ثمانين عاماً على صدور "أصول الحكم في الإسلام" للشيخ علي عبد الرازق:
قبل ثمانين عاماً، في نيسان (ابريل) من العام 1925، وبعد عام من سقوط آخر خلافة إسلامية معروفة (في 3 مارس 1924) صدر في القاهرة كتاب قدر له أن يثير نقاشاً لم يهدأ لحد الآن.
يمكن القول ببساطة، إن كتاب "أصول الحكم في الإسلام" (تأليف الشيخ علي عبد الرازق) جاء فريداً من نوعه. فقد وضع حداً قوياً بين الدين والدولة بالقول إن الإسلام ليس فيه خلافة ولا دولة دينياً، وان كلا الأمرين الأخيرين شأن سياسي محض.
وفي ظل النقاشات المستعرة راهناً عن العلاقة بين الإسلام والدولة والمجتمع والحداثة، يبدو النقاش الذي أثاره الكتاب وكأنه لم ينته...ليس بعد. ولا يعني ذلك أيضا، أن نقاش تلك المواضيع ابتدأ في ذلك الزمان. والحال أن بعضها يتصل بالنقاش الدامي الذي اندلع في القرن التاسع الميلادي عن تاريخية القرآن، وعلاقة العقل البشري مع النص الديني.
ما الذي قاله الإسلام وأصول الحكم؟
يجدر التذكير بان عبد الرازق كان شيخاً أزهريا معروفاً، يتولى شؤون القضاء الشرعي في محكمة المنصورة. وحين صدر كتابه، لم يكن قد انقضى سوى عام واحد على سقوط الخلافة العثمانية: الحدث المرجعي الذي سيُنظر إليه طويلاً باعتباره اللحظة التي أخرجت الإسلام من علاقته المديدة مع "الدولة"، وكذلك بأنه المثال الأقوى على الهيمنة الغربية على العالم الإسلامي. وحينها، كان الأمر حدثاً جللاً، خصوصاً أنه جاء بعد الحرب العالمية الأولى التي شهدت انهيار آخر إمبراطورية إسلامية، ودخول جيوش غربية واستيلائها على بلاد العرب والإسلام.
وفيما الكل في ذهول الحدث الجلل، خرج عبد الرازق من القاهرة ليقول ان الخلافة، بمعنى الحكم الإسلامي والمرجعية الدينية للدولة، ليست من صلب الدين، بل إنها من شؤون السياسة. واستطرد ليقول أن لا دولة أصلاً في الإسلام. "إن كل ما شرعه الإسلام، واخذ به النبي المسلمين، من أنظمة وقواعد وآداب، لم يكن في شيء كثير ولا قليل من أساليب الحكم السياسي، ولا من أنظمة الدولة المدنية...ان كل ما جاء به الإسلام من عقائد ومعاملات، وآداب وعقوبات، فإنما هو شرع ديني خالص لله تعالى، ولمصلحة البشر الدينية لا غير. وسيان بعد ذلك ان تتضح لنا تلك المصالح الدينية ام تخفى علينا، وسيان ان يكون منها للبشر مصلحة مدنية ام لا، فذلك ما لا ينظر الشرع السماوي إليه، ولا ينظر إليه الرسول (صلعم)". ووصف الكتاب كل ما تتابع منذ وفاة الرسول (صلعم)، بدءاً من حروب الردة التي قادها ابو بكر، بانها تقع في امور السياسة وادراة سياقاتها، وليست شأناً دينياً. ورأى ان زمن الرسول (صلعم) يمثل وضعاً خاصاً، لعلاقته مع نزول النص الديني وأحكامه، ورأى فيه وحده ممارسة لدولة إسلامية دينياً. لم تكن دولة الرسول "دولة" بالمعنى السياسي، وان ولاية الرسول (صلعم) كانت ولاية روحية ترتكز على الإيمان والدين، وليس على السلطة كحال الدول التي يقيمها البشر. "ان نظام الدولة زمن النبي (صلعم) كان متينا ومحكما، وكان مشتملاً على جميع أوجه الكمال التي تلزم لدولة يديرها رسول من الله، يؤيده الوحي، وتؤازره ملائكة الله...". بالاختصار، رأى عبد الرازق في دولة الرسول (صلعم) علاقة مع الدين، في نصه وأحكامه، ما لا يستطيع البشر ان يكرروه. ورأى أن ما جاء بعد الرسول (صلعم)، بدءاً من ابي بكر، أفعال بشرية