الصناعية المتخصصة وتقنية المعلومات والبيوتكنولوجي وما إلى ذلك. صحيح أن البعض قد يتردد لأسباب أخلاقية حتى لا يوصف بالانتهازية، لكنني أذكرهم بما يمكن أن يحصل إذا لم يتقدم متمول لإنقاذ شركة ما من الشركات المتعثرة.
وهنالك جانب آخر للاستثمار أثناء الأزمات، وهو الاستمرار في التوسع والنمو والتخطيط للأفكار والأسواق والمنتجات/الخدمات الجديدة، لأن هذا ما يضمن استمرار الميزة التفاضيلة مع منافسيك، خاصة إذا كنت أصلا تعمل على أساس خطط طويلة الأمد. مثل هذا الأداء يؤدي إلى نتيجة مهمة تتمثل في تقليل الخسائر المحتملة، وبناء عملية تعويض داخلية لما قد تكون تعرضت له منها لا قدر الله.
من قال إن الكل يخسرون؟
أحد الأخطاء الغريبة في التعامل مع الأزمة الحالية افتراض أن جميع القطاعات التجارية والصناعية تخسر أو تعاني من أزمة. كلا! آي بي أم، مثلا، أعلنت الأسبوع الماضي عن أرباح مرتفعة تقارب 25%.. وهذه أخبار جيدة تقول لنا النقطة الأهم: الاقتصاد التقليدي لا يزال قويا ومتماسكا، سواء في أمريكا أو خارجها، والشركات القليلة التي تأثرت (من شركات الاقتصاد التقليدي) هي الشركات التي تعتمد بنسبة أو أخرى في تمويل عملياتها على المتاجرة بأسهمها هي في الأسواق الافتراضية، وهو في كل الأحوال دليل أن الأداء الأصلي لهذه الشركات لم يكن صحيا.
وهنالك حقيقة ينساها كثيرون، هي أن الاقتصادات الافتراضية في الوضع السليم تستمد قوتها من قوة الاقتصاد التقليدي، لكن عندما تحصل تجاوزات (كالمضاربات أو الارتفاع المتتالي المبالغ فيه للفوائد)، فالقوة الشكلية ليست إلا ورما يحتاج لعلاج.
هل سنعود للزمن الجميل؟
في مقالة قرأتها قبل سنين، وصف كاتب بريطاني المصارف الإسلامية بأنها تشبه "البنوك الأوروبية قبل أن تتعلم السرقة". أدرك أن هنالك الكثير من التحفظات على المصارف الإسلامية، ولدي الكثير من هذه التحفظات، إلا أنني أسجل لبعض نماذج الصيرفة الإسلامية أنها نجحت في تقديم بديل أخلاقي لتغول منطق الفائدة في الاقتصاد الرأسمالي. أدرك أيضا أنه كانت هنالك فرصة جيدة لهذه المصارف بأن تقدم نفسها للمستهلك الأمريكي خلال الشهور الماضية، لكن ما أطمح إليه حقيقة أن تكون هنالك مبادرة منطقية سواء بقرار سياسي دولي أو مصرفي لإعادة الاستثمار في الصيرفة الأخلاقية، لأنه لا يعقل أن يمتلئ العالم بدعوات ومبادرات المسؤولية الاجتماعية، وكل ما تفعله المصارف تغذية جيوبها، ثم تنظيم حفلة خيرية وكفى الله المصرفيين شر المسؤولية الاجتماعية؟؟؟ ماذا عن إدماج المسؤولية الاجتماعية في الأعمال اليومية للمصارف؟
لا تجعل الأسواق الافتراضية تسيطر عليك
أحد الأخطاء التي يرتكبها بعض رجال الأعمال الشباب، وبهدف تسريع الحصول على أرباح، يتمثل في التركيز على الأسواق الافتراضية من خلال المتاجرة بالأسهم. وفي الوقت الذي يمكن لهكذا أسواق أن تحقق ربحا، فإن نسبة المخاطرة فيها تبقى كبيرة، خاصة في الأوقات التي تسود فيها المضاربات. وإذا كان ليس من الحكمة وضع البيض كله في سلة واحدة، فإن هذه الأسواق هي السلة التي يتحدثون عنها.
