بحبك يا مصر
كان من المتوقع لشعب عانى من الحكم الظالم عشرات من السنين أن يُقتل فيه كل معنى جميل، وأن يتحول إلى كيان لا لون له ولا طابع، وأن تسحق إرادته، وتموت همَّته.. كان من المتوقع لهذا الشعب أن يفقد فطرته السليمة، وأن تضيع منه المناهج، وتُسلب منه القيم..
لكن ما رأيناه في هذه الثورة الكريمة.. أدهش الدنيا جميعًا.. بل أدهش المؤرخين والمحللين.. هناك سر عجيب، وروح نادرة تسري في أوصال الشعب ودمائه تحفظ له عظيم الأخلاق، ونبيل المعاني..
كم أنت أصيل أيها الشعب المصري!
وكم أحبك وأحبك وأحبك..
بكل ذرة في كياني أقولها: أحبك يا مصر..
رأيت في ميدان التحرير جموع المصريين بمئات الآلاف، بل والملايين، من كل الطوائف والتيارات، من كل الطبقات، من كل الفئات، الكل يجتمع لتحقيق هدف واحد.. ويقفون إلى جوار بعضهم البعض ساعات وأيام في تلاحم عجيب، وتناسق مدهش..
الله الله يا شعب مصر..
بمجرد أن بدأ الشعب في استنشاق نسمات الحرية اختفت أخلاق الزحام المعروفة، وظهرت أخلاق حضارة عجيبة..
هل تصدقون أن يجتمع أكثر من 2 مليون إنسان في مكان محدود، بلا شرطة ولا قوانين، ولاضوابط ولاروابط، ثم لا تحدث صدامات من أي نوع بين كل هذه الأطياف البشرية المتباينة؟!
كنا منذ شهور – قبل هذه الثورة المباركة – لا نستطيع أن نضع في استاد كرة سبعين أو ثمانين ألف مواطن فقط، دون حراسة مشددة، ودون فواصل بين المشجعين.. أما الآن فالمعدن الأصيل يظهر، والملايين تجمتع دون مشاكل.. ما شاء الله..
أحبك يا مصر..
رأيت المصريين ينظمون أنفسهم في طوابير للتفتيش من لجان شعبية كوَّنوها على مداخل ميدان التحرير، ويحرصون على انتظام الطابور، مع أنهم قبل هذه االثورة كانوا كثيرًا ما يتصارعون حول شباك أي مصلحة، كلٌ يريد أن يأخذ نصيب الآخر، فإذا بالحدث الجديد.. يُفجِّر في المصريين طاقات تنظيمية جديدة عليهم، ويثبت أنَّ هذا الشعب شعب لا تموت فيه الفضائل أبدًا.. قد تضعف وتخبو زمنًا لكنها ما تلبث أن تعود للظهور..
أحبك يا مصر .. أحب لجانك الشعبية!
أيها الشعب الأصيل.. ما هذا الابتكار المبدع؟!
عندما قامت الحكومة المصرية بتصرف مجنون فتحت فيه سجون مصر في كل مكان وأطلقت المساجين عمدًا لإثارة الهلع والسرقات في كل مكان، ثم قامت بفعل آثم آخر عجيب، وهو سحب كل قوات الشرطة من كل الدولة!! لتؤدب الشعب بكامله لأنه يريد لنفسه حاكمًا آخر.. عندما حدث هذا الأمر الشنيع لم يقنط المصريون أو يتخاذلوا، إنما في توافق عجيب للغاية بدءوا يكونون لجانًا شعبية عجيبة، تقوم بحماية كل شارع وكل بيت، ومراقبة اللصوص والقبض عليهم، وصنع كل واحد منهم سلاحًا خاصًا به، واستتب الأمن في غضون 24 ساعة!
هذا حدث يكتب في التاريخ بحروف من نور..
أحبك يا مصر..
أحب شعبك الذي يتكامل ويتكافل بشكل تلقائي، وعاطفة جياشة، وروح نبيلة.. مستشفى ميداني في ميدان التحرير لعلاج المصابين من عدوان بلطجية الحزب الوطني الحاكم.. تبرعات بالأدوية، وتبرعات بالقطن والشاش، وجهود ذاتية من أطباء على أعلى مستوى.. ونقل سريع للمصابين.. الجار يسأل عن جاره، ويعطيه غذاء ودواء، بل ويعطيه مالاً.. الكل يتعاون للخروج من الأزمة..
رأيت بناتًا في ميدان التحرير يحملن أكياس القمامة الكبيرة، ويتجولن في كل مكان لتنظيف الميدان.. ويقولن: عايزين بلدنا نظيفة!
هذه روح جديدة تظهر في وقت الأزمات.. ما أروعها!
أحبك يا مصر..
أحب روح شبابك العالية..
عزيمة وإصرار.. إقدام ورجولة.. ثبات وتضحيات..
يهجم عليهم بلطجية محترفون، وتلقى عليهم قوات الفزع –أو ما يسمونه بقوات الأمن– القنابل المسيلة للدموع، ثم يطلقون الرصاص الحي، ثم يدهسونهم بالسيارات، فما يزيدهم كل هذا إلا إصرارًا وثباتًا!!
الله أكبر.. الله أكبر..
ما زالت مصرنا بخير..
رأيت المئات والآلاف يستمرون في الميدان كل يوم وليلة بعد إصابتهم في رؤوسهم، بل والله في أعينهم، فيضمدون جراحهم، ويستكملون ثباتهم، ويقامون البلطجية من جديد.. لا تخيفهم السيوف ولا الخناجر، ولا يرهبون الحجارة ولا قنابل المولوتوف!
لقد صرت في غاية الاطمئنان على مستقبل أمتي، وأنا أرى هذه الجموع الصامدة، وهي تكافح من أجل قضية عادلة..
أحبك يا مصر..
أحب التحام شعبك ورحمته.. ورفقه وشفقته.. وتسامحه وحسن فطرته.. ها هو الميدان يضم مسلمين ونصارى.. دون احتكاك أو فتنة.. ها هي اللجان الشعبية كذلك يقف فيها هذا وذاك.. لا أصل لما يروجه النظام الفاسد من شائعات.. ها هي الكنائس بعد غياب كامل للشرطة لا تتعرض لأذى أو تخريب..
شعب أصيل.. وروح راقية .. وما لم أقله أكثر مما قلته..
فأنا لا أقصد هنا الإحصاء، ولكن أكتب مقدمات ملحمة مصرية كبيرة تحتاج إلى مجلدات لتسطيرها..
فقط أحببت أن أقول في هذا المقال:
أحبك يا شعب مصر الأصيل..
أنا مفتون بحبك أيها الشعب الكريم..
يا خير أجناد الأرض..
يا شامة على جبين الأمة الإسلامية..
يا رأس الحرية في أوطان المسلمين..
