بينما اعتبر الرئيس الأمريكي باراك أوباما الجمعَ بين علمانية الدولة في تركيا والجذور الإسلامية لحزب العدالة والتنمية نموذجا للبلدان الإسلامية الأخرى، وأعلن الاتحاد الأوروبي تنفيذ تهديده تجاه موريتانيا بقطع المساعدات؛ بسبب الانقلاب العسكري الأخير فيها، وحدثت سلسلة من التعيينات الجديدة في البنية الهيكلية للدولة السعودية اعتبرتها بعض الجهات مرحلة أخرى على طريق الإصلاح.. ويمكن تعداد المزيد.
اعتقال دعوات الإصلاح
نعود قليلا إلى الفترة التي كانت كلمة الإصلاح فيها تتردد على ألسنة المسئولين، بل توضع عنوانا لبعض إجراءاتهم الداخلية، فنجد أن ذلك لم ينتشر إلا لفترة قصيرة، وتحت ضغوط خارجية، كان أقصاها (وآخرها) وضع كلمة الإصلاح على جدول أعمال إحدى قمم مجموعة الثمانية الدولية، والتي (استضافت) عددا من الرؤساء العرب في حينه تحت عنوان "مشروع الشرق الأوسط الكبير".
ومن التعليلات للحيلولة دون الإصلاح، التي يوردها المسئولون مباشرة أحيانا وعبر أجهزة الإعلام أحيانا أخرى، حديث بعضهم عن خصوصية حضارية، وبعضهم الآخر عن إعطاء الأولوية للتنمية، ومنهم من يرفض مطالب الإصلاح الشعبية ويطلق عليها وصف "صوت الشارع"، بل بلغ الأمر ببعض الأنظمة العربية أنها حذرت الدول الغربية ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية من المطالبة بإصلاح سياسي ينطوي على انتخابات حرة، "فمن شأن ذلك أن يوصل الإسلاميين إلى السلطة"، وأشد من ذلك أن بلغ الأمر ببعض من يزعمون لأنفسهم عنوان "الليبرالية" القول إن استمرار الاستبداد أَوْلى من إصلاح يوصل الإسلاميين إلى السلطة.
وسرعان ما غابت كلمة الإصلاح بالفعل عن مسلسل المطالب الغربية، وتباطأت وتيرة الإجراءات الشكلية التي اتخذها القليل من الأنظمة العربية وأعطاها عنوان الإصلاح، وبالمقابل لم تغب المطالب الشعبية به داخل الأقطار العربية والإسلامية، وهي تعبر عن نفسها بصور متعددة وبدرجات متفاوتة وسط ظروف قمعية خانقة، بينما لم تعد تفيد الأساليب الإعلامية العتيقة في التمويه والتضليل حول حقيقة فساد السياسات ومخاطر نتائجها وانحرافات المسئولين عنها.
هل سُدّت السبل في وجه الإصلاح إذن؟
يجب التأكيد أن القمع لا يسد الأبواب، بل يراكم الاحتقان، ويجعل من عملية التغيير الحتمي منعطفا خطيرا، بدلا من أن يتحقق التحوّل المنشود نحو الأفضل بالوسائل الأكثر أمانا والأقل خطورة، أما هدف الإصلاح والتغيير فغير قابل للسقوط أصلا، وهو في البلدان العربية والإسلامية فريضة وضرورة، انطلاقا من مبادئ العدالة والكرامة الإنسانية والشورى وتحريم الظلم والاستغلال والاستبداد، وجميعها مما يوجبه الإسلام، وانطلاقا من الواقع الذي أثبت عبر تجارب عشرات السنين الماضية أن الأوضاع الراهنة غير قابلة للبقاء والاستمرار، وتأخير تغييرها لا يوصل إلى أي هدف من أهداف التحرر والتقدم والقوة والاستقلال والحياة الكريمة.
تهافت ذرائع تأخير الإصلاح
من وجوه التعامل مع قضية الإصلاح أنه أصبح كسواه ضحية لفوضى المصطلحات، وإساءة استخدامها بغير مفاهيمها الأصلية وفي غير موضعها، ومن ذلك على سبيل المثال:
1- تتحدث السلطات غالبا عن الاستقرار، وتعني به عدم إفلات زمام السلطة، بينما تعني الكلمة بمفهومها السياسي والاجتماعي والاقتصادي وجود أوضاع قويمة قائمة على أسس عادلة متوازنة، وتوصل إلى نتائج إيجابية متواصلة؛ فتكتسب صفة الثبات والاستمرارية، وهذا ما يمثل الاستقرار الحقيقي، ومادام ذلك مفقودا يبقى الإصلاح والتغيير هدفا ملحا من أجل استقرار حقيقي.
