ما هو الصيام؟ ما حقيقته؟ ما أسراره؟ ما آثاره؟

هل الصيام ترك الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ويفعل الإنسان بعد ذلك ما يشاء؟

لو أن الصيام هكذا، لكان أهون شيء على الناس، ولما استحق هذا الأجر الكبير الذي أخبر الله تعالى عنه في قوله: «كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزى به» [متفق عليه].

* قال بعض السلف: أهون الصيام: ترك الطعام والشراب.

* وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة الصيام في قوله: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» [رواه البخاري].

فالصيام الكامل هو الذي يصل بصاحبه إلى درجة التقوى، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة : 183].

ولا يصل الإنسان إلى درجة التقوى إلا بامتثال الأخلاق والبعد عن مساوئها، فلا بد في الصيام من:

1- كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة.

2- كف النظر واللسان والرجل والسمع، وسائر الجوارح عن الآثام.

3- صوم القلب عن الهمم الدنيئة، والأفكار المُبعدة عن الله تعالى، وكفه عما سوى الله بالكلية.

إن الصيام لا بد أن يترجم في دنيا الناس إلى واقع عملي، وإلا فقد روحه وأصبح جسداً بلا روح، أو صورة بلا حقيقة، أو مظهراً بلا مخبر.

أين أخلاق الصيام والقيام؟

أين الأمانة؟

أين الكرم والجود؟

أين الورع وترك الشبهات؟

أين العطف والرحمة والشفقة؟

أين الحياء والمراقبة؟

أين الصبر والتوكل؟

أين الشفاعة الحسنة والتعاون على البر والتقوى؟

ما فائدة الصيام إذا كان لا ينهى عن فحشاء أو منكر؟

وما فائدة الصيام إذا كان لا يزجر عن لغو أو باطل؟

وما فائدة الصيام إذا كان لا يردع عن غيبة أو نميمة أو حسد أو بغضاء؟

وما فائدة الصيام أذا كان لا يزكي الأنفس ويطهرها من الشح والأثرة وسائر الدناءات.

إن نظرة الناس إلى الصيام لا بد أن تتغير في ضوء مفاهيم الإسلام، وما خٌصّ به في شريعة الله من فضائل وآداب.

لا بد أن يتعامل الناس مع الصيام بصفته عبادة من أعظم العبادات وركناً عظيماً من أركان الإسلام، لا أنه عادة توارثها الأجيال جيلاً بعد جيل.

إن فئااً كثيراً من الناس يدخل عليهم رمضان ويخرج بلا تغيير في حياتهم، ولا تأثير في سلوكهم، ولا رقي في أخلاقهم. بل إن بعض الناس لا يزيدهم رمضان من الله إلا بُعداً، وهؤلاء هم المنافقون - والعياذ بالله - الذين يكرهون رمضان، ويعدون العدة لمحاربته، لإزالة أثر الإيمان في نفوس المؤمنين.

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في قوله: «ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان، ولا أتى على المنافقين شهر شر لهم من رمضان، وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة، وما يعد فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم، وهو غنم للمؤمن ونقمة للفاجر» [أخرجه أحمد والبيهقي وصححه العلامة أحمد شاكر] .

فليكن رمضان مدرسة لتربية الأمة بكل فئاتها على مكارم الأخلاق، والترقي في مقامات العبودية؛ وصولاً إلى رضا الله عز وجل وقيادة البشرية والتمكين في الأرض كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55] .

إن أخلاق الصيام كثيرة لا تستطيع هذه العُجالة استيفاءها، ولكن نشير إلى بعضها:

الصبر
فمن أخلاق الصيام: الصبر، فرمضان شهر الصبر، لأن الامتناع عن الشهوات المعتادة يحتاج إلى صبر، فيصبر الإنسان على الجوع والعطش، طاعة لله عز وجل ومحبة له، واتباعاً لنبيه صلى الله عليه وسلم. ولا بد كذلك من الصبر على أذى الناس، وسفاهة السفهاء، وتطاولهم بغير حق، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يفسق ولا يرفث، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم» [متفق عليه].

ومع هذا التوجيه النبوي الرشيد، فإننا نجد كثير من الناس يفقدون أعصابهم عند أتفه الأسباب، فيثورون ويسبون ويلعنون ويبطشون، فإذا ما هدأت ثورة غضب أحدهم وعوتب فيما حدث منه، احتج بالصيام !! وكأن الصيام هو الذي دعاه لهذا المنكر من القول والفعل. ولو علم هذا حقيقة الصيام وأنه شهر يدعو إلى الصبر والعفو والرحمة والسماحة لما افترى عليه هذا الافتراء، ولما رماه بهذا الزور والبهتان.

