بسم الله الرحمن الرحيم
وقع بين يدي كتاب رائع جدا للشيخ جاسم محمد المطوع (حوارات إيمانية ودعوية) ، الكتاب قديم بعض الشيء لكنه جديد بأفكاره ،أسلوبه شيق وممتع .
يعالج الكاتب من خلاله بعض المشاكل الإيمانية واعتمد في ذلك على مجموعة من الحوارات والقصص التي تقرب المعنى المراد للقارئ ، وحرص أيضا على أن يكون الحوار قصيرا وهادفا لأن الكلام الكثير -وإن كان جميلا- ينسي بعضه بعضا .
وسأنقله لكم بعدة مشاركات ، أتمنى لكم كل الإفادة والمتعة.
نبدأ بعون الله
المحاورة الأولى
حوار مع الدنيا
انتقلت من مكان إلى مكان هروبا من الدنيا ، وحاولت أن أبتعد عنها فلم أستطع ، غيّرت وظيفتي ،وغيّرت منزلي ،وغيّرت مجتمعي ، وغيّرت بلدي ،وغيّرت كل شيء في حياتي ،وما زالت الدنيا في قلبي وهي محل فتنتي ، وتبيّن لي أنّ صفاتها وعلاماتها لا تتغير بتغير الزمان والمكان،فهي هي كما هي.
وكانت أمنيتي أن تتمثل الدنيا أمامي حتى أصارحها فأقتلها ، فأكون قد تخلصت منها وأخرجتها من قلبي .
وبينما كنت أجلس وحدي ، تمثلت الدنيا أمامي !!
قالت الدنيا : ماذا تريد يا عبد الله ؟ ها أنا ذا أمامك .
قلت وأنا متأسف : إنه ليحزنني أنني أحبك ، وأهواك ، ولا أستطيع أن أتركك .
الدنيا : أن هذا الشعور طبيعي ، ومن ادّعى أنه يحبني فهو كاذب ، فأنا من خلق الله تعالى ، وأنا محبوبة إلى النفوس .
عبد الله : وكيف تقولين إنّ هذا شعور طبيعي ؟
الدنيا : نعم ، إنه لشعور طبيعي ، ولكن الخطأ الذي يقع فيه أكثر الناس أنهم يقدمون أمري إلى أمر الآخرة .
عبد الله : وهل أنا منهم ؟
الدنيا : نعم ، ولكن فيك صفات طيبة .
عبد الله : وكيف أعرف حقيقتك ؟!
الدنيا : من قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " الدنيا حلوة خضرة " ، فقد وصفني النبيّ صلى الله عليه وسلم بأني حلوة خضرة ، ولكن بالنسبة للمؤمن سجن له قوله عليه الصلاة والسلام : " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر "
عبد الله : ولكني أعرف بعض المؤمنين يعيشون في نعيم ورفاهية !!
الدنيا : ليس المراد بالسجن هو السجن الحديدي - الذي تفهمه – وإنما التقييد بأمر الله ، وما السجن إلا قيد ، ولهذا قال محمد بن السماك - رحمه الله - :
" يا ابن آدم أنت في حبس منذ كنت ، محبوس في الصلب ، ثم في البطن ، ثم في القماط ، ثم في المكتب ، ثم تصير محبوسا في الكد على العيال ، فاطلب لنفسك الراحة بعد الموت حتى لا تكون في الحبس أيضاً " .
عبد الله : الله إنه لمعنىً أدبي جميل . لقد فهمت الآن . ولكن ما سبب تسميتك بالدنيا ؟
الدنيا : لو علم الناس معنى اسمي لما فتنتهم زينتي .
إن اسمي له معنيان : 1- من الدنو : أي قريبة الزوال الانتهاء .
2- ومن الدناءة : أي القبح إذا ما قارنتني بالآخرة .
عبد الله : وكيف أتعامل معك حتى لا أفتن ؟!
الدنيا : إنّ هذا لسؤال خطير ، تجعلني أبوح بسر من أسراري . لأني أصطاد الناس أحيانا بالأموال وأحيانا بالنساء وأحيانا بالمناصب وكل ذلك من زينتي ، والزينة من صفاتها أنها مؤقتة ، وهل رأيت يوما زينة عرس دائمة ؟ أو زينة عروس دائمة ؟!
عبد الله (بشدة) : يا دنيا أجيبي عن سؤالي ولا تبتعدي ، فكيف أتعامل معك ولا أفتن؟
الدنيا : مهلا يا صاحبي فلا تتعجل عليّ .
ثم قالت : أهم صفة ينبغي أن تتوفر في الذي يتعامل معي هي " اليقظة والفطانة " .
فأنا حاضرة الملذات ، وحاضرة الشهوات ، فمن جعلني معبرا للآخرة فهو الخاسر ، فأنا دار بلاغ ولست بدار متاع . وقد قال الحسن البصري - رحمه الله - :
" إياكم وما شغل في الدنيا ، فإنّ الدنيا كثيرة الأشغال !! لا يفتح رجل على نفسه باب شغل إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب "
عبد الله : إذن سوف أعتزلك تماما حتى أنجو .
الدنيا : ليس هذا ما أردت . ولكن ينبغي أن تتعامل معي بحذر ، وكلما فتح لك باب من الدنيا افتح أنت بابا للآخرة ، حتى لا تنسى نصيبك منها ، وتعيش متزنا كما أمرك الله تعالى .
عبد الله : ولكن أخاف .
الدنيا : لا تخاف وافهم كيف تتعامل مع زينتي ، ولا تكن كما قال ابن مسعود -رضي الله عنه - .
عبد الله : وماذا قال ابن مسعود - رضي الله عنه - ؟
الدنيا : قال : "لا ألفين أحدكم جيفة ليل ، قطرب نهار " .
عبد الله : وما معنى قطرب نهار ؟
الدنيا : أي : هي الدويبة التي تجلس هنا ساعة وهنا فلا تستريح نهارها سعيا .. وهكذا بعض الناس يتحرك في أمر دنياه ليل نهار ، ولا يفكر في أمر الآخرة .
"فابن آدم مسكين لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة " .
عبد الله : وبماذا توصيني ؟
الدنيا : أوصيك بتذكر قول الله تعالى دائما : "واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا " .
وإن كنت تحذرني مرة فاحذرني بعد اليوم ألف مرة .
عبد الله : لا أظن أنك ستفتنيني بعد ما تصارحنا ؟ !
الدنيا : " قالوا للغراب ما لك تسرق الصابون ؟ قال : الأذى طبعي " .
و أنا أقول لك إن الفتنة طبعي ، فاحذر أن تكون من عشاق الدنيا . واحذر أن تكون جيفة ليل قطرب نهار .
ثم اختفت الدنيا فجأة .
فأخذ عبد الله ينادي ... يا دنيا ... يا دنيا ... فلم يجبه أحد ... ثم طأطأ رأسه وقال : الحمد لله الذي وفقني لفهم حقيقة الدنيا ثم أنشد :
إذا كنت أعلم علما يقينا
بأن جميع حياتي كساعة
فلم لا أكون ضنينا بها
وأجعلها في صلاح وطاعة
.
نشرت فى 21 يناير 2009
بواسطة princess
عدد زيارات الموقع
1,741,026
ساحة النقاش