2- وتتحدث السلطات غالبا عن مخاطر دعوات التغيير من جانب قوى المعارضة، وتعتبرها مصدر تهديد للوحدة الوطنية، إنما تضع عنوان الوحدة الوطنية هذا على شكل من أشكال التكتل الذي يفرضه نظام الحكم لاحتكار السلطة، ولتخوين ما يخرج عن إطاره، وليس عن إطار الوحدة الوطنية الفعلية، وهذا ما يتناقض جملة وتفصيلا مع مفهومها القويم حاضنة جامعة لكل فرد وفئة من الشعب الواحد على أرض الوطن المشتركة، بغض النظر عن الانتماء والتوجه السياسي والوجود الآني في نطاق السلطة أو خارجها؛ ولهذا أصبح نصب العراقيل في وجه الإصلاح مصدر الخطر الأكبر على الوحدة الوطنية الحقيقية.
3- وتقحم السلطات تعبير الخصوصية الحضارية في تعليل رفض مطالب من يطالب بمثل ما انتشر في الغرب (بغض النظر عن تقويمه في هذا الموضع) من أشكال تطبيقية للديمقراطية وما جرى تثبيته من آليات لاحترام حقوق الإنسان وحرياته، وصحيح أن لدائرتنا الحضارية الإسلامية خصوصيتها الحضارية، ولكن التلويح بها من أجل "حرمان" الإنسان في هذه الدائرة من حقوقه المشروعة وحرياته الأساسية، يمثل طعنة في مغزاها الحقيقي وليس دفاعا حقيقيا عنها ولا تشبثا صادقا بها.
فكلمة الخصوصية الحضارية تعني وجود منظومة قيم معرفية وسلوكية ذاتية، وهذه مغيّبة عن التطبيق في الميادين السياسية وغيرها، والمفروض عند التنويه بها الانطلاق من أن تطبيقها كفيل بإيجاد أشكال أفضل -وليس أسوأ من الديمقراطية الغربية- لنظام الحكم، وكفيل بإيجاد آليات أضمن لاحترام حقوق الإنسان وحرياته، وليس كما هو قائم الآن من انتهاك صارخ لها على كل صعيد، ولهذا لابد من الإصلاح والتغيير مع تحقيق الخصوصية الحضارية فلا تناقض بينهما، ولا يلغي أحدهما الآخر، إلا بمنظور من يرفضهما معا من الأصل.
4- ولا يوجد من يدعو -دون أن يفقد جوهر انتمائه الوطني- إلى تدخل أجنبي، ولكن الخلط في استخدام هذه الكلمة كذريعة ضد دعاة الإصلاح والتغيير خلط كبير ومقصود، فالمشكلة الحقيقية ليست هنا، بل هي في واقع تدخل الأجنبي من منطلق مطامعه، كما يحدث منذ زمن طويل لصالح قوى محلية في السلطة أو خارجها، بما يدعم انتهاكها لحقوق الإنسان وحرياته بمختلف المعايير وانتهاكها للمصالح العليا الذاتية للشعوب، وتقابل ذلك مَزاعم واتهامات تُوظّف ذريعة لرفض الإصلاح والتغيير، وتصدر عمن هم في موقع السلطة وموقع الحصول على الدعم الأجنبي.
ولهذا وجب (أولا) أن تقترن الدعوة إلى الإصلاح والتغيير برفض التدخل الأجنبي تحت عنوان هذه الدعوة، سيان ما مدى مصداقيته في ذلك، ووجب (ثانيا) رفض التدخل الأجنبي بصورة مباشرة، والذي يدعم بقاء السلطات والأوضاع الشاذة المانعة من تحقيق هدف الإصلاح والتغيير.
