بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا ورسوله
وبعد :
فإن حقوق المدينة المنورة مما ينبغي التذكير بها والتشرف بالتحدث حولها ويتأكد ذلك على من رزقه الله نعمة الإسلام ونعمة محبتها والسكن فيها أو حولها وذلك لأنها بلد الحبيب صلى الله عليه وسلم وبلد الإيمان والإحسان وفيها تنال الأوطار وتحط الأوزار وينال بالصبر على لأوائها وشدتها أعظم المنى بشفاعة السيد المختار محمد عليه من الله أزكى الصلوات وآله الأطهار .
قال المجد الشرازي رحمه الله: ( وبعد فإن العناية بالمدينة الشريفة متعينة والرعاية لعظيم حرمتها لكل خير متضمناً والوسيلة بنشر شرفها شائعة والفضلية لأشتات معاهدها جامعة لأنها طابة ذات الحجرة المفضلة ودار الهجرة المكملة وحرم النبوة المشرف بآيات المنزلة والبقعة التي تهبط الأملاك عليها ، والمدينة التي يأرز الإيمان إليها والمشهد الذي تفوح أرواح نجد من ثياب زائريه والمورد الذي لا تروى من الشوق إليه غُلَّتُ وارديه والبقعة التي خصها الله تعالى بالنبي الأطهر والحومة التي فيها الروضة المقدسة بين القبر والمنبر والتوبة التي سمت على الآفاق بساكنها وفَضُلت على جميع بقاع الأرض بالبقعة التي هي أفضل أماكنها .
بقعة ضــمت الرسول تسامت ........... وعلا قدرها على الآفــــاق
فهي عنــد الجــــميع لا شــك خيــر ........... من جميع الثراء على الإطلاق .
وجدير لمواطن عمرت بالوحي والتنزيل وتردد فيها الأمين جبريل واشتملت تربتها على جسد سيد البشر وانتشر عنها من دين الله ما انتشر مدارس آيات ومساجد صلوات ومشاهد خيرات ومعاهد معجزات مناسك دين ومسالك تمكين مواقف سيد المرسلين ومتبوأ خاتم النبيين حيث انفجرت النبوة وأين فاض عبابها ومواطن مهابط الرسالة وأول أرض مس جلد المصطفى ترابها أن تعظم وتستنشق نفحاتها وتقبل ربوعها وساحتها.( ) .
هذا ولما كانت طابة الطيبة الطاهرة بتلك المكانة السامقة أردت أن أبرز بعض النقاط المتعلقة بها راجيا من المولي جل جلاله وعظم سلطانه أن لايحرمنا من التأدب والتخلق فيها بالأخلاق الكريمة الفاضلة وأن نكون ممن أحسن فيها الأدب والجوار لتحط عنا الأوزار وسأتناولها حسب النقاط التالية:-
1 – أسماء المدينة المنورة
2-فضل المدينة المنورة
3- الترغيب في سكنى المدينة المنورة
4- تطهير المدينة من المعاصي وأهلها
5- إكرام أهل المدينة المنورة
6-رعاية الضعفاء بالمدينة المنورة
7- بعض آداب الجوار بالمدينة
أولا:- أسماء المدينة المنورة
لقد وردت للمدينة أسماء كثيرة وذلك يدل علي شرفها وفضلها لأن كثرة الأسماء للشيء الواحد تدل على عظم المسمى وإليك بعض هذه الأسماء:-
1- يثرب: وسميت به المدينة قديما لأن أول من سكنها رجل من العمالقة يسمي يثرب ، وبعد هجرة النبي صلي الله عليه وسلم سماها بطابة ونهي عن تسميتها يثرب لأنها مؤخوذة من التثريب وهو الشتم والسب فترك المسلمون تسميتها "يثرب" ، إلا أن المنافقين ظلوا يدعونها يثرب كما ذكرالله تعالي عنهم {يأهل يثرب لامقام لكم فارجعوا }
2- الإيمان قال تعالى {والذين تبوؤاالدار والإيمان من قبلهم يحبون من
هاجر إليهم }، وقد ورد في الأثر أن الله سماها الدار والإيمان فهي بلد الإيمان والحياء
3- بيت الرسول صلي الله عليه وسلم ذكر ذلك بعض المفسرين في قوله تعالي {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق }
4- الجابرة: لأنها تجبر الكسير وتغني الفقير وأجبرت البلاد على الإسلام
5- الجُنة الحصينة والدرع الحصينة وقد ورد ذلك في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم يوم خروجه لغزوة أحد قال (كأني في درع حصينة وكأن في سيفي ثلمة وكأن بقرا تذبح )( ).
6- الحبيبة: لقوله صلي الله عليه وسلم (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا لمكة أو أشد ) ( )
7- الحرم: وقد ورد في البخاري ( المدينة حرم )
8- دار الأبرار: لأنها دار المصطفى صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار وهم والله الأبرار ولأنها تنفي شرارها.