يا قدوة لكل الأمم..
أنا أرفع رأسي عاليًا الآن، وأقول بكل فخر: أنا مصري..
أنا الذي أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم..
قال: "استوصوا بأهل مصر خيرًا، فإن لهم رحمًا وذمة.."
لقد فهمت الآن كلمة الزعيم مصطفى كامل، والتي قال فيها: لو لم أكن مصريًا، لوددت أن أكون مصريًا..
إنه لم يقلها بدافع القومية أو العصبية.. إنما كان فقط يرصد الواقع.. هذه حقيقة.. هذا شعب أفخر أن أنتمي إليه..
اللهم استعمل هذا الشعب لنصرة دينك، ولخدمة شريعتك..
وأسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين..
25 تصويتات / 138 قراءةنشرت فى 9 فبراير 2011 بواسطة abuosama مصر, انتماء, وطنية, 25 يناير
الحرب النفسية في معركة ميدان التحرير
لا يوجد أدنى شك في أن معركة ميدان التحرير التي جرت يوم الأربعاء الثاني من نوفمبر 2011 م للتنكيل بشباب ثورة 25 يناير قد تم التخطيط لها على أيدي خبراء في علوم مختلفة أمنية ونفسية، وسأتحدث هنا عن الجانب النفسي في هذا الحدث، فمثلا بداية الهجوم على الميدان بواسطة الخيول والجمال هو مشهد قد يبدو بدائيا صادرا عن مجموعة من سكان العشوائيات والبلطجية، ولكنه من ناحية أخرى مشهد يثير الفزع في نفوس مستقبليه، إذ هو شئ غير معهود وغير متوقع في مثل تلك الظروف، وهو يحدث خللا فيما يسمى بالإفتراضات الأساسية لدى الإنسان، تلك الإفتراضات التي تعني أن الحياة تسير وفق منطق معقول، وأن ثمة تسلسلات مفهومة للأحداث، وأن الحياة الإنسانية والكرامة الإنسانية غالبا مصانة، وأن هناك حدودا يقف عندها المعتدي ويصعب عليه تجاوزها لأسباب أخلاقية أو قانونية أو دينية، وأن الإنسان ينظر إلى نفسه نظرة إيجابية ويتوقع من الآخرين نفس النظرة . تلك هي الإفتراضات الأساسية القابعة في أعماق تكويننا النفسي في الأحوال العادية، وهذه الإفتراضات حين تنتهك بواسطة أحداث مفاجئة يحدث ارتباك شديد في الجهاز النفسي وتحدث حالة من الهلع لدى الإنسان وربما يصاب بما يسمى "التفاعل الحاد للصدمة" أو "كرب ما بعد الصدمة"، وهذا ما خطط له المهاجمون للمتظاهرين في ميدان التحرير وتلخص ذلك في الدخول بالخيول والجمال التي يحمل أصحابها السيوف والخناجر والعصي، ثم تلا ذلك جحافل من البلطجية وأرباب السجون يقذفون المتظاهرين بالحجارة من كل جانب . هذا المشهد المختلف والمفاجئ، وظهور نوعية من البشر لا تعرف أخلاقا ولا يردعها قانون وليس لها سقف معروف في العدوان يجعل كل الإحتمالات الخطرة قائمة في أقصى درجاتها وهذا ما قصده المخططون على أمل أن تحدث حالة رعب شديدة في صفوف المتظاهرين على اعتبار أنهم كلهم أو غالبيتهم من الطبقات المتعلمة ومن الطبقات الإجتماعية الأرقى ولم يسبق لهم مواجهة مثل هذه النوعية من البلطجية واللصوص وأرباب السوابق، وأنهم سيفرون فورا تاركين الميدان خاليا للمهاجمين، وهنا ينتصر المخططون في المعركة دون كلفة سياسية داخلية أو خارجية على اعتبار أن ما حدث هو صراع بين فريقين من المتظاهرين فريق يؤيد النظام وفريق يعارضه، وأن الأمن التزم الحياد حفاظا على الأرواح . ولا ينكر أحد أن المرابطين في ميدان التحرير تعرضوا لحالة من الهلع والرعب للحظات (حسب رواية بعض شهود العيان) ولكنهم استطاعوا استعادة تماسكهم سريعا ووقفوا يواجهون هذا الهجوم المرعب على الرغم من كونهم شباب مهذب راق ومتحضر ولم يتعودوا على حرب الشوارع أو مواجهات البلطجية والعشوائيين والمجرمين . مالذي أعطاهم تلك القوة وتلك الجرأة التي مكنتهم من الصمود ساعات طويلة أمام الهجمات تأتيهم من كل جانب ؟، وما الذي حافظ على كل ذلك حتى مع شعورهم بأنهم أصبحوا محاصرين من كل الجوانب (وهذا مصدر رعب إضافي) وعلى الرغم من تطوير وسائل الهجوم واستخدام كرات الناروزجاجات الموليتوف، وعدم معرفتهم بحجم المهاجمين والإمدادات التي تصلهم في كل لحظة ؟، وكان المؤكد أن وتيرة الهجوم تتزايد بلا سقف معروف، وأن الوسائل تتزايد وتتنوع، وأن الحصار يشتد، وأن الهدف هو قتل وجرح أكبر عدد من المتظاهرين والمعتصمين في ميدان التحرير، وأن الجيش والشرطة لا يتحركان لإنقاذهم على الرغم من وجودهم على مد البصر، وأن سيارات الإسعاف يتم منعها من محاولة إنقاذهم، بل هم يتشككون في سيارات الإسعاف لأن لديهم تجارب قريبة في سيارات إسعاف تحمل مسلحين يروعون الناس . والجواب هو تلك الروح الجديدة التي سرت في هؤلاء الشباب وانتقلت للشعب المصري بدرجات متفاوتة، لقد حدث تحول هائل في نفوس هؤلاء الشباب، فمنذ عدة أسابيع أو شهور كانت الصورة النمطية أن المصريين تجمعهم صفارة وتفرقهم عصا، وكان هذا يتأكد – للاسف - في مواقف كثيرة، وقد نجح الأمن فعلا في تفريقهم وإجلائهم من الميدان مؤقتا بالقنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه بعد منتصف ليل الإثنين 25 يناير، أما الآن فلا لقد تغير الحال، هاهنا شباب تعرض لأقصى درجات الرعب التي تفنن فيها خبراء أمنيون وخبراء نفسيون، ومع ذلك صمدوا وكسروا جحافل المهاجمين وبقوا في الميدان يرفعون مطالبهم المشروعة في وطن آمن وحر وعادل وجميل، فتحية لهؤلاء الأبطال الذين نفخر بأنهم أبناؤنا ونعتذر لهم عن نظرتنا الخاطئة السابقة لهم على أنهم شباب مترف مرفه لا يتحمل الصعاب أو المسئوليات، وسوف يأتي اليوم الذي يفتح لهم التاريخ صفحاته ليسطروا بأنفسهم تلك الملحمة البطولية الرائعة، وتحية للشهداء الذين قضوا قبل أن يروا ذلك اليوم وهنيئا لهم فقد رحلوا عن وطن مخطوف مضطرب إلى دار الأمن والسلام .