5- ويتصل بما سبق أن السلطات تكيل اتهاماتها لبعض الجهات المعارضة إذا نشأ تواصل ما بينها وبين قوى أجنبية، فتتحدث هنا عن "الاستقواء بالأجنبي"، وينبغي التمييز من حيث المبدأ بين تواصل مشروع مدروس، ومن منطلق السيادة الذاتية، ومع أي جهة، وبين تواصل يقصد الاستقواء الأجنبي، وهو مرفوض بجميع مستوياته وأشكاله، ولكن مع هذا التمييز لا يخفى ما انكشف من عواقب "الاستقواء بالأجنبي" في بلدان عديدة كالعراق مثلا، وهذا مما يجعل القبول به رغم ظهور عواقبه ضربا من ضروب الخيانة الوطنية، ولكن يبقى السؤال الأهم: هل هذه هي المشكلة الحقيقية الماثلة للعيان الآن في البلدان العربية والإسلامية على صعيد الإصلاح والتغيير، أم أنها مشكلة ممارسات لا تنقطع منذ عقود للاستقواء من جانب بعض الأنظمة القائمة أو غالبها بالأجنبي، إلى درجة الاستعانة بمنظماته الأمنية الخاصة (المرتزقة) وباستخباراته وبخبرائه وبقواعده العسكرية، لمجرد أن تضمن بقاءها هي في السلطة رغم الإرادة الشعبية، ويكفي هذا للتأكيد أن الإصلاح والتغيير شرط أساسي لمنع الاستقواء بالأجنبي، الذي يستحيل في الوقت نفسه أن يكون مدخلا سليما إلى أي إصلاح حقيقي أو تغيير قويم.
6- ويرفع بعض المسئولين في الأنظمة القائمة شعار "أولوية التنمية" في البلدان العربية والإسلامية، أو النامية عموما، لاسيما الاقتصادية، بل يدور الحديث أحيانا عن أولوية مكافحة الفساد، أو الإصلاح الإداري، أو ما شابه ذلك، أما ميادين الإصلاح الأخرى، وعلى وجه التخصيص في الميدان السياسي، فلا يمكن وفق أطروحاتهم تلك أن تُعطى الأولوية، وهذه مقولة حافلة بالمغالطات المتراكمة فوق بعضها البعض، فالفساد السياسي، والاستبداد السياسي، والمراهقة السياسية، وكذلك العجز السياسي، وادّعاء الممارسة، وحتى الحنكة السياسية، جميع ذلك وبمختلف درجاته، هو -منفردا ومجتمعا- الأرضية التي تنبت فيها أوبئة الفساد الاقتصادي والمالي والاجتماعي والإداري، وحتى الفكري والثقافي والإعلامي.
ولهذا يجب التأكيد بصورة دائمة أن تحقيق إصلاح في ميدان من هذه الميادين البالغة الأهمية مستحيل دون أن يقوم على أرضية الإصلاح السياسي تحديدا.
ويمكن الاستفاضة في الحديث عن فوضى المصطلحات ذات العلاقة بقضية الإصلاح والتغيير، وسينكشف باطراد أن المسألة ليست مسألة "تأخير" الإصلاح والتغيير أو تسويغ الأساليب المتبعة في منعهما، بل هي الإصرار على استمرار الفساد والانحراف والاستبداد والاستغلال، ولذلك علاقته بمنافع ذاتية محرمة، وليس له علاقة بمصلحة الشعوب والدول، ولا باستقرار أو وحدة وطنية أو خصوصية حضارية أو سيادة ذاتية واستقلال فعلي.
معالم جولة قادمة
لابد من تأكيد أمرين اثنين متلازمين:
أولهما: يجب أن ينطوي الإصلاح المطلوب على التغيير الجذري الشامل في مختلف الميادين، مع أولوية الجوانب السياسية تخصيصا، وما يرتبط منها بالعدالة وحقوق الإنسان وكرامته وحرياته، وفصل السلطات، وتحكيم إرادة الشعب، وسيادة القانون، واستقلال القضاء، وجميع ذلك على أساس دستور سليم قويم (يضع حدا نهائيا لمهازل حالات الطوارئ المزمنة وما يشابهها، وإن لم يحمل عنوانها، ولجميع إفرازاتها).
ثانيهما: لا يوجد أي عذر مشروع بمختلف المعايير أو مقبول بالمنطق السياسي وبمنطق الواقع والمصلحة والمصير، لمنع الإصلاح وتجريمه أو تأخيره والمماطلة فيه، ناهيك عن البطش القمعي الاستبدادي بمن يدعو إليه ويسعى من أجله.
ومن العقبات الكبرى في وجه الإصلاح والتغيير في البلدان العربية والإسلامية أن من يمارس السياسات الداخلية وليس الخارجية فقط أصبح يربطها منذ عقود بالمتغيرات في الساحة الأمريكية في الدرجة الأولى، أو يربطها في الدرجة الثانية بالمتغيرات في ساحة العلاقات المتطورة فيما يسميه "الأسرة الدولية"، ويعني به مجموعة القوى الدولية المهيمنة عالميا.