9- الشافية: لأن ترابها شفاء من كل داء حتى الجذام والبرص وهو أمر مجرب بالمشاهدة.
10- الفاضحة: لأنها تفضح من أخفى فيها عقيدة فاسدة وكذلك من أضمر فيها نفاقا أو أمراً أظهره الله وفضح صاحبه.( )
11- طيبة وطابة:والطاب والطيب لغتان بمعنى واشتقاقهما من الشيء الطيب وقيل لطهارة تربتها ،وقيل لطيبها لساكنها ،وقيل من طيب العيش بها وقال بعض أهل العلم وفي طيب ترابها وهوائها دليل شاهد على صحة هذه التسمية لأن من أقام بها يجد من تربتها وحيطانها رائحة طيبة لا تكاد توجد في غيرها.
قال ابن حجر:وقرأت بخط أبي علي الصدفي في هامش نسخته من صحيح البخاري بخطه قال: الحافظ أمر المدينة في طيب ترابها وهوائها يجده من أقام بها ويجد لطيبها أقوى رائحة ويتضاعف طيبها فيها عن غيرها من البلاد وكذلك العود وسائر أنواع الطيب .( )
..................
ثانيا- فضل المدينة المنورة
أما ما ورد في فضل المدينةالمنورة فهو كثير وكثير جدا فهي مهاجره صلى الله عليه وسلم وفيها مضجعه وأهلها جيرانه والموت بها يستوجب الشفاعة النبوية فقد روى الترمذي وابن حبان في صحيحه وابن ماجه في سننه والبيهقي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها فإني أشفع لمن يموت بها) ، ويكفي في فضلها حب النبي صلى الله عليه وسلم لها ودعاؤه ربه أن يحبِّبها إليه كما ورد في الصحيحين مرفوعا ( اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أوأشد)
وكذلك دعاؤه لها بالبركة كما في الصحيحين مرفوعا " اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ماجعلت لمكة من البركة " .
وفي صحيح مسلم مرفوعا (اللهم بارك لنا في مدينتنا اللهم بارك لنا في صاعنا اللهم بارك لنا في مدنا اللهم اجعل من البركت بركتين ) ، وروى أيضاً مرفوعاً " صلاة في مسجد هذا خير من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام " ( )
وخلاصة القول أن المدينة من أحب البقاع إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم وأنها دار الإيمان وإليها يأرِز الإيمان في آخر الزمان وأن على مداخلها حراس من الملائكة لايدخلها الدجال ولا الطاعون وهي آخر مدن الدنيا خرابا وهي مضجع أفضل خلق الله صلى الله عليه وسلم وهي مهبط الوحي فلا يكاد يوجد بها مكان إلا ونزلت فيه آية أو آيات قرآنية أو رد فيه حديث نبوي وهي حرم الله تعالى وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم وقد ورد الفضل العظيم في الصلاة في مسجدها أو صبر على لأوائها فطوبى لمن زارها ومشى في ربوعها ونزه خاطره في محاسنها فطالما اشتاق إليها المحبون وضحُّوا في سبيل زيارتها بأنس الأهل والبنين ونفيس المال :
دار الحبـــيب أحــق أن تــهواهـا.........وتحن مِن طرب إلى ذكراها
طابت فإن تــبغ التطــــيب يا فتــــى........... فأدم على الساعات لثَمَّ ثراه
فالمدينة خير لهم وخير لنا فهي خيِّرة ومعصومة من الطاعون وقد طرد الله عنها الوباء إلى مهيعة أي الجحفة( ) ، فقد روى مسلم في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال " على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال " ( )
........................ ..........
ثالثاً:- الترغيب في السكن في المدينة المنورة
لقد وردت نصوص كثيرة تحض على اتخاذ المدينة داراً وقراراً ومن تلك النصوص ما أخرجه الشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ). وقال صلى الله عليه وسلم ( مابين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوْضي) رواه البخاري .
فهذا الحديث فيه إشارة إلى الترغيب في سكنى المدينة ، وحديث عائشة في قصة وعك أبي بكر وبلال فيه دعاؤه صلى الله عليه وسلم للمدينة بقوله " اللهم صححها " وفي ذلك إشارة إلى الترغيب في سكناها أيضاً وأثر عمر في دعائه بأن تكون وفاته بها ظاهر في ذلك ، وفي ذلك مناسبة لكراهته صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة أي تصير خالية قوله: " روضة من رياض الجنة " أي كروضة من رياض الجنة في نزول الرحمة وحصول السعادة بما يحصل من ملازمة خلق الذكر لا سيما في عهده صلى الله عليه وسلم فيكون تشبيهاً بغير أداة ، أو المعنى أن العبادة فيها تؤدي إلى الجنة فيكون مجازاً ، أو هو على ظاهره وأن المراد أنه روضة حقيقة بـأن ينتقل ذلك الموضع بعينه في الآخرة إلى الجنة هذا محصل ما أوله العلماء في هذا الحديث وهي على ترتيبها هذا في القوة ( ) .