حرب الترويع والتجويع
في الوقت الذي كانت تدور فيه أحداث ثورة 25 يناير 2011 م في مصر، كانت هناك عقولا على الجانب الآخر تدير معركة نفسية ضخمة ومؤثرة تلخصت أدواتها في التالي :
1 – عنصر المفاجأة حين سمح للمظاهرات بالخروج تحت حماية الأمن ثم فجأة وبعد منتصف ليل اليوم الأول للحدث يتم هجوم مباغت بعدد هائل من القنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه العملاقة والرصاص المطاطي والحي، وقد أحدث ذلك صدمة للمتظاهرين الذين كانوا يستعدون للنوم بعد يوم حافل وشاق، وفعلا نجحت الصدمة في تفريقهم وإخراجهم من الميدان ليعودوا إليه بعد ذلك في الأيام التالية ويتشبثون بالبقاء فيه مع كل المحاولات لإخراجهم .
2 – الترويع للشعب، وذلك بالإنسحاب المفاجئ لقوات الشرطة بالكامل من كل المدن والقرى على طول مصر وعرضها بشكل يثير الريبة والفزع ويفتح كل الإحتمالات لفقدان الأمان، ومن المعروف أن الأمان هو أحد أهم الإحتياجات النفسية للإنسان، وهو يلي مباشرة حاجته للمأكل والمشرب والمأوى (الإحتياجات الأساسية) . وقد زاد من الترويع فتح السجون المتزامن وخروج عدد هائل من المجرمين والبلطجية والخارجين على القانون، واستيلائهم على عدد كبير من الأسلحة من حراس السجون، وزاد الأمر سوءا تدمير وإحراق الكثير من أقسام ومراكز الشرطة وتسرب أسلحتها للمجرمين الذين شكلوا مجموعات سلب ونهب وسطو مسلح، ولم يوقف ذلك الترويع إلا الخطوة العبقرية السريعة التي تكونت فيها اللجان الشعبية للحفاظ على الأمن وتنظيم شئون الحياة .
3 – التجويع، وذلك من خلال عدم صرف المرتبات والإصرار على إغلاق البنوك (حتى بعد عودة الأمن للشوارع بعد غياب ثلاثة أيام متصلة)، وافتعال أزمة نقص البنزين ونقص المواد الغذائية وغلاء أسعارها .
4 – التهديد بالفوضى والدخول في المجهول، وهذا يرعب الناس كثيرا ويجعلهم في حالة ترقب مؤلم حيث لا يعرفون ماذا سيحدث بعد لحظات .
5 – قطع التواصل الإلكتروني من خلال وقف الإنترنت وقطع الإتصالات على المحمول، والذي نتج عنه تقطيع أوصال شبكة التواصل الإجتماعي وما يستتبعه من شعور بالوحدة والخوف .
كل هذه الوسائل والخطوات وغيرها كانت تهدف إلى اللعب على احتياجات الإنسان الأساسية، خاصة وأن الشعب المصري كان يعيش على الحافة وكثيرون منهم يحصلون على أرزاقهم يوما بيوم وقد هددهم الجوع فعلا نظرا لتوقف الأعمال وتوقف الرواتب، وهو شعب لم يتعود على افتقاد الأمان بهذا الشكل المفاجئ، وكان المخططون لذلك والمنفذون له يسعون إلى إيجاد جو نفسي مشحون بالقلق والخوف يدفع الناس للبحث عن مصدر الإستقرار الذي يعيد إليهم أحتياجاتهم المفقودة من الغذاء والأمن والتواصل الإجتماعي، وأن يكونوا في لهفة لعودة الحياة الطبيعية التي ألفوها بأي ثمن، وأن يقارنوا بين ماهم فيه من كرب مع الثورة الجديدة مع ما كانوا فيه من ظروف قبلها فيكتشفوا أنهم كانوا أفضل على الرغم من شكاواهم الكثيرة قبل ذلك . والإنسان حين يصاب بهلع ويعيش في المجهول يتولد لديه اشتياق طبيعي للعودة إلى أقرب نقطة استقرار وإشباع كان عليها من قبل حتى ولو لم ترض طموحه، وهذا ما حدث فعلا للشعب المصري أو لطوائف كثيرة فيه خاصة بعد الخطاب الثاني للرئيس مبارك والذى أعطى فيه بعض الوعود ولمح فيه إلى العودة للإستقرار والحياة الطبيعية، هنا شعر كثير من الناس بالفرحة وانفراج الأزمة وشعروا بالأمل في العودة للحياة الطبيعية مرة أخرى في ظل وضع ألفوه ثلاثين عاما حتى ولو تألموا منه أو ضاقوا به أو جاعوا معه فالجوع النسبي –في نظرهم – أفضل من الجوع المطلق والدخول في المجهول، لذلك خرج بعض الناس يهتفون لمبارك ويعتذرون له في اليوم التالي للمظاهرات المليونية التي خرجت في سائر المدن المصرية تطالب بإسقاط النظام وإسقاط الرئيس . لقد نجح الرئيس في استمالة الناس إليه من خلال خطاب يحوي بعض الوعود التي توحي بانفراجة جزئية للموقف وعودة للإستقرار ومن خلال بعض العبارات العاطفية مثل رغبته في أن يموت على أرض مصر التي عاش عليها ودافع عنها . وقد نجح النظام فعلا في أن يكسب جولة من خلال الظروف النفسية التي وضع الشعب فيها على مدى أيام الثورة ثم كلل ذلك بخطاب يراعي جوانب نفسية لدى الشعب المصري مثل احترام الكبير، وعدم الرغبة في إذلال عزيز، وقيمة العرفان بالجميل لمن قدم جميلا حتى لو أساء بعد ذلك . وخرجت مظاهرات مؤيدة لمبارك تكونت من عدة طوائف، الطائفة الأولى خرجت تلقائيا وعفويا مدفوعة بمشاعر طبيعية تجاه الرئيس وراغبة في عودة الحياة الطبيعية، والطائفة الثانية جيشها الحزب الوطني من عمال المصانع والشركات والهيئات الحكومية نقلوهم بوسائل نقل حكومية وأعطوهم مكافآت أو حذروهم من عقوبات، والفريق الثالث كان مجموعة من البلطجية والجياع الذين استحضروا من المناطق العشوائية ومن السجون ليقوموا بدور مدفوع الأجر لترويع الجانب الآخر من المظاهرات المناوئة للنظام، وهذا الفريق الثالث يعتبر دائما الذراع الأمني السري للحزب الوطني يستخدمه في الإنتخابات لتزويرها ويستخدمه في مواجهة المعارضين . وفي وقت محدد تراجع فريقين ليستكمل فريق البلطجية مشواره في ميدان التحرير في أعمال عنف وترويع هائلة ضد الشباب المرابط في الميدان لتكتمل الحرب النفسية في كل الإتجاهات . وقد خسر النظام تعاطف الناس معه بالهجمة الشرسة للبلطجية على المرابطين في ميدان التحرير، وأثبت الحزب الوطني فشله الدائم في التعامل مع الأحداث حيث أبطل كل تأثير لخطاب الرئيس مبارك، إذ جاءت الرسالة لتقول بأن الوعود الرئاسية قد تم نسفها في اليوم التالي مباشرة وأن النظام مازال يمارس تلك الأساليب غير الشريفة في التعامل مع المعارضين .
