نظرة النبي صلى الله عليه وسلم للرسل السابقين
رسول الله والرسل السابقين
عَلَّم رسول الله (ص) أُمَّتَهُ أنَّ رسل وأنبياء الله السابقين كالبناء العملاق القائم على التكامل والتعاون؛ لأداء مهمَّة واحدة، وهي توحيد الله تعالى، ومن ثَمَّ قال رسول الله(ص) : "إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا، فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ: هَلاَّ وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ. قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ"[1].
كما أَمَرَ رسول الله(ص) أيضًا أُمَّتَه ألاَّ تُفاضل بين الأنبياء، فقال: "لا تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الأَنْبِيَاءِ"[2]. وعندما حدث خلاف بين مسلم ويهودي حول المفاضلة بين الأنبياء غضب رسول الله لصالح اليهودي وليس لصالح المسلم!
فقد روى أبو هريرة فقال: بينما يهوديٌّ يعرض سلعته أُعطي بها شيئًا كرهه، فقال: لا، والَّذي اصطفى موسى على البَشَرِ. فسمعه رَجُلٌ من الأنصار فقام فلَطَمَ وجهه، وقال: تقول: والَّذي اصطفى موسى على البشر. والنَّبيُّ بين أَظْهُرِنَا؟! فذهب إليه فقال: أبا القاسم، إنَّ لي ذمَّةً وعهدًا، فما بال فلانٍ لطم وجهي؟ فقال :"لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ؟!". فَذَكَرَهُ، فغضب النبي حتى رئي في وجهه، ثم قال: "لا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ؛ فَإِنَّهُ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَيَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ، فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ، فَلا أَدْرِي أَحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّورِ أَمْ بُعِثَ قَبْلِي؟ وَلا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى"[3].
إن رسول الله لا يتحرَّج أن يذكر مثل هذه الحقائق، وبخاصَّة في هذا الموقف الذي فيه خلاف بين مسلم ويهودي؛ لقد تناسى رسول الله تمامًا قصَّة هذا النزاع، وتذكَّر أخاه في النُّبُوَّة موسى بن عمران u، فانبرى مدافعًا عنه رافعًا من شأنه؛ إيمانًا من رسول الله(ص) بأن الإسلام لا يفرِّق بينهم -عليهم السلام- ولا نكون مبالغين إذا قلنا: إنَّ الإسلام يُوجِب علينا أن نحبَّ الأنبياء السابقين، أكثر من حُبِّ أتباعهم لهم؛ لأن هذا الحُبَّ ركن من أركان الإيمان بالله في العقيدة الإسلاميَّة السمحة.
هذه هي مكانة هؤلاء الأنبياء الكرام في عين رسول الله ، وحتى عندما كان يتمنَّى من نبي فعلاً غير الذي فعل، كان يُقَدِّم أمنيَّته بالدعاء له؛ فتجده -مثلاً- عندما يتمنَّى أن لو كان موسى u قد صبر في رحلته مع الخضر يقول: "يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، لَوَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا"[7].
وعندما رأى رسول الله (ص) أن هناك كلمة أولى من الكلمة التي قالها لوط u وحكاها عنه القرآن الكريم عندما قال: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80]، قال رسول الله(ص) : "يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا، لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ"[8]
بل إن رسول الله(ص) يتجاوز الأنبياء السابقين ليمدح أتباعهم والذين ساروا على نهجهم وثبتوا على دينهم؛ فها هو ذا يمدح الراهب النصراني في قصَّة أصحاب الأخدود[9]، وها هو ذا يمدح الأعمى من بني إسرائيل الذي شكر نعمة الله تعالى[10]، وها هو يمدح جريجًا[11] ويذكر قصَّته للصحابة ولنا، وهو من عُبَّاد بني إسرائيل، وهكذا.. وإنَّ حَصْر مثل ذلك صعب جدًّا؛ لوفرته في كتب السُّنَّة النبويَّة.