وقال عمر رضي الله عنه: " اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم "( ) رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم: " من استطاع أن يموت بالمدينة فليفعل فإني أشفع لمن مات بها" ( )رواه أحمد.
ومن محاسنها تحريكه صلى الله عليه وسلم دابته عند قدومه إليها إذا أبصر منازلها فقد روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم " كان إذا قدم من سفر فنظر إلى جَدْرات المدينة أوضع راحلته ، وإن كان على دابة حركها من حبها " .( ) .
وفي صحيح مسلم عن أبي حميد الساعدي قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك – وفيه ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني مسرع فمن شاء منكم فليُسرع معي ومن شاء فليمكث فخرجنا حتى أشرقنا على المدينة فقال هذه طابة وهذا أُحد وهو جبلٌ يحبنا ونحبه " .
وروى أيضاً " لا يصبر أحد على لأوائها فيموت إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة إذا كان مسلم "( ) .
وروى البخاري: " والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " أي بفضلها من الصلاة في المسجد النبوي وثواب الإقامة فيها وغير ذلك ، ويحتمل أن يكون " لو " بمعنى ليت فلا يحتاج إلى تقدير وعلى الوجهين ففيه تجهيل لمن فارقها وآثر غيرها ، قالوا والمراد به الخارجون من المدينة رغبة عنها كارهين لها .
وأما من خرج لحاجة أو تجارة أو جهاد ونحو ذلك فليس بداخل في معنى الحديث ، قال الطيبي : " الذي يقتضيه هذا المقام أن ينزَّل ما لا يعلمون منزلة اللازم لتنتفي عنهم المعرفة بالكلية ، ولو ذهب مع ذلك إلى التمني لكان أبلغ لأن التمني طلب ما لا يمكن حصوله أي ليْتهم كانوا من أهل العلم تغليظاً وتشديداً .
وقال البيضاوي: " المعنى أنه يفتح اليمن فيعجب قوماً بلادها وعيش أهلها فيحملهم ذلك على المهاجرة إليها بأنفسهم وأهليهم حتى يخرجوا من المدينة والحال أن الإقامة في المدينة خير لهم لأنها حرَم الرسول صلى الله عليه وسلم وجواره ومهبط الوحي ومنزل البركات لو كانوا يعلمون ما في الإقامة بها من الفوائد الدينية بالعوائد الأخروية التي يستحقر دونها ما يجدونه من الحظوظ الفانية العاجلة بسبب الإقامة في غيرها ، وقوّاه الطيبي لتنكير قوم ، ووصفهم بكونهم يبسون ثم توكيده بقوله : " لو كانوا يعلمون " لأنه يشعر بأنهم ممن ركن إلى الحظوظ البهيمية والحطام الفاني، وأعرضوا عن الإقامة في جوار الرسول – صلى الله عليه وسلم - ،ولذلك كرر قوماً وصفه في كل قرينه بقوله يبسُّون استحضار تلك الهيئة القبيحة ، وروى البخاري مرفوعاً: " إن الإيمان ليأرِز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جُحرها " أي أنها كما تنتشر من جحرها في طلب ما تعيش به فإذا راعها شيء رجعت إلى جحرها كذلك الإيمان انتشر في المدينة وكل مؤمن له من نفسه سائق إلى المدينة لمحبته في النبي صلى الله عليه وسلم فيشمل ذلك جميع الأزمنة لأنه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للتعلم منه ، وفي زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم للاقتداء بهديهم ، ومن بعد ذلك لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم والصلاة في مسجده والتبرك في مشاهدة آثاره وآثار أصحابه .( )
.......................
رابعاً:- تطهير المدينة المنورة من المعاصي وأهلها.
لقد أدرك الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب رضي الله عنه عظم مكانة المدينة وأنه لا يستحق المقام فيها إلا طاهر حيث إنه أمر بنفي نصر بن الحجاج وابن عمه أبي ذئب من المدينة المنورة لـمّا خاف من افتتان نساء المدينة بهما.
فقد روى ابن سعد أنه بينما عمر يعسّ ذات ليلة فإذا امرأة تقول:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها.... أو هل سبيل إلى نصر بن الحجاج
فلما أصبح سأل عنه فإذا هو من بني سليم فأرسل إليه فأتاه فإذا هو من أحسن الناس شعراً وأصبحهم وجهاً فأمره عمر أن يطم شعره – أي يجزّه أو يعقصه – ففعل فخرجت جبهته فازداد حسناً فأمره عمر أن يعتم ففعل فازداد حسناً فقال عمر: " لا والذي نفسي بيده لا تجامعني بأرض أنا بها " ، فأمر له بما يصلحه وسيره إلى البصرة ( ).
