من الحيل التى يستخدمها أعداء الإسلام وفى مقدمتهم العلمانيون الجدد من أجل إبعاد الإسلام عن السياسة ، إدعاؤهم أن السياسة لعبة قذرة والإسلام دين طاهر ولايجوز أن نلوثه بالسياسة حتى يبقى على نقائه وطهره كما هو، وهم فى قولهم هذا كمن يقول إن مبضع الجراح لايجوز إعماله فى جسد المريض لإستئصال أورامه حتى لايلوث المبضع ويبقى على لمعانه . وهذا يعنى أن نترك السياسة كما هى لعبة قذرة ، وفى الثانية نترك المريض يهلك بمرضه . ولو تساءلنا مادور كل من الإسلام والمبضع لجاءت الإجابة من هؤلاء أن يوضعا على الرف ! للأسف إن هذه الإدعاءات وجدت طريقها إلى بعض أبناء المسلمين الذين يظنون أنهم بإقصائهم للإسلام عن السياسة يحسنون صنعاً ، فوجب الوقوف على هذه المسألة لتبيان زيف هذه الإدعاءات ورد الأمر إلى نصابه حتى يعود الإسلام كما كان هو المتحكم فى كل العلاقات وعلى رأسها علاقة الحاكم بالرعية.
إن الإسلام أتى حتى يضبط الحياة وتستقيم به معتمداً فى ذلك على قوة عقيدته التى تخاطب العقل البشرى الذى يُقبِلُ عليها ويُسَلم بها وينقاد الإنسان بها قيادة فكرية عن إدراك وتبصر لا عن ضعف وعجز، فتؤدى بالإنسان لأن يضبط سلوكه بالشرع الذى أتى منبثقاً عنها موقناً ومؤمناً بأنه الحق الذى لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه. والإسلام أتى لرعاية شؤون البشر كل البشر ليضبط علاقتهم بخالقهم وبأنفسهم وببعضهم البعض حتى تنتظم كل العلاقات على أساسه. والسياسة التى فى مادة ساس ويسوس سياسةً بمعنى رعى شؤونه وفى القاموس المحيط " سست الرعية سياسة أى أمرتها ونهيتها" لم يأتى الإسلام بمعنى آخر لها سوى هذا المعنى فأستخدمها كما هى أى رعاية الشؤون . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلما هلك نبي خلفه نبي ، وأنه لا نبي بعدي ، وستكون خلفاء فتكثر ، قالوا : فما تأمرنا ؟ قال : فوا ببيعة الأول فالأول ، وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم " رواه مسلم، والحديث يبين بأن السياسة هى من أعظم الأعمال وهى من عمل الأنبياء وقد مارسها الرسول الكريم والخلفاء من بعده. والنصوص التى تدل دلالة مباشرة على السياسة وممارستها سواء تعلق ذلك بالرعية أو الحاكم كثيرة منها قوله عليه الصلاة والسلام "ما من عبد يسترعيه الله رعية لم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة" مسلم ، وقوله "ما من والٍ يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة" البخارى. والنصوص الشرعية سواء ماجاء منها فى القرآن أو فى السنة تبين بما لايدع مجالاً للشك أن الإسلام لم يدع أى شأن من شؤون الحياة إلا ونظمها وجاء بتشريع لها ليس هذا فحسب بل لقد إعتبر القرآن أن الإنسان ظالم لنفسه إن إتبع غير الإسلام وإتبع الهوى وخالف أوامر الله ونواهيه " بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۖ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ " الروم 29.
