كثرة نعم الله عزّ وجلّ، وسعة فضله، وعظيم امتنانه على عباده، وتتابع أياديه على الخليقة، وكبير جوده على الناس، وعموم فضله على الكائنات.
إنّ على كل عبد أن يلمح نعم الله عزّ وجلّ، وهي تغمره من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وشماله، نِعم تفوق العد، ولا يأتي عليها الحصر، ولا يقيدها الحساب، نعم تتدافع وتتواصل، وتنهمر صباح مساء، وفي كل وقت وآن، نعم يهبها المنعم الجزيل دون حاجة لهذا المخلوق، ودون خوف منه، أو رجاء فيه، بل تفضل وكرم وبر وإحسان وجود وامتنان، (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (الذاريات/ 57)، ونعم الله عزّ وجلّ يجدها العبد في كل شيء يراه ويلمسه، ويسمعه، ويحسه ويذوقه ويشمه، في لسانه وبيانه وجنانه وأركانه، في عينيه وأذنيه، ويديه ورجليه، في بصره وسمعه ونطقه وفكره وفؤاده، ومعرفته مواهبه، في قوته ومقدرته، وذكائه ونبوغه وإدراكه، في غذائه وكسائه، وشرابه ومركوبه وسكنه وفراشه، في أهله وولده وزوجته وأقاربه وأصحابه، في يقظته ونومه، ووقوفه وقعوده، ومشيه وذهابه وغيابه، وعمله وصناعته ومهنته ومزاولته لكل شيء.
نعم الله في الماء والهواء، والغذاء والضياء، في المال والجمال والعيال، والحشم والخدم، والأحفاد والذرية، عين بصيرة، وأذن سميعة، وعقل مفكر، وقلب واع، ويد باطشة، ورِجْل ماشية، ولسان ناطق، وصورة حسنة، وتركيب جميل، تناسق في البنية، صوَّركم فأحسن صوركم، رأس قائم، ويد ممتدة، وساعد قوي، وجفن يرمش، وعين تتحرك، وأنف قائم، وأسنان مرصوصة، وشفتان لينتان، وأصابع بديعة الصنع، ماء في العينين مالح لغسلها من الأوساخ، ولعاب في الفم سائغ لتسهيل المضغ، وسائل مخاطي في الأنف لحبس الأدران، وصمغ لين في الأذن لحجب الداخل إليها. سبحان الخالق ملأ بطنك بالطعام، ورئتك بالهواء، ورأسك بالمعرفة.
خلقك ورزقك، أحياك وأماتك، حباك وأعطاك، أمرضك وشفاك، أجاعك وأشبعك، أظمأك وسقاك، أضحكك وأبكاك، علمك ما لم تكن تعلم، وعرفك ما كنت تجهل، أقامك وأقعدك، أنامك وأيقظك، حسّن خلقك، هيأ رزقك، سهل طريقك، أجاب دعاك، لبى نداك، وأجاب مسألتك، قهر عدوك، أرسل لك رسولاً وعلمك كتاباً وهداك منهجاً، وبعد هذا تقول أين الله!!؟ بل أين أنت منه يا مسكين؟! أوجدك من العدم ثمّ شككت في وجوده!
وأعطاك بلا حق لك عنده ثمّ أنكرت حقوقه!
وحباك بلا معروف لك لديه ثمّ جحدت معروفه!
من مشاش رأسك إلى أخمص قدميك، قد غمرك إحسانه وجميله وعطاؤه ومعروفه وتفضله فهل شكرت؟ هل آمنت؟ وهل أطعت؟ وهل عبدت؟
(قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (عبس/ 17-18).
وقد بيّن سبحانه وتعالى أن ما بنا من نعمة فمنه وحده، قال جل في علاه: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (إبراهيم/ 34)، وذكر أنّه هو الخالق الرازق المحيي المميت.