ويروي السرخسي : أن نصر بن الحجاج قال لعمر: " وما ذنبي يا أمير المؤمنين قال (لا ذنب لك وإنما الذنب لي حيث لا أطهر دار الهجرة منك.... )( ).
ثم يروي أبي سعد أن عمر خرج ليلة أخرى يعسّ فإذا هو بنسوة يتحدثن فإذا هن يقلن:" أي أهل المدينة أصبح؟ فقالت امرأة منهن " أبو ذئب فلما أصبح سأل عنه فإذا هو من بني سليم فنظر إليه عمر فإذا هو من أجمل الناس فقال له: " أنت والله ذئبهن – مرتين أو ثلاثاً، والذي نفسي بيده لا تجامعني بأرض أنا بها ".
قال أبو ذئب:" فإن كنت لابد مسيّّري فسيرني حيث سيرت ابن عمي – يعني نصر بن الحجاج السلمي – فأمر له بما يصلحه وسيره إلى البصرة( ).
ويعلق السرخسي على هذا بقوله:" إن عمر فعل ذلك بطريق المصلحة لا بطريق الحد أوالعقاب ، وقال : ( والجمال لا يوجب النفي ولكن فعل ذلك للمصلحة( ) .) أي لمصلحة الجماعة ، ومثل ذلك قصة جعدة السلمي الذي كان في زمن عمر ، وكان غزلاً صاحب نساء يحدثهن ويضحكهن ويمازحهن ، فكن يجتمعن عنده فيأخذ المرأة فيعقلها ثم يأمرها أن تمشي فتعثر فتقع فتنكشف فيتضاحكن من ذلك فبلغ ذلك بقيلة الأشجعي وكان غازياً في زمن عمر ، فكتب إليه: -
ألا أبلـــغ أبا حفـــــص رســــولا...........فدى لك من أخي ثقة إزاري
قـــلائــصنا هـــداك اللـــه إنـَّــــا...........شغل نا عنكم زمن الحصــــار
لِمَنْ قلـص تركــــن مـــعقـــلات............ قفا سَلعٌ بمختلف الشجـــــــار
قلائص من بني كعب بن عمرو.............وأسلم أو جهينة أو غفــــــــــــــــــار
يعقلهن أبيض شيظمــــــــــــــي..... .......وبئس معقّـــل الذود الخيــــــــــــــــار
فقال عمر: عليّ بجعدة بن سليم ، فأتى به قال فكان سعيد ابن المسيب يقول: إني لفي الأغيلمة الذين جرُّوا جعدة إلى عمر فلما رآه قال: أشهد إنك شيظمي كما وصف ، فضربه ونفاه إلى عمان .( )
ووافق الدكتور عبد العزيز عامر على ذلك حين قال :وإذا افترضنا أن نصر ابن حجاج لم يكن منه ما يستوجب تأديبه وأن فعل عمر كان لمجرد تطهير مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم من دواعي فتنة النساء بنفي نصر مع أنه لم يرتكب جرما حتى لايفتتن به أحد فإن عمر يكون قد قصد بذلك حماية مصلحة عامة وغلب هذه المصلحة على مصلحة نصر الذي لم يرتكب جرما ولم يكن له ذنب في افتتان النساء به والمصلحة العامة فوق كل اعتبار وقد راعى عمر أن لمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ودار هجرته وضعا خاصا بين سائر البلدان بحيث يجب أن تبرأ من دواعي الفتن والفساد ، ولاشك أن فتنة النساء من أعظم الفتن التي يمكن أن تصيب مجتمعا ما وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول ( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ) وقال (والنساء حبائل الشيطان ) .
وقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاعتبار الخاص للمدينة حين نفى المخنثين منها( ) ، ونستفيد من هذه الحادثة وجوب مراعاة حرمة المدينة المنورة وأنها ليست كغيرها من البلدان ووجوب تطهيرها من المنكرات وما يؤدي إلى المنكرات وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد لعن كل من أحدث فيها حدثا فقد روى البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (المدينة حرم من كذا إلى كذا لايقطع شجرها ولا يحدث فيها حدث من أحدث حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين )( ).
قال ابن حجر رحمه الله وزاد عاصم عند أبي عوانة (أو آوى محدثا)
وهذه الزيادة صحيحة إلا أن عاصما لم يسمعها من أنس قوله (فعليه لعنة الله )فيه جواز لعن أهل المعاصي والفساد لكن لا دلالة فيه على لعن الفاسق المعين وفيه أن المحدث والمؤوي للمحدث في الإثم سواء والمراد بالحدث والمحدث الظلم والظالم على ما قيل أو هو أعم من ذلك.
قال عياض رحمه الله :واستدل بهذا على أن الحدث في المدينة من الكبائر والمراد بلعنة الملائكة والناس المبالغة في الإبعاد عن رحمة الله قال والمراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه في أول الأمر وليس هو كلعن الكافر ( ).