كان هذا هو جانب النظام في التأثير النفسي في الأحداث، وعلى المقابل كان الجانب المعارض يحاول مواجهة آثارتلك الضغوط النفسية أملا في الوصول إلى نقطة النهاية التي يسعى إليها وهي تغيير النظام، وقد نجح هذا الفريق أيضا في الصمود حتى الآن بل واستفاد من أخطاء النظام في محاولاته لإحداث الضغوط النفسية، وعلى الرغم من الصمود الواضح لمجموعة الشباب الذين صنعوا الثورة إلا أن الصمود الشعبي العام تحوطه بعض الشكوك نظرا لتفشي الأمية ونقص الوعي وقابلية الجماهير للإحتواء والإستهواء والإستلاب . وفي كلمات قليلة نقول بأن الشباب قام بالثورة بعقله ووجدانه وجوارحه وشاركه قطاع كبير من الشعب، ولكن بعد عدة أيام حدث انقسام على المستوى الشعبي للأسباب التي ذكرناها، ومازال الحدث جاريا ومفتوحا لكل الإحتمالات على مسارات القوى المختلفة المؤثرة في الحدث .
عودة الروح وقليل من الوعي
نعم عادت الروح للشعب المصري بعد طول رقاد ظنه البعض مواتا، واستيقظ الديناصور الهائل وبدت حركته في البداية بطيئة نظرا لضخامته، ولكنه بدأ يتمدد من ميدان التحرير إلى الإسكندرية والسويس والمنصورة والفيوم والعريش والمنيا وأسيوط . لقد جاءت الصحوة من أكثر الأماكن اخضرارا ونقاءا وبراءة وتمردا، من جيل لم يتشبع بعد بأخلاق العبيد كما تشبع آباؤه وأجداده، جيل لم يستجب للكهنة حين أمروه بالسجود للفرعون الإله، جيل جلس ساعات على البلاي ستيشن يخوض معارك كبيرة فتعود على التخطيط والحشد وعشق المغامرة، جيل لم يرتعد من أفلام الرعب بل عشقها واستمتع بها، جيل تواصل مع نفسه ومع غيره عبر الشبكة العنكبوتية العالمية الجبارة فتعود السباحة في البحار المفتوحة وفي السماوات المفتوحة، جيل خلق لنفسه لغة جديدة مختصرة وسريعة وساخرة ليتمرد بها على المفردات المعلبة التي سممت وعي مجتمعه وخدرته . واستجاب الجسد المصري في البداية على حذر، ثم أيقن بعد وقت قصير أن الروح عادت فعلا فاستجاب وتغير وكسر حاجز الخوف وخرج في البداية إلى الشارع بالمئات ثم بالألاف ثم كسر حاجز الملايين وكسر قبلها شوكة الشرطة التي أرهبته وقمعته لسنوات طويلة، ثم كسر حاجز الخوف من الفوضى الذي طالما هددوه به إن هو ثار أو تحرك، فقد تأكد من قدرته على تنظيم المرور بنفسه وحفظ الأمن بنفسه في غياب الشرطة .
ونبتت زهور جميلة في ميدان التحرير وفي ميدان المنشية وفي ميدان الشون وفي ميدان المحافظة وفي أغلب ميادين مصر . واستجاب الناس وتدافعوا لري تلك الزهور والثورة على الأشواك التي طالما مزقت أجسادهم، وفرح الجميع بأن التغيير أصبح وشيكا، وهنا دارت آلة التزييف الجهنمية التي تدربت على اللعبة وأجادتها على مدى عقود طويلة فلعبت على مشاعر الجماهير مستغلة في ذلك بعض كلمات ووعود في خطاب رئاسي ومحركة خلايا نائمة أو مستيقظة على قنوات تليفزيونية حكومية وقنوات أخرى تابعة، وتحرك المزيفون بهمة ليلعبوا على أوتار ضعيفة لدى الشعب المصري، ولعبوا على احتياج الأمان فأثاروا خوفه الدفين من الفوضى بانسحاب الشرطة المقصود من الشارع لمدة ثلاث أيام، ولعبوا على عنصر الإحتياجات الأساسية فأنهكوه بعدم صرف المرتبات وإغلاق البنوك ونقص البنزين وارتفاع أسعار المواد الغذائية، وأوهموه بأن الثوار ينتمون لجماعات محظورة ويتحركون بأجندة أجنبية وتم تدريبهم على أيدي خبراء يهود، وأن ثمة عناصر أجنبية مندسة بين الشباب الثائر . هنا وقع كثير من الناس في الفخ ونجح المتلاعبون بالعقول في تحريك مظاهرات مضادة تهتف باسم النظام وتطالب بعودة الأب الذي صوروه أبا راعيا حافظا رحيما . وهنا ظهرت أزمة الوعي التي مازالت قائمة لدى قطاعات كبيرة من المصريين، وظهرت أزمة الذاكرة المصرية الضعيفة التي لا تختزن أحداثا أو مواقف أو وعود، وظهرت أزمة العقل المصري الذي لا يستطيع أن يفكر باستقلال كاف وتغيب عنه كثيرا الملكة النقدية التي تمكنه من تمحيص مايرى ويسمع . وافترق المعارضون التقليديون من رؤساء الأحزاب وقادة الرأي حول جني مكاسب الثورة التي لم يتعبوا فيها وراحت نزعات الزعامة والمكاسب الشخصية تسيطر على المشهد .
كل هذه الآفات التي ذكرناها باتت تهدد عودة الروح خاصة وأن هناك عقولا شيطانية تحاول رؤية أي ثغرة في البناء الثوري والبناء المجتمعي تتسلل منها لتقتل تلك الروح الناشئة وتعيد عجلة الحياة في مصر إلى الوراء . إذن فبراءة الثورة ونقائها، وحماس شبابها لايضمن استمرارها خاصة مع محاولات قوية ومستميتة للإلتفاف حولها وتفريغها من مضمونها ومحو آثارها .