والخطاب السياسى قد تنوع فى القرآن والسنة ليشمل كل مناحى الحياة فتجد القرآن حين يتحدث عن الحكم يقول " فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ" المائدة 48 ، وحين يتحدث عن رعاية شؤون المال أو السياسة الإقتصادية تجده يتعرض لمواطن الداء فى المجتمع فيعالجها حين يقول " كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ " الحشر7 ، وحين فهم المسلمون هذا الخطاب حالوا دون تركز المال فى يد فئة قليلة فى المجتمع أما الأن بعد أن أُبعِد الإسلام عن السياسة صار المال دولة بين الأغنياء فتجد قلة قليلة تمتلك المليارات وعامة الشعب لاتجد ماتسد به رمقها ، وحين أبعد الإسلام عن السياسة أصبح عشرون بالمائة من سكان الكرة الأرضية يملكون ثمانين بالمائة من الثروة الموجودة بها والثمانون بالمائة يتقاتلون على العشرين بالمائة الباقية، وحين فهم المسلمون خطاب الله "وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا" البقرة 275 دارت عجلة رأس المال دورتها الطبيعية فأوجدت مالاً حقيقياً فى الدولة حال دون حدوث أزمات إقتصادية ،حتى أن الفقير كان يبحث عنه ليعطى فلا يجدوا فقيراً ، أما بعد أن أبعدنا الإسلام عن السياسة أصبح الربا مألوفاً وعصفت الأزمات الإقتصادية بالمجتمع حتى أصبح الغرب عاجزاً عن حلول سوى السطو على خيراتنا ليحل به أزماته. وحين فهم المسلمون خطاب رسول الله " الناس شركاء فى ثلاث : فى الماء والكلأ والنار" عملوا به وتم رعاية الملكيات العامة على أساسه فلاأحد يسطو على ماتملكه الجماعة ، ولاأحد يتملك ماتنصرف الجماعة فى طلبه ، أما حين أُبعد الإسلام عن السياسة فتمت سرقة الملكيات وتم إهداء الغاز ليهود وحرم منه أهله. وحين فهم المسلمون خطاب الرسول صلوات ربى وسلامه عليه حيث قال" والذى نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم "قاموا بمحاسبة الحكام وقالوا كلمة الحق ولم تأخذهم فى الله لومة لائم، فهذا عمر بن الخطاب تقف له إمرأة لتحاسبه على تحديده للمهور وتقول له: " ياعمر لم تحدد مالم يحدده الله ورسوله؟ ألم تسمع قوله تعالى " وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا" النساء 20 ، فرد عمر قائلاً: " أخطأ عمر وأصابت إمرأة". وفى موضع أخر يقف سلمان الفارسى محاسباً للفاروق عمر الذى مالقيه الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غيره، يقف أمامه سلمان الفارسى قائلاً " لاسمع لك اليوم ولاطاعة حتى تبين لنا من أين لك هذا الثوب الذى إئتزرت به" فلم يشهر عمر سيفه ويضرب عنق سلمان ولم يأمر بسجنه بل طلب من إبنه عبد الله أن يبين لسلمان من أين له هذا الثوب، هكذا كان تأثير الخطاب السياسى كما أتى فى القرآن والسنة على سلوك الحاكم والرعية . أما اليوم بعد أن أبعدنا الإسلام عن السياسة جمع الحكام ملياراتهم ولم يستطع أحدٌ محاسبتهم ومن قال لمبارك " إتق الله " كان مصيره السجن خمسة عشر عاماً فماذا لو قال له لاسمع ولاطاعة ؟
وقد وعى غير المسلمين أيضاً على حقوقهم فى الدولة بوصفهم من رعاياها وفهموا قول الرسول عليه الصلاة والسلام " ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة" ، وقصة إبن القبطى الذى إعتدى عليه إبن عمرو بن العاص والى مصر معروفة ، حيث علم القبطى أن الحاكم لن يظلمه فذهب إلى المدينة من أجل بث شكواه إلى خليفة المسلمين عمر وقد أنصفه عمر وهذا لخير دليل على تأثير الخطاب السياسى فى رعاية الشؤون لافرق بين مسلم ومعاهد ، وحين أُبعد الإسلام عن السياسة قام الحكام بتفجير الكنائس ولم يحفظوا لمعاهد حق ولاعهد ليس هذا فحسب بل قاموا بضرب رعايا الدولة بعضهم ببعض.
إن الخطاب السياسى يبلغ أعلى مراتب الرقى فى حديث الرسول " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " ولقد عمل به الحكام حين تحكم الإسلام فى السياسة فكانوا نماذجاً لم يأتى التاريخ الحديث بمثلها ، فهذا عمر بن الخطاب يخرج فى ظلمات الليل يتعسس الرعية لعل هناك من به حاجة ولم تصل إلى عمر فيقوم بنفسه بسدها ، يدفعه لذلك فهمه لمعنى السياسة بأنها رعاية الشؤون وبأنه سيقف أمام ربه ويحاسبه وقوله" لو أن دابة تعثرت لسألك الله ياعمر لما لم تمهد لها الطريق؟" لخير دليل على فهمه لمعنى المسؤولية وكيف تكون السياسة. أما اليوم بعدما أبعدنا الإسلام عن السياسة أرسل حكامنا رجال أمنهم فى ظلمات الليل ليتجسسوا على الرعية وليعدوا عليهم أنفاسهم ، وإذا حلت مصيبة بالرعية فالحاكم لايعنيه الأمر ولايجد من يقومه بحد السيف، فكيف يجد من يقومه بعد أن أبعد الإسلام عن السياسة.