وعن علي رضي الله عنه قال :ما عندنا شيء إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم (المدينة حرم مابين عائر إلى كذا من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لايقبل منه صرف ولا عدل ).( )
قوله (من أحدث فيها حدثا )يقيد به مطلق ماتقدم في رواية قيس ابن عباد وأن ذلك يختص بالمدينة لفضلها وشرفها ، قوله(لايقبل منه صرف ولا عدل )بفتح أولهما واختلف في تفسيرهما ، فعند الجمهور الصرف الفريضة والعدل النافلة رواه ابن خزيمة بإسناد صحيح عن الثوري وعن الحسن البصري بالعكس وعن الأصمعي الصرف :التوبة ، والعدل :الفدية .
قال عياض معناه: ( لايقبل قبول رضى وإن قبل قبول جزاء ، وقيل يكون القبول بمعنى تكفير الذنب بهما ، وقد يكون معنى الفدية أن لا يجد يوم القيامة فدى يفتدى به بخلاف غيره من المذنبين بأن يفديه من النار بيهودي أو نصراني كما رواه مسلم من حديث أبي موسي الأشعري( ).
قال الشيخ محمد كبريت:ومن محاسن المدينة أنه لا يتمرد فيها أحد ويتجاوز الحد إلا عجل الله الانتقام منه، وأخذ من حيث يشعر من حيث لا يشعر.
وكان يقال : إن من أسماء المدينة الفضاحة ، وذلك لأنه لا يكون بها شيء إلا وتتحدث به الألسنة وكان يقال: ما أضمرته الليالي أظهرته الأيام وما أسرته السريرة أظهرته الأسرّة للأنام :
وكيف يفوت هذا الناس شيء.........وما في القلب تبديه العيون( )
وقد توعد الله تعالى أهل المعاصي في المدينة بالوعيد الشديد فقال تعالى {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا} قال الشيخ السعدي: وفى هذا دليل لنفي أهل الشر الذين يتضرر بإقامتهم بين أظهر المسلمين فإن ذلك أحسم للشر وأبعد منه ويكونون {ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا } أي مبعدين حيث وُجدوا لا يحصل لهم أمن ولا يقر لهم قرار يخشون أن يُقتلوا أو يُحبسوا أو يُعاقبوا( ).
وهذه الأوصاف قيل لشيء واحد كما قال أبو رزين: ( المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة هم شيء واحد يعني أنهم قد جمعوا هذه الأشياء والواو مقحمة كما قال الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهمام ...... وليث الكتيبة في المزدحم
أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة ، وقيل كان منهم قوم يرجفون وقوم يتبعون النساء للريبة وقوم يشككون المسلمين ، قال عكرمة وشهر ابن حوشب : (الذين في قلوبهم مرض) يعني الذين في قلوبهم الزنى .
قال طاووس: ( نزلت هذه الآية في أمر النساء ، وقال سلمة ابن كهيل نزلت في أصحاب الفواحش والمعنى متقارب ،(والمرجفون في المدينة ) قوم كانوا يخبرون المؤمنين بما يسوؤهم من عندهم فيقولون: إذا خرجت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنهم قد قتلوا أو هزموا ، وأن العدو قد أتاكم قاله قتادة وغيره .
وقيل كانوا يقولون أصحاب الصُّفَّة قوم عزاب فَهُم الذين يتعرضون للنساء، وقيل هم قوم من المسلمين ينطقون بالأخبار الكاذبة حبا للفتنة، وقد كان في أصحاب الإفك قوم مسلمون ولكنهم خاضوا حبا للفتنة ، والإرجاف:إشاعة الكذب والباطل للاغتمام به فالإرجاف حرام لأن فيه أذية.
فدلت الآية على تحريم الإيذاء بالإرجاف ؛ ومعني الآية :إن أصروا على النفاق لم يكن لهم مقام بالمدينة إلا وهم مطرودون ملعونون وقد فُعل بهم هذا فإنه لما نزلت سورة براءة جُمعوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يافلان قم فاخرج فإنك منافق ويافلان قم ؛ فقام إخوانهم من المسلمين وتولوا إخراجهم من المسجد) .
حتى مات والمعروف من أهل الفضل إتمام وعدهم وتأخير وعيدهم ودل على أن من كان معك ساكنا بالمدينة فهو جار ( ).
........................ .......................
خامساً:- إكرام أهل المدينة والأدب معهم وحسن الظن بهم
فقد ورد في ذلك عدة أحاديث منها ما نقلته عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المدينة مهاجري ومضجعي فيها بيتي وحق على أمتي حفظ جيراني) ( ).
قال الشيخ محمد كبريت قال بعضهم :تأكدت وصيته صلى الله عليه وسلم بقوله (حقيق على أمتي حفظ جيراني )وقوله (لا يزال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) متفق عليه.