الأمانة
ومن أخلاق الصيام: الأمانة، لأن الصيام أمانة من جملة الأمانات التي تحمّلها الإنسان وعجزت عن حملها السموات والأرض، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاواتِ وَالأَرضِ وَالجِبَالِ فأَبَينَ أَن يَحمِلنَهَا وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} [الأحزاب:72]؛ ولذلك جاء الوعيد الشديد للمفرط في أمانة هذا الشهر العظيم بالفطر قبل غروب الشمس ولو بدقائق معدودة، فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بينما أنا نائم أتاني رجلان، فأخذا بضبعي - عضدي - فأتيا بي جبلاً وعراً، فقالا: اصعد، فقلت: إني لا أطيقه. فقالا: سنسهله لك، فصعدت، حتى إذا كنت في سواد الجبل إذا بأصوات شديدة. قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عواء أهل النار. ثم انطلق بي، فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم، تسيل أشداقهم دماً، قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يفطرون قبل تحلة صومهم» [صحيح الترغيب الترهيب].

فإذا كان هذا الوعيد الشديد فيمن يتهاونون في صومهم ويتساهلون بالفطر قبل غروب الشمس، فكيف بمن لا يصومون بالكلية؟ وكيف بمن يستهزؤون بأهل الصيام؟

الرحمة والمواساة وقضاء الحوائج
ومن أخلاق الصيام: الرحمة والمواساة، وقضاء الحوائج، فرمضان شهر الرحمة والمواساة، يتذكر فيه الغني أخاه الفقير، ويشفق عليه، ويواسيه بالمال والطعام والشراب، وقد رغّب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: «من فطر صائماً كان له مثل أجره، من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء» [رواه الترمذي وأحمد وصححه الألباني].

فيجب على الصائم أن يشعر بشعور إخوانه المسلمين، فيرحم ضعيفهم، ويواسي فقيرهم، ويغيث ملهوفهم، ويسعى في جلب المصالح لهم ودفع المضارّ عنهم، في حدود استطاعته إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها. قال تعالى: {وَافعَلُوا الخَيرَ لَعَلَكُم تُفلِحُونَ} [الحج: 77].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة من كُرَب الدنيا، فرّج الله عنه كربة من كُرَب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة» [متفق عليه].

الشفاعة الحسنة
ومن هذا الباب أيضاً: الشفاعة الحسنة، قال الله تعالى: {مَّن يَشفَعِ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَهُ نَصِيبٌ مّنهَا وَمَنَ يَشفَع شَفَاعَةً سَيِئَةً يَكُن لَهُ كِفلٌ مّنهَا} [النساء: 85]، وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجة، أقبل على جلسائه فقال: «اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما أحب» [متفق عليه].

النصح لكل مسلم
ومن أخلاق الصيام: النصح لكل مسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة» قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسله، ولأئمة المسلمين وعامتهم» [رواه مسلم].

وعن جرير رضي الله عنه قال: " بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم " [متفق عليه].

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه» [متفق عليه]. فمن حق المسلم على أخيه المسلم أن ينصح له ويدعوه إلى ما فيه صلاحه ونجاته، ويحذره من طرق الغواية وسُبُل الضلال، وهذا من مقتضى الأخوة الإسلامية واللحمة الإيمانية التي صورها نبي الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» [متفق عليه].

وفي رمضان فرصة عظيمة للنصح والتعليم والإرشاد، إذ القلوب مقبلة على ربها، والنفوس متشوقة إلى سماع كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والسكينة حاصلة، والشياطين مسلسلة، فعلى كل مسلم محب للخير أن يغتنم فرصة هذا الشهر في النصح والتوجيه والإرشاد، وبخاصة أئمة المساجد وطلاب العلم والدعاة إلى الله عز وجل، عليهم واجب عظيم في نصح الناس ووعظهم وتوجيههم في هذا الشهر العظيم المبارك.

التعاون على البر والتقوى
ومن أخلاق الصيام: التعاون على البر والتقوى، وقد أمر الله بذلك فقال سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِ وَالتَّقَوى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَانِ} [المائدة: 2].

وقال سبحانه: {وَالعَصرِ (1) إنَّ الإِنسَانَ لَفي خُسرٍ (2) إِلاَّ الذَّيِنَ أمَنُوا وَعَمَلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَواصَوا بِالِحَقِ وَتَوَاصوا بَالصَّبرِ (3)} [سورة العصر]. وفي رمضان تُقام كثير من مشاريع الخير مثل:

1- مشروع إفطار الصائمين.

2- حلقات تحفيظ القرآن الكريم.

3- حلقات دعوية لأبناء الجاليات الإسلامية.

4- توزيع الأشرطة والكتيبات والمطويات.