ثمة قطاع كبير من الشعب لم يتعلم (وهذه مسئولية الجميع)، وحتى المتعلمين منهم تلقوا تعليما سطحيا مشوها، وثمة بطون خاوية ترضى بأي شئ مقابل وجبة طعام (وهذه مسئولية الجميع)، وثمة نفوس خائفة من المجهول، وثمة متطلعين للإنتفاع بما يجري وتحقيق ثروات ومكاسب على حساب دم الشهداء، فانتبهوا يا أولي الأباب .
الحرية هي الأصل .. والاستبداد مرض
الحرية هى الأصل فى الوجود الإنسانى، وقد تفرد الإنسان بها من بين المخلوقات، فقد خلقه الله قادراً على فعل الخير وفعل الشر ¬ إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً (الإنسان 3) وهديناه النجدين (البلد : 10)، وأعطاه حرية الاختيار كاملة، ومنحه الإرادة لفعل هذا أو ذاك ثم جعله مسئولاً عن خياراته فى الدنيا وفى الآخرة . وبهذا التكوين الحر الناضج المسئول استحق الإنسان التكريم على سائر المخلوقات . ولم يضمن الله الحرية للإنسان فقط بل ضمنها أيضاً لإبليس فمنحه الفرصة للاعتراض على أمر السجود لآدم ولم يشأ سبحانه أن يقهره على السجود، ولو أراد لكان فلا راد لأمره، ولم يكتف بذلك بل منحه فرصة إلى يوم القيامة يمارس فيها دوره الذى ارتضاه لنفسه فأسس حزب الشيطان والذى أنضم إليه ملايين من الأنس والجن بكامل حريتهم .
وأرسل الله الرسل تترى إلى البشرية ليبلغوهم كلمة الله وليؤسسوا حزب الرحمن الذى يضم المؤمنين من البشر، وليصححوا للناس معتقداتهم، ولينشروا الحق والخير والعدل فى الأرض فى مواجهة حزب الشيطان الذى ينشر الباطل والشر والظلم فى الأرض، ومع هذا فقد علم الله رسله درساً هاماً فى الحرية فى أعلى مستوياتها وهى حرية الاعتقاد الدينى حيث قرر بوضوح لا لبس فيه أنه : لاإكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى، فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم [البقرة : 256] .
وسيدنا نوح عليه السلام لم يشأ أن يقهر ابنه على الاعتقاد فيما يعتقده ولكنه حاوره وحذره ثم تركه يقرر ما يريد رغم علمه بأن ما يريده ابنه فيه هلاكه فى الدنيا (الغرق) وهلاكه فى الآخرة (جهنم)، ولكن نوحاً يعلم مراد الله من البشر ويعلم قيمة الحرية التى منحها الله الإنسان حتى إذا عبده كان ذلك عن طواعية وحب وليس عن قهر وخوف .
والحرية على المستوى النفسى ضرورة للنمو النفسى الطبيعى ولتطور الوظائف النفسية وبالتالى لنمو وتطور الحياة، فهى التى تعطى فرصة للتفكير الحر وللإبداع الحر وللعمل الخلاق الذى يثرى الحياة وينميها ويطورها .
ومن هنا يصبح الاستبداد مرضاً إنسانياً واضطراباً نفسياً لكل من المستبد ( بكسر الباء ) والمستبد ( بفتح الباء ) به فهو يشوه الطرفين ويشوه البيئة ويلوثها بكل أنواع الفساد . ولهذا نجد أن الأديان السماوية والحركات الإصلاحية الفلسفية والاجتماعية والسياسية حرصت فى كل مراحل التاريخ على علاج هذا المرض العضال الذى يعصف دائماً بمكتسبات الحضارة الإنسانية ويحدث – كما ذكرنا – تشويها لفطرة البشر وتلويثاً للبيئة الإنسانية بكل ألوان الانحراف والفساد، فالاستبداد هو مصدر الكثير من المفاسد الفردية والجماعية . وفي التاريخ الإنساني مآس كثيرة حدثت بسبب الطغاة المستبدين سواءا في فترات حكمهم أو في لحظات اقتلاعهم .
ويبدو أن المجتمعات العربية والإسلامية على وجه الخصوص قد أصابها من هذا المرض العضال الكثير ومازال حتى الآن، فعلى الرغم من أن المجتمعات البشرية الحديثة قد انتبهت إلى خطر هذا المرض وكافحت كثيراً حتى وضعت الضمانات والآليات لمنع انتشاره فى صورة الإعلان العالمى لحقوق الإنسان وفى صورة الأنظمة الديمقراطية المختلفة، وقبل هذا كله فى صورة ثقافة الحرية والعدل والمساواة، على الرغم من كل هذا الذى حدث فى المجتمعات المتقدمة حولنا، إلا أننا مازلنا نعانى الكثير من أعراض هذا المرض لدرجة أن العالم الخارجى (سواء بحسن نية أو بسوء نية) قد أصبح يعتبرنا مرضى نحتاج لتأهيل سياسى واجتماعى ونفسى حتى نرتقى إلى مستوى العالم الحر من حيث اعتناق قيم الحرية وحقوق الإنسان ومن حيث تطبيق الديموقراطية كآلية لمنع انتشار فيروس الاستبداد الكامن فينا مرة بعد مرة .
وقد حاولت دعوات الإصلاح قديماً وحديثاً علاج هذا المرض، فقديماً كتب عبدالرحمن الكواكبى عن « طبائع الاستبداد» فشخص المرض ووضع العلاج، ولكن كلماته وصرخاته لم تؤثر بالقدر الكافي في المجتمعات العربية، وحديثاً حذر المصلحون فى الداخل دون جدوى، ويضغط علينا النظام العالمى الجديد لقبول العلاج حتى لا نصبح بؤرة مرضية فى المجتمع الإنسانى، وفى المقابل تجرى محاولات الإنكار والالتفاف حول جهود الإصلاح ومحاولات العلاج بإدعاء أننا لسنا مرضى إلى هذا الحد وبادعاء أن الديموقراطية نظام غربى لا يصلح لمجتمعاتنا الإسلامية وبادعاء أن الحرية تعنى الإنفلات من القيم والعادات والتقاليد العربية والإسلامية، وبادعاء أن لنا خصوصية يجب المحافظة عليها وأن الحرية والديموقراطية تهددان هذه الخصوصية، وفى الحقيقة هذه تبريرات يسوقها المستبدون لاستمرار طغيانهم .