ولم يخص جاراً دون جار ، وفهم منه أن سكان بلده قريبهم وبعيدهم حاضرهم وغائبهم مليهم وعاجزهم على حد سواء في استحقاق الرعاية من حيث الجوار ، وإنما التفاضل بالتقوى وحسن الأدب.
" فنسأل الله تعالى كما من علينا بنعمة الإسلام وخصنا بجوار نبيه عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام أن يوفقنا لسلوك الأدب في هذا المقام وأن يرزقنا والمسلمين شفاعته في يوم الزحام وأن يلهم من ولي شيئا من أمورنا الرفق بنا وحسن القيام" .
ويروى عن الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه دخل على المهدي فقال له أوصني فقال: (أوصيك بتقوى الله والعطف على أهل بلد رسول الله صلي الله عليه وسلم وجيرانه فإنه بلغنا أنه قال " المدينة مهاجري ومنها مبعثي وبها قبري وأهلها جيراني وحقيق على أمتي حفظ جيراني فمن حفظهم كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة ومن لم يحفظ وصيتي في جيراني سقاه الله من طينة الخبال " ( )
وعن معقل بن يسار مرفوعا مقيداً: (حقيق على أمتي حفظ جيراني ما اجتنبوا الكبائر ) قال الشيخ خاطر: (وللحديث شواهد فهو حسن بشواهده) ( ). وهناك الوعيد لمن لم يكرم أهلها ، فإكرامهم وحفظهم حق على الأمة قال بعضهم وليس المراد إكرام أهل النعم منهم والمستورين بالآداب فإن حالة أولئك تقضي بإكرامهم وإنما الكلام في إكرام المبتلى منهم ومن عدم الأدب والفضيلة وألبسته الفاقة رداء المذلة ، وكان يقال : إذا أقبلت الدنيا على قوم ألبستهم محاسن غيرهم وإذا أدبرت عن قوم سلبتهم محاسن أنفسهم( ).
وقال صلى الله عليه وسلم (من أخاف أهل المدينة فقد أخاف مابين هذين )وأشار إلى مابين جنبيه ( )
قال كبريت :
أيا ساكني أكناف طيبة حسبــكم ...... من الســــــعي للعلياء جـــيرة أحمد
فمن يبتغي عنها بلادا وإن سمت...... لأمر من الدنيا فليس بمهتدي( )
وقال في المواهب اللدنية روى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها ) أي ينضم ويلتجأ مع أنها أصل في انتشاره فكل مؤ من له من نفسه سائق إليها في جميع الأزمان لحبه صلي الله عليه وسلم في ساكنيها فأكرم بساكنها ،ولو قيل فيهم ما قيل فقد حظوا بشرف المجاورة وثبت لهم حق الجوار وإن عظمت إساءتهم فلا يسلب عنهم اسم الجار وقد عم عليه الصلاة والسلام بقوله (مازال جبريل يوصيني بالجار )ولم يخص جارا دون جار ،وكل ما احتج به محتج من رمي بعض عوامهم بالابتداع وترك الإتباع فإنه إذا ثبت ذلك في شخص منهم فلا يترك إكرامه ولا ينتقص احترامه ،فإنه لا يخرج عن حكم الجار ولو جار ،ولا يزول عنه شرف مساكنته في الدار كيفما دار بل يرجى أن يختم له بالحسنى ويمنح له بهذا القرب الصوري قرب المعنى.
فيا ساكني أكناف طيبة كلكم ..... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب .
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي ينبغي أن ينظر إلى أهل المدينة بعين التعظيم ورعاية التكريم ولا يبحث عن بواطنهم ولا عن ظواهرهم لقوله تعالى (ولا تجسسوا )ويكل سرائرهم إلى الله تعالى ، لأن الذنوب ماعدا الشرك تحت مشيئته يعذب من يشاء ويرحم من يشاء ، ولا يطلع أحد على تعلق إرادته عز وزجل فيحبهم لجواره كيفما كانوا أي على ارتكاب الذنوب الصغائر والكبائر ، فإن عظم الإساءة ولو في الدار لا يسلب حرمة الجوار :
وأحبها وأحب منزلها الذي....... نزلت به وأحب أهل المنزل
وصرف ما يتصدق به إلى أهل المدينة أولى على أي حالة كانوا وذلك لأن شرف الجوار الثابت لهم أوجب الإعراض عن مساوئهم ،والنظر إلى حرمتهم ،وما تشرفوا به من ذلك الجوار الأعظم ، ولذلك كثر في الأحاديث الصحيحة الدعاء منه صلى الله عليه وسلم لهم بالبركة وعلى من قصدهم بسوء بأقبح النكال ، ثم قال: ( وقد استوفيت طرفا من ذلك في كتابي الزواجر عن اقتراف الكبائر ( )
........................ ...
سادساً:- رعاية الضعفاء بالمدينة المنورة
لقد حث الإسلام على رعاية الضعفاء عموماً ويزداد الأمر تأكيداً إن كانوا من ضعفاء المدينة المنورة لكثرة الوصية برعاية أهلها ولأنهم جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى{ ولا يأتل ألوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ...الآية}.
