عمرو خالد يكتب: مزق التوكيل
٢٣/٩/٢٠٠٨
(١)
حدث تغير خطير في الخمسين سنة الأخيرة في النظرة لدور الأب، ليس في بلادنا العربية فحسب وإنما في العالم أجمع. ففي الماضي، كانت النظرة للأب هي نظرة المربي، الناصح، مصدر القيم والأخلاق والأمان، المثل الأعلي، من يضبط عقلانية التعامل مع الأولاد بجانب عاطفة الأم فتستوي وتتوازن الأمور، حتي حدث هذا التَحوُّل!
لقد حدث افتراض خاطئ تسبب في مصائب كثيرة. فقد تحوَّل دور الأب إلي أنه شخص يقوم بعمل توكيل عام أو تفويض شامل بتربية الأولاد للأم علي أن يكون هو ممولاً مالياً. فلكلٍ منهما مسئوليته الخاصة، الأب يسعي علي رزق الأولاد والأم تقوم بتربيتهم.
ففي حياتنا اليومية، إذا انحرف ولدٌ ما، تجد أن الأب يتشاجر مع الأم قائلاً: «أين كنتِ وقتها عندما أدمن المخدرات؟! فقد كنت أشقي ليلاً ونهاراً لتربي أنتِ ولكنك لم تفعلي!» ولا تستطيع الأم الدفاع عن نفسها آنذاك لأنها مدركة أنه قد وكَّلها، وقد قبلت هي هذا التوكيل.
وأنا مدرك واقع الحياة الصعبة التي قد تضطر الأب إلي العمل ليلاً ونهاراً وإلي كثرة السفر، وأنا مُدرِك لهذا الكلام لأنني أحد الآباء الذين يضطرهم عملهم إلي كثرة السفر- ولكن في النهاية ابنك محتاج رعايتك أيها الأب كما يحتاج لأمه تماماً، وإلا فإني أسالك: «لماذا أنجبتهم؟».
الحل هو «إلغاء التوكيل»! فحقيقة الأمر هو أن الأب قام بتوكيل الأم لتربية الأولاد، والأم قامت بتوكيل المربية، والمربية مزقت هذا التوكيل، فلم يجد الأولاد من يقوم بتربيتهم! حرام هذا! ليس حرامًا من أجل أولادك فقط، وإنما حرام من أجل مستقبل نهضة بلادنا، فأنت بهذا التوكيل تكون قد قضيت عليهم اًوعلينا!
(٢)
أشياء أم أوقات؟
لك أن تمنح أولادك إما أشياء مادية أو أوقات، فأيهما أغلي وأعمق وأكثر إفادة؟ الأوقات.. فالأوقات لأولادنا تعني وجود المثل الأعلي ومصدر القيم والرجولة. فمن تَبِعات القوامة أن تعمل صباحاً وترعي أولادك مساءً، فهم أولي بالوقت الذي قد تقضيه مع أصدقائك هنا وهناك، وسوف تجد في هذا الوقت لذّة ما بعدها لذّة، ويكون من أحلي الأشياء التي تستمتع بها كأب إذا كنت صديقاً لهم.
إن بداية احتياج ابنك إليك تبدأ من سن ٤ سنوات: فمنذ وقت الولادة وحتي سن ٤ سنوات تكون أمه هي مركز حياته وتمثل أنت له نقطة جانبية كأب، ومن سن ٤ سنوات حتي سن ٧ سنوات يحتاج إليك الولد والفتاة، ولكن احتياج الولد إليك يكون أكثر، ففي تلك المرحلة عند الولد تبدأ أولي المحاولات الفطرية عند الذكر لتشكيل شخصيته كرجل، فهو يريد أن يستشعر أنه رجل ويريد أن يتعرف علي عالم الرجولة، فيسعي للتخلص من عالم الأنوثة شيئاً فشيئاً ويبتعد عن أمه، ويسعي نحو عالم الذكورة ويتقرب من أبيه، فيستكشف هذا العالم في والده، لذلك يحتاج لك ابنك في هذا الوقت.
وستجده يقوم بتقليدك بمنتهي الدقة ولفت انتباهك بأي طريقة، فإذا حرمته أنت من غريزة رؤية الذكر والأب تبدأ المعاناة بداخله: «هذا الشخص هو الوحيد الذي يستطيع منحي استكشاف هذا العالم، لماذا لا يريد منحي إياه؟!» هذه أول سن يحتاج ابنك إليك فيها.
أما بالنسبة لابنتك فهي تحتاجك أيضاً في مثل هذه السن الصغيرة، ولكن احتياجها لك يتضاعف مع دخول سن المراهقة لاحتياجها للأمان والاطمئنان، لما يحدث في تلك الفترة من اضطرابات نفسية وجسدية ولأنها أضعف، حتي وإن لم تؤدِ عملاً جلياً لها، فوجود الأب فحسب وحضنه وتقبيله لها علي جبهتها هي في حاجة له في ذلك الوقت.
(٣)
سمعت هذه القصة لرجل يبلغ الآن من العمر ٣٥ عاماً، يقول: عندما كنت في الثانوية العامة وكان لدوري كرة القدم للمدارس في ذلك الفترة شأن كبير، وصلت فرقتي للمباراة النهائية وطلبت من والدي وهو شخصية مهمة في المجتمع أن يحضر المباراة.
كنت حارس المرمي لذلك الفريق وأثناء تدريبات ما قبل المباراة لمحت أبي بين الحضور ففرحت لذلك فرحاً شديداً، فأشار هو لي ثم جلس وبدأ في الكلام مع من حوله من دون أن يعير اهتماماً جاداً بابنه بالرغم من محاولاتي لفت انتباهه واستعراض مهاراتي أمامه حتي يصفق لي الناس ويشعر هو بذلك، وبعد ١٠ دقائق من بدء المباراة جاءه من همس له في أذنه ثم خرج معه. يقول الابن: لقد أتممت المباراة ولكن باكياً!
ومازلت أتذكر هذة الواقعة إلي اليوم، لم أسأله ماذا كان أهم مني ولكنني شعرت أن كل شيء كان أهم مني. تُوفي الوالد بعد أن عاش عمره كله مع هذا الابن بهذه الطريقة، يقول الابن: فوقفت علي قبره ووجدت نفسي تقول له: «لم أعرفك! ولم أفهمك! ماذا كان أهم مني عندك؟ لماذا تركتني؟ من أنت؟ أنت أبي وأنا أحمل اسمك ولكنني لا أعرفك!».
أيها الأب من فضلك مزق التوكيل.. ابنك يحتاج إليك
عدد زيارات الموقع
1,741,562
ساحة النقاش