لقد رفع الإسلام من شأن السياسة وإعتبرها رعاية الشؤون فأصبحت الأعمال السياسية بذلك فى الإسلام من أعظم الأعمال التى يقوم بها الإنسان، وهذه السياسة التى يعرفها الإسلام ليست كسياسة الغرب الميكيافيلية التى تبرر فيها الغاية أى وسيلة حتى لو كانت قتل الشعوب وإستعمارهم ، أو كانت نصب عملاء لهم ينكلون بشعوبهم ويمدونهم بكل ماوصلت له مدنيتهم من وسائل تعذيب ليعذبونهم من وراء ستار ومن أمامه ينادون بديمقراطيتهم العفنة . ليست السياسة التى عرفها الإسلام والتى أساسها الخوف من الله كسياسة الغرب التى أساسها الكذب والخداج والغش وقتل الأبرياء وإحداث قلاقل وصراعات بين الشعوب ، تلك السياسة التى فرضت حصاراً غاشماً قتلت فيه مليوني طفل عراقى أو أبادت بأسلحتها الذرية هيروشيما ونجازاكى ، سياسة أبو غريب وقلعة جانجى وجوانتانامو.
إن السياسة التى يعرفها الإسلام هى السياسة التى تجعل من دولته أرضاً خصبة لإنتاج رجال الدولة هؤلاء الذين يحملون مسؤولية العالم كله على أكتافهم وتتجلى معانيها فى سيرة الحبيب المصطفى صلوات ربى وسلامه عليه حين يعرض عليه سادة قريش أن يكون ملكاً عليهم شرط أن يتركهم ومايعبدون فيأبى، وحين تطلب إحدى القبائل أن يكون لها الأمر من بعده مقابل أن تنصره فيأبى ، وهذا الصديق أبو بكر بعد إنتقال رسول الله إلى الرفيق الأعلى ، إمتنع البعض عن أداء الزكاة وإرتد البعض عن الإسلام وبوادر فتنة تعرضت لها المدينة فى أصعب لحظاتها وفى هذه الظروف الصعبة يقوم أبو بكر الصديق بإنفاذ بعث جيش أسامة الذى جهزه الرسول لمواجهة الروم حتى يقطع الطريق على كل طامع فى الدولة ، هذه هى السياسة التى نقلت العرب من قبائل متناحرة إلى قادة دانت لهم أعظم مملكتين فى ذلك الوقت الفرس والروم وإستطاع الإسلام أن يشق طريقه حتى بسط سلطانه من الصين شرقاً حتى سواحل الأطلسى غرباً.
إن السياسة الغربية الميكيافيلية لايمكن لها أن تنتج رجال دولة على هذا الطراز الراقى الذى أنتجه الإسلام ، لانها قائمة على النفعية وتنعدم فيها أى قيم أخرى ، لهذا فإن دولته مرتع خصب لإنتاج الوصوليين الذين يبحثون عن منافعهم ، والطواغيت الذين حكمونا ماهم إلا نتاج هذه السياسة . وعلينا أن نعى بأن الغرب لن يقبل بأى حال من الأحوال أن يسحب الإسلام البساط من تحت قدميه ، لهذا قاموا بتصنيف الإسلام صنفين : الأول هو الإسلام الذى أطلقوا عليه معتدلاً والأخر هو الإسلام السياسى الذى وصفوه بالمتطرف ، الأول شجعوه والثانى حاربوه وحاولوا بكل ماأوتوا من قوة أن يجعلوا الإسلام ديناً كهنوتياً يمارس فى المساجد وليس له علاقة بالسياسة من قريب أو من بعيد وعملوا على إبعاد المسلمين عن العمل السياسى وأشغلوهم بالوعظ والإرشاد وبالأعمال الخيرية ونجحوا فى تنفير بعض المسلمين من السياسة والأحزاب السياسية حتى أننا وجدنا من بيننا من يذم الأحزاب السياسية ويحارب وجودها.
لهذا وجب علينا أن نعى بأننا لن نعيد قطار نهضتنا إلى الحركة وإسلامنا بعيد عن سياستنا، فإذا كانت السياسة التى تمارس الأن وفرضت على الأمة فاسدة فعلينا أن نعيدها كما كانت سياسة على أساس الإسلام فنعيد للأمة عزتها وقوتها ونعيد لتربة الأمة خصوبتها حتى تنتج من جديد رجال دولة يسوسون الدنيا بالعدل ويقولون ماقاله ربعى بن عامر حين دخل على رستم ملك الفرس " لقد إبتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والأخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
ساحة النقاش