قال القرطبي رحمه الله: ( المشهور من الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه ومسطح بن أثاثة وذلك أنه كان ابن بنت خالته وكان من المهاجرين البدريين المساكين وهو مسطَح ابن أثاثة ابن عباد بن المطلب بن عبد مناف .
وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه لمسكنته وقرابته فلما وقع أمر الإفك وقال فيه مسطح مقال حلف أبو بكر إلا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة أبداً فجاء مسطح فاعتذر وقال: إنما كنت أغشى مجالس حسان فأسمع ولا أقول فقال له أبو بكر : لقد ضحكت وشاركت فيما قيل ومر على يمينه فنزلت الآية .
وقال الضحاك وابن عباس: إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا والله لا نصل من تكلم في شأن عائشة فنزلت الآية في جميعهم .
والأول أصح غير أن الآية تتناول الأمة إلى يوم القيامة بألا يغتاظ ذو فضل وسعة فيحلف ألا ينفع من هذه صفته غابر الدهر .
قال عبد الله بن المبارك: { ألا تحبون أن يغفر الله لكم } هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى فقال أبو بكر – رضي الله عنه – والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال : لا أنزعها منه أبداً ، وقوله { ألا تحبون أن يغفر الله لكم } تمثيل وحجة أي كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم ، وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام { من لا يَرحم لا يُرحم } ( )
وقال السهيلي : ( آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه حين نزلوا المدينة ليُذهب عنهم وحشة الغربة ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة ويشد أزر بعضهم ببعض فلما عز الإسلام واجتمع الشمل وذهبت الوحشة أنزل الله سبحانه { وألوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } أعني في الميراث ، ثم جعل المؤمنين كلهم إخوة فقال: { إنما المؤمنون إخوة } يعني في التواد وشمول الدعوة( )، وفي مؤاخاة الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار أقوى مظهر من مظاهر عدالة الإسلام الإنسانية الأخلاقية البناءة فالمهاجرون قوم تركوا في سبيل الله أموالهم وأراضيهم فجاءوا المدينة لا يملكون من حطام الدنيا شيئاً ، والأنصار قوم أغنياء بزروعهم وأموالهم وصناعتهم فليحمل الأخ أخاه وليقتسم معه سرَّاء الحياة وضراءها ولينزله في بيته ما دام فيه متسع لهما وليعطيه نصف ماله وما دام غنيا عنه( )
وقال البخاري: ( حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال حدثني إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال : ( لما قدموا المدينة آخى رسول صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن وسعد ابن الربيع قال لعبد الرحمن إني أكثر الأنصار مالاً فأقسمُ مالي نصفين ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها فإذا انقضت عدتها فتزوجها قال بارك الله لك في أهلك ومالك أين سُوقك فدله على سوق بني قينقاع فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن ثم تابع الغدو ثم جاء يوماً و به أثر صُُفرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مهْيم قال تزوجت قال كم سُقت إليها قال نواة من ذهب أو وزن نواة من ذهب شك إبراهيم ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قالت : الأنصار أقسم بيننا وبينهم النخل قال لا قال : يكفونا المؤنة ويشركوننا في الثمر قالوا سمعنا وأطعنا( ) .
وإعجاب المرء بسماحة سعد لا يعدله إلا إعجابه بنُبل عبد الرحمن هذا الذي زاحم اليهود في سوقهم وبزَّهم في ميدانهم واستطاع بعد أيام أن يكسب ما يعفُّ به نفسه ويحصن به فرجه، إن علوا الهمة من خلائق الإيمان ( )
وقد صور الغزالي رحمه الله الإخاء بين المهاجرين والأنصار بقوله: ( وقد أقام صلى الله عليه وسلم صلة الأمة بعضها ببعض على الإخاء الكامل ، الإخاء الذي تمحى فيه كلمة " أنا " ويتحرك الفرد فيه بروح الجماعة ومصلحتها وآمالها فلا يرى لنفسه كياناً دونها والامتداد إلا فيها ، ومعنى هذا الإخاء أن تذوب عصبيات الجاهلية فلا حمية إلا للإسلام وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن فلا يتأخر أحد أو يتقدم إلا بمروءته وتقواه ، وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة عقداً نافذاً لا لفظاً فارغاً وعملاً يرتبط بالدماء والأموال لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال .
حرص الأنصار على الحفاوة بإخوانهم المهاجرين فما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة !! وقدر المهاجرون هذا البذل الخالص فما استغلوه ولا نالوا منه إلا بقدر ما يتوجهون إلى العمل الحر الشريف.....
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم الأخ الأكبر لهذه الجماعة المؤمنة : لم يتميز عنهم بلقب إعظام خاص وفي الحديث " لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لا تخذته – يعني أبا بكر – خليلاً ولكن أخوة الإسلام أفضل " رواه البخاري .