أما المضاربات، ومع اتفاقي مع الدعوات لتجريم المضاربات في مختلف الأسواق المحلية والعالمية، وسواء أكانت أسواق أسهم أم غيرها، فمن المهم أيضا أن نتذكر أن عوامل التحكم في أدائها لم تعد في يد أفراد أو شركات معينة، بل أصبحت أكثر انفلاتا (أو ربما انضباطا مع مصالح غريبة!) بحيث يحتاج الأمر إلى أكثر من الحكمة وكثير من التروي قبل الوقوع في إغراءاتها!
الأسواق المفتوحة .. ليست فوضى
وعلى ذكر المضاربات، نذكر أيضا بأن مفهوم السوق المفتوح، الذي يحاول المضاربون استغلاله، يجب أن يحمل في ثناياه أدوات حمايته، ولهذا تنشأ هيئات تنظيم قطاعات الأسواق المختلفة. ترى هل حان الوقت لنقل فكرة هذه الهيئات من المستويات الوطنية إلى العالمية؟ ماذا عن المضاربات الأخيرة التي أدت إلى الارتفاع الهائل في أسعار المنتجات الزراعية؟ أستغرب أحيانا عندما أجد بلدا يؤسس هيئة لتنظيم قطاع النقل العام أو الاتصالات، ثم عندما يتعلق الأمر بالخبز والغذاء والزراعة، يقال: سوق مفتوحة؟
الأقربون أولى بالمعروف
الحمد لله، لم نسمع أن مستثمرا عربيا تعرض لخسارة كبيرة نتيجة للأزمة الحالية، خاصة فيما يتصل بالاستثمارات في الأسواق الغربية، لكننا ، ومرة أخرى بمنطق رفض السلة الواحدة، نذكر بأن فرص الاستثمار في دولنا لا تزال كبيرة وهائلة وقابلة للنمو والازدهار. وللمترددين أقول إن شركات عملاقة مثل إعمار وزين وغيرهما هي الدليل على أن الاستثمار في بلداننا حصان سابق، وخيار مربح.
لا تشاهد قناة الجزيرة!
أسوأ ما يتم حاليا هو محاولة أدلجة الأزمة الراهنة، وأسوأ النماذج هو نموذج إحياء الموتى على شاشة قناة الجزيرة التي بدأت تقديم إطار إيديولوجي للأمر على أساس نهاية الرأسمالية (وعودة ماذا؟)! إذا كنت رجل أعمال تأخذ أعمالك بجدية فنصيحتي لك أن لا تأبه لهذه الأدلجة المفتعلة، وأن تركز بدلا من ذلك وسائل استفادة أعمالك من الأزمة الراهنة ومسارات الحل التي تلوح في الأفق! تذكر أن الثقة جزء أساسي من الحل!
الدرس الأهم: المستقبل!
أعتقد أن أهم الدروس التي سيخرج بها العالم من هذه الأزمة يتمثل في موازنة العلاقة بين الاقتصاد التقليدي والاقتصاد الافتراضي، وخاصة لجهة تحجيم المدى الذي يمكن لتحركات أسواق المال أن تؤثر فيه على الأداء الاقتصادي بشقيه الجزئي والكلي. وأعتقد أنه آن الأوان لإدارات الأسواق المالية العربية (ومثلها هيئات تنظيم قطاعات الأسواق المختلفة) أن تدرس بعناية سلبيات التطبيق الأمريكي للسوق المفتوحة مقارنة بأسواق أكثر تحفظا، مثل بعض الأسواق الأوروبية، بما في ذلك دراسة الأطر القانونية المتعقلة بعوامل التأثير في هذه الأسواق (مثلا، ما مدى قانونية قيام وسائل أعلام بنشر أخبار تؤثر سلبا أو إيجابا على أسعار أسهم منتقاة؟، وما هي الاحتياطات القانونية لمنع حصول أزمة رهن عقاري في أي بلد عربي، خاصة مع تنامي ظاهرة مضاربي العقارات)
نشرت فى 3 نوفمبر 2009
بواسطة printingpapers
احمد هانى السيد عبد العزيز قدور
حاصل على بكالريوس تجارة جامعة الزقازيق اهتماماتى بالتكنولوجيا والكمبيوتر احب الموسيقى الهادئة »
أقسام الموقع
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
678,330
ساحة النقاش