5- كفالة الأيتام والأسر الفقيرة.

6- مساعدة المجاهدين واللاجئين وأصحاب الكوارث في جميع بلاد الإسلام.

فعلى المسلم أن يشارك إخوانه في بعض هذه الأنشطة الخيرية، إما بماله، وإما بوقته وجهده، حتى لا يَحرِم نفسه من الأجر والمثوبة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جهّز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازياً في أهله بخير، فقد غزا» [متفق عليه].

الإصلاح بين الناس
ومن أخلاق الصيام: الإصلاح بين الناس، وهو باب عظيم من أبواب الخير، غفل عنه كثير من الناس، قال تعالى: {لا خَيرَ في كَثِيرٍ مّن نَّجواهُم إلاَّ مَن أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أو معرُوفٍ أَو إصلاَحِ بَينَ النَّاس ِ} [النساء: 114]، وقال تعالى: {إنَمَا المُؤمِنُونَ إخوَةٌ فَأصلِحُوا بينَ أَخَوَيكُم} [الحجرات: 10]، وقال تعالى: {وَالصُلحُ خَيرٌ} [النساء: 128].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتُميط الأذى عن الطريق صدقة» [متفق عليه]، ومعنى " تعدل بينهما ": تصلح بينهما بالعدل.

فأين الذين يستغلون هذا الشهر في الصلح بين الناس والتوفيق بين المتخاصمين وسلّ سخائم النفوس، وتحبيب المسلم في أخيه المسلم.

إن أخلاق الصيام كثيرة وهي تشمل كل خلق نبيل وخصلة حميدة وعمل صالح، فالموفق من استكثر من هذه الخصال وضرب في كل باب من أبواب الخير بسهم، والمخذول من غفل عن ذلك وضيع الشهر في النوم والبطالة.

نداء ووصايا
هذه نداءات نتوجه بها إلى كل فرد من أفراد المجتمع وكل عنصر من عناصره، أن يكون لرمضان تأثير في حياته وسلوكه وعمله..

* فيا أيها التاجر المسلم:
ليكن لرمضان تأثير في تجارتك .. نُصحاً للمسلمين .. وتركاً للغش والخداع .. وصدقاً في الحديث .. وسماحة في البيع والشراء .. وبُعداً عن المتاجرة فيما حرّم الله .. ونأياً عن المعاملات الربوية أو المحرمة بأي سبب شرعي .. وبذلاً من أموالك لليتامى والأرامل والمساكين .. وإسهاماً في مشاريع الخير أينما كنت.

* ويا أيها الموظف المسلم:
ليكن لرمضان تأثير في وظيفتك .. رحمةً بالمراجعين .. ودقة في المواعيد .. وحرصاً على أوقات العمل .. وإتماماً للأعمال المطلوبة منك.. وإنجازاً لجميع المعاملات المتأخرة.. ونشاطاً لا يعرف الكلل والملل.. وبشاشة عند المقابلة.. وليناً في الحديث .. وتلطفاً في الأخذ والرد.

* ويا أيها الطبيب المسلم:
ليكن لرمضان تأثير في عملك .. ولا يكن همك جمع المال واستغلال ضرورات الناس .. فالتأني التأنّي في معرفة الداء ووصف الدواء.. ولتكن رحيما بمرضاك، دقيق الملاحظة والمتابعة لكل حالة ترد عليك .. وعليك بالكلام الطيب الذي يبث الأمل والرجاء في النفوس والقلوب.

* ويا أيها المعلم المسلم:
ليكن لرمضان تأثير في درسك وحصتك .. فكن قدوة صالحة لطلابك .. واعلم أنهم يقلدونك في كل ما تأتيه من أقوال وأفعال وتصرفات.. فاحرص على تعليمهم الأخلاق الحميدة والخصال الحسنة.. وإياك أن يطّلِعوا منك على عمل قبيح أو تصرف سيء .. فعند ذلك لن يُقبل منك النصح، ولن يكون لكلامك عندهم أي تأثير.

* ويا أيها الوالد الكريم:
ليكن لرمضان تأثير في تربية أبنائك .. فاحرص على الخير في هذا الشهر الفضيل .. وعلّم أولادك فضائله وآدابه وأحكامه وخصائصه .. ولتكن أخلاق الصيام نموذجاً عملياً في تعاملك مع أهلك وأبنائك وجيرانك وأصدقائك.. حتى تكون قدوة حسنة لأبنائك وجميع المحيطين بك.

اللهم وفقنا لصيام هذا الشهر على الوجه الذي يُرضيك.. واجعلنا فيه من عتقائك من النار برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

 

  • Currently 60/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
20 تصويتات / 341 مشاهدة
نشرت فى 16 سبتمبر 2008 بواسطة princess

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

1,741,576