ويخطئ من يعتقد أننا نتحدث عن الاستبداد على المستوى السياسى فى أنظمة الحكم فحسب، وإنما نحن نتحدث عن كل مستويات الاستبداد فى النفس والأسرة والمجتمع، حيث يبدو أن لدينا خللاً فى منظومتنا الفكرية سمح لتغلغل فيروس الاستبداد فى نفوسنا وأدى إلى تأخر العلاج وإلى رفض الدواء القادم من الداخل ومن الخارج على حد سواء، بل وأدى إلى فقد البصيرة حيال هذا المرض لدى قطاع كبير منا فلم يعد يشعر بأعراض المرض أو يشكو منه أصلاً، فنحن مجتمع أبوى يقوم على فكرة أن الكبير يعرف كل شئ ويملك كل شئ والصغير جاهل غرير لايعرف أى شئ ولا يملك أى شئ ( فى بعض المجتمعات العربية يطلقون فعلا على الطفل والمراهق لقب " جاهل " ويتعاملون معه من هذا المنطلق ) .
وحاليا نرى صحوة كبرى في العالم العربي تثور على الإستبداد وتنادي بالحرية وكانت تونس رأس حربة لهذه الحركة التحررية حيث استطاع شعب تونس البطل أن يخلع الطاغية من عرشه، ومازال يحاول إرساء قواعد نظام ديموقراطي سليم بعد سنوات طويلة من القهر والإستبداد، ثم تبعه الشباب المصري بثورة 25 يناير والتي ما تزال تكافح من أجل تحقيق الحرية والعدالة الإجتماعية والديموقراطية في ظروف بالغة الصعوبة والتعقيد، وبدأت الكثير من الكراسي والعروش في العالم العربي تهتز تحت أصحابها الذين ربضوا عليها سنين طويلة وورثوها لأبنائهم، وكأنما هو بزوغ فجر جديد للحرية في العالم العربي ينتقل من بلد لآخر مؤذنا بتغير خريطة المنطقة .
الرئيس الموظف
الرئيس الموظف هو أحد أنماط الرئاسة وهو يقوم بدور المدير وليس بدور القائد أو الزعيم،وهو قد وصل إلى هذه المكانة بغير ترتيب أو سعى وإنما لعبت الظروف دورا هاما فى وصوله، فلم تكن طموحاته تصل إلى ذلك ولم يكن هو معدا لنفسه للقيام بهذا الدور فلم يكن له فى حياته أى اهتمام بالسياسة بل كان يمقتها ويعتبرها من قبيل اللف والدوران والمراوغات، ومع هذا يقبل القيام به كأى موظف يقبل التكليف بعمل فى نطاق وظيفته، ولذلك يبدأ متواضعا بعيدا عن أبهة الرياسة والحكم، ويقبل بالأوضاع القائمة ويسعى لثباتها وترسيخها مستفيدا فى ذلك من اللوائح والقوانين التى وضعها الأسلاف، إذ ليست لديه رؤى أو أهدافا أو استراتيجيات جديدة، ولذلك يحاول طول الوقت التركيز على الهياكل الوظيفية والإجراءات الشكلية، ويهتم اهتماما وسواسيا ملحا بالإجراءات والضوابط واللوائح التى تضمن الإستقرار والثبات والذى يصل إلى حالة الجمود . وبما أنه موظف فهو يحافظ على " أكل عيشه " لذلك لا يميل إلى المغامرات أو المخاطرات أو الهزات، فالمهم عنده أن تمر الأيام دون مشكلات، وكل حركة لديه مشكلة تهدد الإستقرار وتعكر الصفو العام، لذلك لا يطيق المطالبون بالحركة والتغيير ويعتبرهم أعداءا للإستقرار وأعداءا للوطن وأعداءا له هو شخصيا لأنهم يكدرون صفوه واستقراره واستمراره، وشعاره دائما " استقرار الإستمرار واستمرار الإستقرار " . والموظف لا يملك رؤى استراتيجية أو تاريخية أو ثقافية أو حضارية، بل إن هذه الكلمات تضايقه وتؤرقه ويعتبرها تقعرا وتفلسفا من جانب قلة غير واقعية يتحدثون حديثا عاطفيا غير موضوعى، أما هو فلا يتحدث إلا عن الواقع اليومى الذى يعيشه بين مرؤسيه للحفاظ على لقمة عيشه وعيشهم، فهو يسعى إلى تثبيت الأمور بكل الوسائل ويحاول أن يقود السفينة دون أى اهتزازات، ولذلك يفضل القيادة بجانب الشاطئ دائما . وهو على الرغم من ادعاءاته بالثبات وعدم الخوف وعدم التأثر بالأحداث وطمأنينته السطحية لصواب قراراته وارتياحه المبالغ فيه لحالة الإستقرار السائدة واستهانته بكل ما يحيط به من تحركات وأخطار، إلا أن هذا كله يعكس حالة عميقة من الخوف الداخلى وانعدام الأمان،تلك الحالة التى تدفعه بلا وعى إلى التمسك بالوضع القائم والتمسك بالثبات الجامد والمتجمد لأن الحركة تحمل تهديدات لا يحتملها والجديد بالنسبة له يحمل رعبا لا يطيقه . والموظف يسلك سلوكا تقليديا عسكريا فيطلب الطاعة المطلقة من مرؤسيه فى حين يخضع هو لمن فوقه . وطموحات الموظف ليست كبيرة فهو يرضى دائما بالأدنى وليست له رؤى بعيدة المدى أو سقفا عاليا يصبو إليه، وليس لديه حلم ولا يملك أصلا القدرة على الحلم بل هو يعيش الواقع اليومى بتفاصيله القريبة، أى أنه يعيش فى مستوى الإحتياجات البيولوجية التى وصفها ماسلو وليس لديه اهتماما بالطبقات الأعلى من الإحتياجات فى هرم ماسلو الشهير مثل الحب والتقدير الإجتماعى وتحقيق الذات وغيرها، وبالتالى ليس لديه اهتمام بالنواحى الثقافية أو الجمالية أو الحضارية، ويشعر بالمقت تجاه المثقفين والمفكرين والفنانين، ويعتبرهم أقرب إلى مهرجى السيرك، وينظر إليهم على أنهم واهمون حالمون غير واقعيين لأنهم لا يرون الحقيقة وتستغرقهم الأوهام والأحلام الفارغة، أما هو فيهتم باللحظة الحاضرة ويسعى لتحسين أحوال الناس المعيشية ويحقق (أو يريد أن يحقق نتائج ملموسة على أرض الواقع )، وهو يتجنب الدخول فى المخاطرات التى يدعوه معارضوه إليها لأنه يدرك مالا يدركوه من تأثير ذلك على تابعيه، فهو يخطط على المستوى التكتيكى القريب من حياة الناس اليومية واحتياجاتهم القريبة قصيرة الأمد، ويركز على النتائج الملموسة، وهو يسترشد فى قراراته بالأرقام والمعلومات والحسابات ولا يخرج عن التعاليم واللوائح والتعليمات، ويختار تابعيه على أساس الكفاءة فى التنفيذ وثقته فى ولائهم ولا يتوقع منهم تخطيطا أو إبداعا فهو يمقت الإبداع ولا يريد من سكرتاريته إلا الإتباع وتنفيذ الأوامر بدقة، ويستخدم معايير الثواب والعقاب لضبط مرؤوسيه ولتحقيق أهدافه، وهو لا ينظر إليهم باعتبارهم بشرا أكفاءا لهم القدرة على الإبداع والإضافة والحذف والتغيير وأنهم موارد وطاقات بشرية يمكن تنميتها وتطويرها ولكن ينظر إليهم على أنهم مجرد أشياء لتنفيذ برامج أو احتياجات أو إجراءات معينة، ولذلك لا يهتم بأشخاصهم أو تاريخهم أو مشاعرهم أو مشكلاتهم ولا يرتبط بأى منهم بصداقة أو علاقة إنسانية بل ينساهم فور انتهائهم من أداء مهامهم،فهم فى نظره غير جديرين بالصداقة أو العلاقة الإنسانية، ولذلك تجد علاقاته سطحية ووقتية وفاترة، ولا تجد له تاريخا من البشر، وهو لا يتحدث عن تاريخه الشخصى كحياة إنسانية حافلة بالصداقات والعلاقات والمؤثرات الإنسانية، وإنما إذا تحدث عن تاريخه فإنه يتحدث عنه من خلال المهام التى أتم إنجازها طبقا للأوامر والتعليمات .