فنعم الله تترى على العبد منذ كان نطفة في بطن أُمّه، ثمّ صور سمعه وبصره ونفخ فيه الروح، ثمّ غذاه وسقاه وكساه وآواه وكفاه، ومن كل ما سأل أعطاه. والله يقول للعبد: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ) (البلد/ 8-10). ويقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر/ 15)، فانظر نعمه سبحانه وتعالى كيف صورك فأحسن صورتك، ومنحك العقل، ورزقك الفهم، وحذرك من الردى، وأرسل لك الرسول، وأنزل عليك الكتاب، وجعل في قلبك واعظاً، فإن سألت أعطاك، وإن دعوت أجابك، وإن استغفرت غفر لك، وإن استعنت به أعانك، فكل نعمة في قديم أو حديث جلت أو دقت، كبرت أو صغرت، ظهرت أو خفيت فهي من الله وحده ليس إلا. فإنّ العبد قد يستغني عن كل الناس قريبهم وبعيدهم، كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، ملكهم ومملوكهم، لكنه لا يستغني عن ربه وخالقه طرفة عين.
والناس إذا فعلوا بالعبد خيراً فإنّما يفعلونه لمقابل، إما لثناء أو دعاء أو جلب منفعة أو دفع مضرة، لكنهم لا يفعلون بالعبد خيراً مهما قل بلا مقابل، فإنّ العبد شحيح مقتر محاسب شديد لحب الخير.
أمّا الله فإنّه يعطي عباده عطاءً لا يخشى معه الفقر، لا يرجو نفع الناس ولا يخاف ضرهم؛ بل يعطي فضلاً منه وكرماً وجوداً ولطفاً، يعطي البر والفاجر، والمؤمن والكافر، والمحب والمبغض، فغناه مطلق، وجوده محقق، وقوله مصدق، وفضله عظيم، وخيره عميم، وعطاؤه جسيم، وهو العلي الحكيم.
والعجيب أن شكره على نعمه تعالى نعمة أخرى تستوجب شكراً، لأنّه هو الموفق للشكر وحده، ثمّ إنه وعد بزيادة الشاكرين فقال سبحانه: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم/ 7).
حتى قال بعض العلماء: إنّ الأحياء ما أدوا شكر نعمة الله، فكيف بالنعم التي هل ملء الأرض والسماء، فلو رزق العبد عمر نوح وكان له بكل شعرة لسان لما استطاع أن يحصي نعم الرحمن، ولذلك لما ذكر الله نعمه قرر الخليقة بها فقال: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن/ 13). لذلك قال بعض الحكماء لبعض الفقراء الذي شكوا البأساء: هل تريد في بصرك ألف ألف دينار؟ قال: لا. قال: هل تريد في سمعك ألف ألف دينار؟ قال: لا. فأخذ يعدد عليه أعضاءه ومواهب الله عليه، فلما انتهى قال له: فهل شكرت ربك على ذلك؟ فقال: لا. فقال: يا هذا عندك ديون محفوظة، وحقوق مثبتة، وأنت ما أديتها وتطلب الزيادة؟! وفي الحديث: "يد الله ملآى سحاء الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنّه لم يغض ما في يديه" ويقول سبحانه: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ...) (المائدة/ 64)، ولذلك لا يعرف النعمة إلا من فقدها، فنعمة العافية منسية عند الصحيح، مذكورة عند المريض، ونعمة البصر مغفلة لدى المبصر؛ جليلة عند الأعمى، وهل هو سهل أن تعيش معافى مشافى مرزوقاً مكفيّاً، تشرب الماء وتستنشق الهواء تسير على قدميك، وتنظر بعينك وتسمع بأذنيك.
وقد ذكر أن أحد قادة الجيوش غرقت سفينته في البحر فبقي تحت الماء ثلاثة عشر يوماً، فلما خرج سألوه عن تجربته في هذه الأيام، فقال: لقد أدركت أنّ الحياة خبز دافئ، وماء بارد، وكسوة للجسم، وقد قال بعض العارفين.
خبز وماء وظل **** ذاك النعيم الأجل
كفرت نعمة ربي **** إن قلت إني مقل
فلله الحمد أوّلاً وآخراً، باطناً وظاهراً، سراً وجهراً، ملء السماوات والأرض وملء ما شاء ربنا من شيء بعد
نشرت فى 21 يونيو 2012
بواسطة princess
عدد زيارات الموقع
1,742,747
ساحة النقاش