والجدير بالتنويه هنا أن الحديث الرسمي (والنخبوي أحيانا) حول رفض دعوات الإصلاح من الخارج يفقد مصداقيته منطقيا وتلقائيا أمام حقيقة ربط مَن يتحدث لكثير من المواقف والممارسات السياسية وغير السياسية الصادرة عنه بما يقع من "تطورات" خارج الحدود، وعلى وجه التخصيص في الولايات المتحدة الأمريكية، وإن أعطى ذلك عنوان السياسة الواقعية.
إن هذا الربط "السببي" الفكري والإعلامي والسياسي للنهج الذاتي في مختلف الميادين بما يطرأ من تغيير خارج الحدود هو جزء من واقع مرفوض يجب تغييره، إنما يستدعي وجودُه -وإن كان مرفوضا ومنكرا- استقراءَ أبعاده لاستشراف ما يُنتظر من تحرك داخلي رسمي وغير رسمي في البلدان العربية والإسلامية، بصيغة ما يسمى "التموضع" الجديد على ضوء ما يقدّره المسئولون وسواهم، ممن تشخص أبصارهم تجاه سياسات أمريكية جديدة محتملة في عهد رئيس أمريكي جديد.
وكان مما يلفت النظر خلال الجولة الأوروبية لأوباما وما شارك فيه من مؤتمرات، آخرها القمة الأمريكية الأوروبية في براغ، أن دعوته إلى الإسراع في ضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي وجدت احتجاجا واضحا وعلنيا من جانب المعارضين لهذا الانضمام، لاسيما في فرنسا وألمانيا، باعتبار ذلك "تدخلا أمريكيا مرفوضا في شئون الاتحاد الأوروبي".
وآن الأوان أن يعتبر العالم الإسلامي كثيرا من مواقف واشنطن تدخلا في شئون المسلمين وبلدانهم، ومن ذلك موقف أوباما مثلا الذي يعتبر الوضع القائم في تركيا على أساس "الجمع بين العلمانية الأتاتوركية والإسلام كما يمثله حزب العدالة والتنمية" هو النموذج المرجو انتشاره في أنحاء العالم الإسلامي (بغض النظر عن تقويم هذا النموذج في هذا الموضع).
ولا يغيب هنا التأكيد أن الفارق كبير بين "إعراب عن وجهة نظر" -ومثاله أسلوب أوباما في الحديث عن علاقة تركيا مع الاتحاد الأوروبي الذي عارضها رغم ذلك- وبين "تدخل فعلي" وليس مجرد رأي كلامي، ومثاله السعي لوضع "صيغة عمل" يريد أوباما أن ينطلق التعاون الأمريكي-التركي منها للتحرك في الساحة الإسلامية، تحت عنوان تركيا جسر بين العالم الإسلامي والغرب.
إن هذا التدخل الأمريكي كسواه مرفوض حتى مع افتراض سلامة النوايا الأمريكية.
الإصلاح والتدخل الخارجي
إن اختيار نظام الحكم في أي بلد إسلامي هو حق أساسي للشعب فيه، ثم يمكن لدولة أجنبية كالولايات المتحدة الأمريكية أن تقيم علاقاتها مع هذا البلد أو ذاك وفق ما تراه، وهذا هو أساس المنظور المطلوب إلى أي علاقة أمريكية بقضايا "الإصلاح" في الدول العربية والإسلامية، ولا يخفى ما يوجد من خلل كبير وقديم في السياسات الأمريكية على هذا الصعيد، ولم يظهر في "سياسات" أوباما ما يستهدف تصحيحه، وإن ظهر في "مقولاته" شيء ما في هذا الاتجاه مثل الحديث عن احترام متبادل، فهذا ما لا يعدو حتى الآن كونه شعارا يفتقر إلى تجسيده في آليات التحرك العملي، السياسي والعسكري والاقتصادي وغيره.
لقد نشأ الخلل أو الانحراف نتيجة الطرح الأمريكي لمطامع غير مشروعة للاستغلال والهيمنة وتسميتها "مصالح قومية"، ثم عبر إعطائها الأولوية على ما يتردد أمريكيا بشأن مراعاة القيم الإنسانية، من حريات وحقوق وعدالة، أو بشأن ممارسة الديمقراطية في الحكم.