تندرج ضمن أعمال العقل في السياسة والاجتماع. كل ما تلى الرسول (صلعم)، وما أشير اليه باسم الخلافة، كان دولة سياسية لا دينية. وشدد على فترة خلافة أبي بكر الصديق باعتبارها الفترة الاولى لتاريخ إسلامي بعد وفاة الرسول (صلعم)، بما في ذلك الخلاف الذي شجر حول تولي ابو بكر زمام قيادة المسلمين. ورأى ان ليس كل من امتنع عن البيعة لأبي بكر كان مرتداً، بمعنى ان الامتناع كان سياسياً، وباعتبار ان مركز ابو بكر كان سياسيا وليس دينياً. وأعطى أمثلة على ذلك شملت امتناع مالك بن النويرة، الذي بقي على الاسلام ولم يرتد، والخلاف بين ابو بكر وعمر بن الخطاب عن قيام خالد بن الوليد بقتل بن النويرة. وشكل امتناع علي بن ابي طالب عن البيعة عينها مثالاً اخر، من رسم الحد بين الامتناع عن مبايعة الحاكم المسلم والإسلام نفسه.
وفي المقابل، لم يقبل عبد الرازق دعوى الشيعة بضرورة أن تكون الخلافة في علي. ونبّه إلى " ان ذلك اللقب (خليفة رسول الله) كان سبباً من أسباب الخطأ الذي تسرب الى عامة المسلمين، فخيل إليهم ان الخلافة مركز ديني... كان من مصلحة السلاطين ان يروجوا لهذا الخطأ بين الناس...ثم أصبحت الخلافة تلصق بالمباحث الدينية...تلك جناية الملوك واستبدادهم بالمسلمين...فصاروا (أي المسلمين) لا يرون لهم وراء ذلك الدين مرجعاً، حتى في امور الإدارة الصرفة والسياسة الخالصة... كل ذلك انتهى بموت قوى البحث، ونشاط الفكر، بين المسلمين، فأصيبوا بشلل في التفكير السياسي... ان الدين الاسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون...الخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة. وانما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا امر بها ولا نهى عنها, وانما تركها لنا، لنرجع فيها الى احكام العقل، وتجارب الامم، وقواعد السياسة. كما ان تدبير الجيوش السلامية وعمارة المدن والثغور، ونظام الدواوين لا شأن للدين بها، وإنما يرجع الأمر فيها الى العقل والتجريب، او الى قواعد الحروب، او هندسة المباني وآراء العارفين".
ويختتم الكتاب على هذه الكلمات: " لاشيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى، في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وان يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا اليه، وان يبنوا قواعد ملكهم، ونظام حكوماتهم، على احدث ما انتجته العقول البشرية، وامتن ما دلت عليه تجارب الامم على انه خير اصول الحكم".
لنفتح قوسين. ولنقر لعبد الرازق بامر لمسه اخيراً "تقرير التنمية العربية 2005": مصادرة السلطة التنفيذية الحاكمة لفعالية المجتمع، باعتبارها حلقة اساسية تربط بين قمع النظام العربي وتخلف مجتمعاته. لقد وضعت كلمات عبد الرازق يدها قريباً من ذلك العصب. لماذا فقدت حركة التحرر العربي، خلال ما يقرب من قرن، هذه الحلقة؟ سؤال يحتاج الى تأمل منفصل.
وشدد عبد الرازق على ان مسألة لا دينية الدولة، في التاريخ الإسلامي. واعتقد انها مسالة منفصلة عن القدرة على التوصل الى المصالح الدينية المتضمنة في النص القراني والأحاديث النبوية، مما جعل كتابه على علاقة مباشرة بإشكالية التفسير، وبالتالي علاقة العقل البشري مع النص الديني. يتبع
المصدر: مدونة أحمد مغربي / http://amoghrabi.blogspot.com/2005/04/blog-post_10.html
ساحة النقاش