والإخاء الحق لا ينبت في البئات الخسيسة ، فحيث يشيع الجهل والنقص والجبن والبخل والجشع لا يمكن أن يصح إخاء أو تترعرع محبة ، ولولا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جبلوا على شمائل نقية واجتمعوا على مبادئ رضية ما سجلت لهم الدنيا هذا التآخي الوثيق في ذات الله .
فسُموْا الغايةِ التي التقوا عليها وجلال الأسوة التي قادتهم إليها نَمَّيا فيهم خلال الفضل والشرف ولم يدعا مكاناً لنجوم خلَّةٍ رديئة ذلك أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان إنساناً تجمَّع فيه ما تفرق في عالم الإنسان كله من أمجاد ومواهب وخيرات فكان صورة لأعلى قمة من الكمال يمكن أن يبلغها بشر ، فلا غَرْوا إذا كان الذين قبسوا منه وداروا في فلكه رجالاً يحيون بالنجدة والوفاء والسخاء ، إن الحب كالنبع الدافق يسيل وحده ولا يتكلف استخراجه بالآلات والأثقال ، والأخوة لا تفرض بقوانين ومراسيم وإنما هي أثر تخلِّص الناس من نوازع الأثرة والشح والضعة.
وقد تبُودلت الأخوة بين المسلمين الأولين لأنهم ارتقوا بالإسلام في نواحي حياتهم كلها ، فكانوا عباد الله إخواناً ولو كانوا عبيد أنفسهم ما أبقى بعضهم على بعض، على أن تنويهنا بقيمة التسامي النفساني في تأسيس الإخاء لا يمنع الحاكم من فرضه على الناس نظاماً يؤخذون بحقوقه أخذاً فإذا لم يؤدوها طوعاً أدوها كرهاً وذلك كما يجبرون على العلم والجندية ( ) ، وقد ظلت عقود الإخاء مقدمة على حقوق القرابة في توارث التركات إلى موقعة بدر حتى نزل قوله تعالى { وألوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم } فألغى التوارث بعقد الأخوة ورجع إلى ذوي الرحم.
روى البخاري عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون ...الآية } قال كان المهاجرون – لما قدموا المدينة – يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي عليه الصلاة والسلام بينهم فلما نزلت { ولكل جعلنا موالي ..الآية } نسخت ثم قال { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ..الآية } من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصي له .
فعليك أخي المسلم أن تقتبس من هذه الأخوة المدنية الصادقة المضيئة وترتشف من رحيقها وتجددها في نفسك وخلقك وواقعك ومدينتك وتقتدي في ذلك بالصحابة الكرام الذين وصفهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بهذا الوصف الرائع : من كان مستناً فليستن بمن مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام كانوا أفضل هذه الأمة أبرها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم على أثرهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
سابعاً:- خاتمة نسأل الله حسنها في بعض آداب ساكني المدينة المنورة
وأخيراً بعد أن يسر الله بجوده وكرمه جمع ما تقدم عن المدينة وشأنها أختم بهذه الهمسة الحانية في أذنك أخي الحبيب كما عبر عنها الشيخ كبريت حيث قال : قال بعضهم ينبغي لمن أراد المجاورة بالمدينة المنورة أن يكون لين الأعطاف هين الانعطاف حافظاً لحرمة مكانها محافظاً على مراعاة سكانها يشاركهم في أنديتهم لا في أغذيتهم ويزاحمهم في أوقاتهم لا في أقواتهم ويكتسب من أخلاقهم لا من أرزاقهم ويقتبس من بِرِّهم لا من بُرِّهم ويرغب في حُبِّهم لا في حَبِّهم مقتديا في هذا القياس بإشارة " وازهد فيما عند الناس " وقال بعض العلماء : ينبغي لطالب سكنى المدينة أن لا يضيق على المحتاجين بسكنى الأربطة والمزاحمة على الصدقات ولا يسعى في منع معروف.
لا تقــطعنَّ يد الـــمـعروف عن أحد.......... مـــــادام يمــــكن فالإمكان تارات
واشكر فضيلة لطـف الله إذ جُـــعلت.......... إليك لا لك عند الناس حاجات( )
والله أسأل أن يرزقنا وإخواننا المسلمين أدب الجوار وحسنى القرار بجوار سيد الأبرار، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام وآله الأطهار وصحبه الكرام. والتابعين لهم بإحسان مدى الأيام و الدهور.
{ كتبه / الشيخ محمد فاضل ابن الطاهر}حفظه الله
منقووووووووووووووووووووو ووووووووووووووووول
{وصلى الله على نبيه الكريم وآله وصبحه أجـمعين}
المصدر: [email protected]
نشرت فى 8 يونيو 2010
بواسطة princess
عدد زيارات الموقع
1,742,084
ساحة النقاش