وينبني على ذلك ما سبق التنويه إليه من أن ما وضع واشنطن كعواصم غربية أخرى في خندق معاداة الشعوب الإسلامية لم ينشأ بسبب "عدم تدخلها" لصالح الإصلاح السياسي -والمفروض ألا تتدخل- بل نشأ عن "تدخلها الدائم" لدعم أوضاع فاسدة تخدم مطامع أمريكية غير مشروعة.
وعلاوة على ذلك، وفي ميدان الإصلاح والتغيير على وجه التخصيص، لم تكن إشكالية "العداء" بين الشعوب العربية والإسلامية من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية من جهة "وليدة" ما صنعت السنوات الثماني من عهد بوش الابن، فقد كانت هذه الفترة محطة دموية أوصلت إليها محطات سابقة عبر أكثر من ثمانية عقود مضت على سياسات أمريكية قائمة على المطامع والهيمنة والتدخل من منطلق استبدادي دولي يدعم أشكالا متعددة للاستبداد المحلي.
وما دام "التغيير" بمفهوم أوباما تجاه المنطقة الإسلامية تخصيصا يدور في فلك "تعديل ما صنعته عنجهية العجرفة في عهد سلفه"، ثم لا يصل إلى مستوى إزالة هذا الخلل الكبير القائم من حيث الأساس، ومن قبل عهد سلفه، فلا يبدو تحركه عبر تركيا باتجاه العالم الإسلامي سوى حقبة جديدة من حقب التدخل الأجنبي في شئون المسلمين وبلدانهم، ثم لا فرق بعد ذلك من حيث الحصيلة بين ممارسته مع ابتسامات ودية، أو ممارساته بأسلوب عجرفة الهيمنة.
لهذا ينبغي أن يتلاقى المتطلعون إلى الإصلاح والتغيير في البلدان العربية والإسلامية على منطلقات أساسية مشتركة في التعامل مع المرحلة "الأمريكية" المقبلة للعلاقات مع المنطقة الإسلامية، ومنها ما يتعلق بموضوع الإصلاح والتغيير.
المطلوب من واشنطن
ليس المطلوب من واشنطن وليس من حقها أن تحدد للبلدان العربية والإسلامية شكل الحكم الذي يجب أن يقوم فيها، وهل يكون على أساس علمانية غربية الميلاد والنشأة والتطبيق أم لا يكون، أو يكون بمشاركة هذا الفريق أو ذاك كالإسلاميين أو لا يكون، إنما المطلوب بإلحاح أن تكفّ بصورة مطلقة عن دعم أي نظام حكم قائم، وأي تيار يريد الوصول إلى السلطة، لاسيما وأنها لم تصنع ذلك إلا لصالح أنظمة وتيارات لا تمثل إرادة الشعوب عبر آليات التعبير عنها بصورة مضمونة، فضلا عن الممارسات الأمريكية التي تنتهك مباشرة إرادة الشعوب العربية والإسلامية، كلما ظهر أنها تختار -عبر صناديق الاقتراع عندما يتوافر حدٌّ ما من شروط النزاهة والحرية والشفافية- طريق الإسلام الوسطي الذي يستوعب الآخر، وليس طريق العلمانية التي لم تستوعب الآخر حتى في بلدان نشأتها الأولى.
ولا ينبغي أن يتبادر إلى الأذهان إطلاقا أن بيان فساد ربط هدف الإصلاح والتغيير بالمدخل الأمريكي وبطلانه منطلقا ووسيلة وحصيلة يعني بأي صورة من الصور الامتناعَ عن بذل أقصى الجهود الذاتية الممكنة من أجل الإصلاح والتغيير، فمواصلتها واجب مفروض وليس مجرد حق مطلوب.
إنما يعني ما سبق تحريرَ هذه الجهود من دوامة ربطها أو عدم ربطها وتعليلها أو عدم تعليلها بالسياسات الأمريكية، حقبة بعد حقبة، وانتخابات رئاسية بعد أخرى، فحتى لو لم يكن للولايات المتحدة الأمريكية ولم يكن للعالم الغربي والقوى الدولية وجود على وجه البسيطة، يبقى هدف الإصلاح عبر التغيير الجذري الشامل موجودا بإلحاح، ويبقى هو الهدف المشروع الثابت، والمدخل الرئيسي لأهداف التحرر والنهوض والتقدم، ولإقرار ما هو جدير بالإنسان وإنسانية الإنسان في البلدان العربية والإسلامية، من مبادئ العدالة والشورى والكرامة والحرية والسيادة الذاتية على صنع القرار، في جميع الميادين وعلى مختلف المستويات.
ساحة النقاش