وأكثر من ذلك أن رسول الله(ص) طلب من الصحابة أن يتَّخذوا الثابِتِينَ من السابقين من أصحاب الديانات الأخرى قدوةً ونبراسًا للهدى!
وانظر إلى هذا الموقف الذي يَضْرِب فيه المَثَلَ بأَتْبَاع دينٍ آخر؛ قال خبَّاب بن الأرتِّ: شكونا إلى رسول الله وهو متوسِّدٌ بردةً له في ظلِّ الكعبة؛ قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو اللهَ لنا؟ قال : "كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلاَّ اللهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ"[12].
هذه هي نظرة رسول الله(ص) للأنبياء ولأتباعهم، وهو أمر ثابت في منهج حياة رسول الله(ص) من أول بعثته، فهم لَبِنَات في صرح هائل ضخم، ولا معنى لتصارع اللَّبِنَات في البناء الواحد، إنما هو التكامل والتعاون لأداء مهمَّة واحدة، وهي توحيد الله ربِّ العالمين.
ومن ثَمَّ فإننا لا نكتفي بمجرَّد الاعتراف والإيمان بمن سبقنا من الرسل، وإنما نُوَقِّرهم جميعًا، ونجلهم، ونرفع قدرهم فوق عامة البشر، وكيف لا وقد اصطفاهم ربنا على خلقه، وجعلهم قدوة للعالمين!
بقلم---د. راغب السرجاني
[1] البخاري عن أبي هريرة: كتاب المناقب، باب خاتم النبيين (3342)، ومسلم: كتاب الفضائل، باب كونه خاتم النبيين (2286).
[2] البخاري عن أبي سعيد الخدري: كتاب الديات، باب إذا لطم يهوديًّا عند الغضب (6519).
[3] البخاري: كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: "وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ" (الصافات: 139) (3233). ومسلم: كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى u... (2373).
[4] البخاري عن عبد الله بن عباس: كتاب الصوم، باب صيام يوم عاشوراء (1900)، ومسلم: كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء (1130).
[5] قال العلماء: أولاد العلاّت هم الإخوة لأب من أمهات شتى، وأمَّا الإخوة من الأبوين فيقال لهم: أولاد الأعيان. قال جهور العلماء: معنى الحديث: أصل إيمانهم واحد، وشرائعهم مختلفة، فإنهم متَّفقون في أصول التوحيد، وأمَّا فروع الشرائع فوقع فيها الاختلاف، وأمَّا قوله : "وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ". فالمراد به أصول التوحيد. انظر: النووي: المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 15/119.
[6] البخاري عن أبي هريرة: كتاب الأنبياء، باب "وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ" (مريم: 16) (3259)، ومسلم: كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى u (2365).
[7] البخاري عن أبي بن كعب: كتاب العلم، باب ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم فيكل العلم إلى الله (122)، ومسلم: كتاب الفضائل، باب من فضائل الخضر u (2380).
[8] البخاري عن أبي هريرة: كتاب الأنبياء، باب قوله : "وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ" (الحجر: 51) (3192)، ومسلم: كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل (151).
[9] حديث أصحاب الأخدود رواه مسلم عن صهيب: كتاب الزهد والرقائق، باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام (3005)، وأحمد (23976).
[10] قصة الأقرع والأعمى والأبرص الذين ابتلاهم الله، رواها البخاري عن أبي هريرة: كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل (3277)، ومسلم في أوائل كتاب الزهد والرقائق (2964).
[11] قصة العابد (جريج) والطفل الذي تكلَّم في المهد، رواها البخاري عن أبي هريرة: كتاب أبواب العمل في الصلاة، باب إذا دعت الأم ولدها في الصلاة (1148)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة (2550).
[12] البخاري: كتاب الإكراه، باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر (6544)، وأبو داود (2649)، وأحمد (21106).
<!-- / M.Ysser هاك حفظ حقوق الموضوع لموقعك تعديل وتطوير mr.product - برمجة -->
ساحة النقاش