والرئيس الموظف يفتقد الكاريزما والحضور، وحيثما وجدته تراه مصطنعا على نحو كبير، وتفتقد فيه المشاعر الحقيقية والنبض الحيوي الإنساني، وكأن بينك وبينه طبقات من الزجاج السميك .
والموظف يكره الأحلام والأمنيات ويحتقرها ويحتقر من يتمسك بها ويعتبره ساذجا غريرا غافلا لذلك فهو يسعى لتكريس الأمر الواقع والقبول به، وهو إذ يفعل ذلك يثبط الهمم باسم التعقل ويقيد الحركة باسم التروى ويخنق الأفكار ويقتل الأحلام باسم الموضوعية، ويضحى بالإرادة والكرامة للأقوى باسم الواقعية والحفاظ على الحياة وأكل العيش .
وقد يتسم الموظف ببعض السمات الوسواسية فيصبح مدققا وعنيدا لا يقبل رأيا آخر ولا يتنازل عن شئ مهما صغر ويتمسك بالشكل دون الجوهر، ويعتقد أن الآخرين ليسوا جديرين بالثقة لأنهم لايقومون بالتنفيذ كما يجب لذلك نراه حريصا على عمل كل شئ بنفسه ومتابعة كل شئ بنفسه حتى لو توقفت الأمور وتعطلت مصالح الناس، وعلى الرغم من عدم تعبيره عن مشاعره العدوانية بشكل صريح إلا أن عناده يكشف عن عدوانيته الكامنة بداخله .
وهو لايميل إلى التميز أو التجديد بل يحب أن تسير الأمور فى مسارات عادية، فهو شخصية عادية، بل ومفرط فى عاديته . وأصعب لحظة فى حياة الموظف هى خروجه للمعاش، لذلك يحاول بكل الطرق أن يستمر فى منصبه لأطول فترة ممكنة وربما للأبد لأن حياته بدون الوظيفة لاتساوى شيئا ولا تطاق، فليس لديه أية اهتمامات أو هوايات أو أى شئ له معنى خارج إطار الوظيفة الرسمية .
مواصفات الرئيس القادم
تعالوا نسبق الزمن ونتخيل نجاح ثورة 25 يناير، تلك الثورة الشبابية البيضاء النقية الطاهرة التي أيقظت وعي المصريين وبثت فيهم روح الحرية والكرامة الإنسانية، وأنها تخطت كل المراوغات ومحاولات القفز على مكاسبها من أصحاب المصالح الشخصية، وأن الحياة الطبيعية قد عادت إلى الشارع المصري، ونتخيل أن مجلس الشعب المزور قد تم حله واستبداله بمجلس نظيف وشريف من خلال انتخابات نزيهة (بحق وحقيق)، وأن الدستور الذي عبثت به أيادي ترزية القوانين من العهد البائد (كي يناسب شخصا أو شخصين بعينهما دون سواهما للترشح لمنصب الرئيس) قد تغير واستبدل بدستور محترم وضعه مجموعة من أساتذة القانون المحترمين الوطنيين (بحق وحقيق)، ونتخيل ونحلم أننا ذاهبون لصناديق الإنتخابات لنختار لأول مرة رئيسا لمصر من بين عدد لا باس به من المرشحين الذين استعرضوا برامجهم بالعدل والتساوي على شاشات التليفزيون المصري، وجرت بينهم مناظرات راقية للتحدث حول برامج ترشيحهم، وبعد كل هذا وقبل أن نذهب للإدلاء بأصواتنا في لجان محترمة خالية من بلطجية الحزب البائد نسأل أنفسنا السؤال التالي :
هل توجد مواصفات قياسية لشخصية الرئيس بحيث نقيّم الشخص ونحدد مدى صلاحيته على أساسها، وحين نذهب إلى صناديق الإنتخابات نختار على ضوئها ؟
الحقيقة أنه لا يوجد شخص يمكن أن تجتمع فيه كل الصفات القياسية اللازمة لمنصب الرئيس ولذلك ذهب العقلاء من البشر ( ومن قبلهم الأديان ) إلى فكرة الشورى والديموقراطية وهى آليات تحد من انفراد أى شخص بالسلطة المطلقة وذهبواإلى أفضلية حكم المؤسسات التى تستفيد من أكثر من عقل وأكثر من رأى وتحمى الشعوب من النزوات والتشوهات الشخصية لحكامه وتحمى الرعية من احتمالات التهميش والقهر والإستذلال، لذلك أصبح حكم الفرد جريمة إنسانية وجريمة سياسية لأنها تعرض شعبا كاملا لأن يكون تحت رحمة نقائص شخصية ومشكلات نفسية لفرد ينفرد بكل شئ دونما رادع حقيقى وموضوعى . وفى النظم الديموقراطية تكون للرئيس صلاحيات محددة تتكامل وتتناغم مع مؤسسات قوية أخرى تمنع الإنفراد بالقرار وتسمح بتصحيح الأخطاء وتعطى آليات مناسبة للوصول إلى أفضل القرارات بطريقة جماعية موضوعية ومنهجية، ومع هذا تبقى لشخصية الرئيس آثار مهمة على توجيه الرأى العام وعلى الوسائط الإعلامية، ولهذا يجدر بنا أن نذكر السمات القياسية العامة للرئيس :
1 – هو شخص ينتمى لبيئته ولناسه عقيدة وثقافة وحبا وإخلاصا ولديه مشاعر إيجابية نحو ذاته ونحو شعبه ونحو ثقافته، ولديه شعور بالكرامة الوطنية النابعة من احترام الذات والثقة فى قدرة الشعب على النمو والنجاح والإنتصار .
2 – مهيب الطلعة حسن السمت ممتلئا صحة وحيوية ورجولة، حسن الصوت، حى المشاعر
3 – لديه منظومة أخلاقية تتسم بالصدق والأمانة والشجاعة والعدل ونظافة اليد وطهارة الضمير وتقبل الآخر والمرونة والقدرة على الصمود .
1 - تدرج فى ميادين العمل السياسى واكتسب خبرة ميدانية فى التعامل مع البشر على مختلف توجهاتهم ومستوياتهم، وعاش الحياة اليومية بكل صعوباتها وتفاصيلها، ولديه خبرة كافية بمشكلات الناس ومعاناتهم
2 – لديه القدرة على سياسة البشر وشحذ هممهم وإطلاق الطاقات الكامنة لديهم بدافع من حبه وتقديره واحترامه لهم مع القدرة على تحمل أخطائهم والتسامح معهم كلما أمكن ذلك، ولديه الكفاءة لانتشالهم من مشاعر الهزيمة إلى آفاق النصر ومن هوة اليأس إلى ذروة الأمل، ومن حالة البلادة والسلبية واللامبالاة إلى حالة الدافعية العالية والفاعلية والحماس والإنجاز
3- لديه رؤية استراتيجية وآفاق واسعة للتفكير والتخطيط والعمل على المدى الطويل مع معرفة عميقة بالأولويات والمسارات الرئيسية للعمل
4 – يملك القدرة على التفكير الإبتكارى ويسعى نحو التغيير الإيجابى دون خوف وينتقل من مرحلة لأخرى بسلاسة ولا يتثبت أو يتشبث عند مرحلة خوفا أو ترددا أو طلبا للراحة والسلامة .
5 – يملك شخصية مستقلة قادرة على التفكير النقدى ورؤية كافة الإحتمالات المطروحة ولذلك لا يخضع خضوعا أعمى لمن فوقه ولا يطلب الطاعة العمياء من التابعين له
6 – لديه الشجاعة للإعتراف بأخطائه والتراجع عنها وتصحيحها وتحمل مسئولية نتائجها
7 – لا يستنكف عن التساؤل والإستفسار عما لايعرفه مع الإستعانة الصادقة والحقيقية بكل صاحب خبرة بصرف النظر عن انتماءاته أو توجهاته
8 – صاحب شخصية واسعة الأفق تحتمل الخلاف والإختلاف وتتقبل كافة أطياف المجتمع وتتعامل معهم بمرونة واحترام وتعتبر أن الجميع مواطنون شرفاء يشاركون فى المنظومة السياسية والإجتماعية بصرف النظر عن الإختلافات الشخصية بينه وبينهم .
9 – يستوعب كافة الأبعاد والمستويات الحضارية والثقافية لشعبه ويدرك قيمة التاريخ والعلم والثقافة وقيمة العلماء والمفكرين وأثرهم فى رقى الأمم .
10 – لديه القدرة على المخاطرة المحسوبة من أجل النمو فالتغيير والنمو دائما يحتاجان المخاطرة المبنية على معطيات موضوعية .
11 – لديه ذكاءا وجدانيا يجعله قادرا على الوعى بمشاعره دون إنكار ودون ادعاء ثبات كاذب، ويجعله قادرا على الإحساس بمشاعر الآخرين والإستجابة المناسبة لها، ويجعله قادرا على أن يحب ويحب، فالتابعين لا يتحركون بالبلادة الإنفعالية للقائد وإنما يتحركون ويحفزون بالمشاعر الإيجابية الحية، فكلما كان مزاج القائد حيا ونشطا وإيجابيا كلما قلت الصراعات وارتفع مستوى الإنجاز .
12 – صاحب خبرة روحية تمنحه صفاءا نفسيا وسلاما داخليا وحدسا صادقا وتطلعا نحو الخلود
13 – يختار مرؤسيه على أساس صفاتهم الشخصية وقدراتهم ورؤاهم المستقبلية وميزانهم الأخلاقى وإمكاناتهم وقدراتهم، ويتعامل معهم على أنهم بشر، ولذلك يهتم بهم على المستوى الإنسانى ويسعى إلى تطويرهم والتغير معهم وبهم للأفضل، فهم بالنسبة له موارد بشرية تصنع الأفكار والرؤى وبالتالى تصنع المستقبل
13 – يؤمن بأن التغيير هو أحد أهم القوانين فى الحياة، ولذلك يصبح من مهامه الأساسية ويوجهه دائما فى الإتجاه الإيجابى، فهو لا يتشبث بالسلطة لنفسه ولا يمكن أحدا من التشبث بها دون مبرر ويسمح للأجيال الجديدة أن تأخذ فرصتها بناءا على كفاءتها، ويساعد على النمو المرن والمتطور لمنظومات العمل بعيدا عن الجمود، وهو يشعر بالملل فى حالة رتابة الأحوال وسكونها ويسعى نحو التغيير المبدع الخلاق
14 – لديه قدرة هائلة على الإنصات النشط لكل من حوله والتواصل المرن معهم دون تحيز أو استقطاب أو أفكار مسبقة .
15 – نظرته للتابعين ملؤها الإحترام والتقدير فهم ليسوا أطفالا قاصرين أو رعايا يستحقون الحجر والوصاية، وإنما كبارا ناضجين وجديرين بالثقة والإحترام وتبادل الأفكار
16 – لديه حساسية دقيقة لقبول التابعين له فإذا وجد أنه أصبح ثقيلا عليهم أو أن وجوده أصبح غير مرغوب أو فى غير صالحهم كانت لديه الشجاعة والقدرة على أن ينسحب بشرف من ساحة القيادة وأن يعود مواطنا عاديا يستمتع بحياته الشخصية والعائلية تاركا المسئولية لآخر يضطلع بها
17 – يتميز بأعلى درجات الصدق والأمانة والشفافية فى تعاملاته، وسلوكه الشخصى والعائلى والعام وجدير بالإحترام والتقدير من تابعيه .
18 – لا يمكث فى السلطة العليا سنوات طويلة ( تقدر فى الديموقراطيات الحديثة بست سنوات ) لأن ذلك يجعله بعيدا عن الحياة الطبيعية للناس نظرا لإحاطة تحركاته بقيود أمنية ونظامية صارمة، إضافة إلى ما تحدثه السلطة من تضخم فى ذاته يجعله غير قادر على تحمل النقد أو المشاركة أو التفاعل، والذات المتضخمة تحمل الكثير من المخاطر لصاحبها ولتابعيه على السواء فه
ساحة النقاش