عملية نقل الأعضاء من الميت ينبغي ألا تتم إلا بعد تيقن موته دماغيا وتوقف الجهاز العصبي والتنفسي عن العمل، فضلا عن باقي الأمارات المشخصة للموت مثل شخوص البصر وارتخاء القدمين وانحناء الأنف".

أجاز فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عمليات زراعة بعض الأعضاء حال حوادث الوفاة والتوصية بذلك، مستثنيا بعض الأعضاء مثل المخ أو الأعضاء ذات العلاقة بالمورثات والأنساب (الخصية والمبيض).

وأوصى الشيخ القرضاوي - في بحث علمي قدمه إلى مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية بمصر خلال مارس الماضي - بالتبرع بالأعضاء حال حدوث الوفاة (في الحوادث) والتوصية بذلك في حياتهم لينتفع بها الناس وفق شروط شرعية وطبية يحددها المختصون من علماء الشريعة ولجنة طبية مختصة مأمونة.

الصدقة بالبدن أعظم 

وبعد عملية استقراء دقيق لقرارات مجامع فقهية وفتاوى علماء من السلف والخلف التي تدارست موضوع "زراعة الأعضاء"، قال الشيخ القرضاوي: إن "الصدقة ببعض البدن أعظم أجرا من الصدقة بالمال وفق الشروط التي وضعها الأطباء، فقد اشترطوا لقبول الكُلية من المتبرع ألا يزيد عمره عن (55-60) سنة، ولقبول القلب للزرع ألا يتجاوز الخمسين عاما، وهذه صدقة عظيمة للمتبرع أجرها وثوابها، وهي صدقة موقوتة بحياة الشخص المتبرع له، ولكنها صدقة لها قدرها عند الله".

وأضاف موضحا: "كما يجوز للإنسان التبرع بجزء من ماله لمصلحة غيره ممن يحتاج إليه، بل يستحب له ذلك ويثاب عليه، فكذلك يجوز له التبرع بجزء من بدنه لمن يحتاج إليه، بل يستحب له ذلك ويثاب عليه".

وأوضح الفرق بين الصدقتين (بالمال وببعض البدن): "أن الإنسان قد يجوز له التبرع أو التصدق بماله كله، ولكن في البدن لا يجوز التبرع ببدنه كله، بل لا يجوز أن يتبرع المسلم بعضو وحيد من بدنه كالقلب والكبد، أو بعضو يضره التبرع به، لأنه لا يجوز له أن يزيل ضرر غيره بضرر نفسه؛ لأن القاعدة المتفق عليها: أن الضرر لا يزال بضرر مثله، أو أكبر منه".

واعتبر الشيخ القرضاوي نقل بعض الأعضاء(الكلية، القرنية، القلب..)، لونا من "الإيثار" المحمود، الذي يؤجر عليه من فعله، لأنه رحم من في الأرض، فاستحق رحمة من في السماء، ولذلك فإزالة ضرر يعانيه مسلم مثل الفشل الكلوي، بأن يتبرع له متبرع بإحدى كليتيه السليمتين، عمل مشروع ومحمود.

واستبعد الشيخ القرضاوي أن يكون نقل الأعضاء من جسم الميت نوعا من"التمثيل به"، لأن العملية لا تتنافى مع ما هو مقرر من حرمته شرعا، لأن حرمة الجسم مصونة غير منتهكة، والعملية، التي تجرى له كما تجرى للحي بكل عناية واحترام دون مساس بحرمة جسده.

واستدل بإجازة العلماء كافة لتشريح جثة الميت في حالة القتل أو الاشتباه في ذلك، ليعرف الطب الشرعي أسباب الوفاة، ويترتب على ذلك آثار مهمة في معرفة الجاني، والحكم عليه بما يستحق، وأيضا إجازة التبرع بالدم.

شروط التصدق بالأعضاء وبعد أن عرض لحيثيات إصدار رأيه الشرعي في المسألة المتجددة والاستدلال بآراء علماء متقدمين ومعاصرين وقرارات المجامع الفقهية المشهود بعلميتها، أكد القرضاوي أنه يجوز أن يتبرع المسلم لشخص معين لإنقاذ حياته بقيود، كما يجوز له أن يتبرع لمؤسسة مثل بنك خاص بذلك، يحفظ الأعضاء بوسائله الخاصة لاستخدامها عند الحاجة.

واشترط رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عشرة شروط يجب مراعاتها، بعد إصدار تقرير طبي يثبت الموت الدماغي للمتوفى (موت جذع المخ)، وهي:

1 – أن يكون المأخوذ منه مكلفا (أي بالغا عاقلا) مختارا غير مكره إكراها ماديا أو أدبيا. 2- ألا يكون من الأعضاء الوحيدة في الجسم مثل القلب والكبد، لأنه لا يستطيع أن يعيش إلا بها.

3- ألا يكون عضوا يضر بالإنسان أخذه من جسمه ضررا بليغا، كالأعضاء الظاهرة من الإنسان، وإن كانت مزدوجة كالعين واليد والرجل ونحوها، لما فيه من تعطيل المنفعة وتشويه الصورة.

4– ألا يكون من الأعضاء الناقلة للمورثات مثل الخصية للرجل، والمبيض للمرأة.

5– ألا يكون العضو من العورات المغلظة (القبل والدبر) التي يحرم النظر إليها ولمسها حية أو ميتة.

6– ألا يكون النقل عن طريق البيع والمعاوضة، بل عن طريق التبرع الخالص من الحي، ولا مانع من المكافأة أو الهدية بدون شرط.

7– أن يكون هناك وصية من الميت أو إذن من أهله أو قانون من ولي الأمر بالتبرع بما يصلح أخذه من جسده بعد إصابته في حادث وموت دماغه، وإن بقي قلبه ينبض، وهذا ما لم يكن هناك منع من صاحب العضو.

8– ألا يترتب عليه ضرر للمتبرع ولا لأحد له عليه حق.

9– أن تتعين هذه الوسيلة لإنقاذ المريض، ولا توجد وسائل أخرى تغني عنها.

10– أن يغلب على الظن أنه ينفع المتبرع له ويسهم في علاجه وفق سنن الله في الكون والحياة.

البيع والميراث في الأعضاء 

 طالع النص الكامل للبحث

وأشار الشيخ القرضاوي إلى أن القول بجواز التبرع بالأعضاء لا يقتضي القول بجواز بيعها، لأن البيع كما عرفه الفقهاء: مبادلة مال بمال بالتراضي، وبدن الإنسان ليس بمال، حتى يدخل دائرة المعاوضة والمساومة، وتصبح أعضاء الجسد الإنساني محلا للتجارة أو البيع والشراء، كأنها (قطع غيار) للسيارات والأجهزة المختلفة. 

وعبر القرضاوي عن أسفه لما يحدث في بعض الأقطار الفقيرة، حيث قامت سوق أشبه بـ"سوق النخاسين"، لشراء أعضاء الفقراء والمستضعفين من الناس، لحساب الأغنياء، ودخلتها (مافيا) جديدة تنافس (مافيا) المخدرات، لاسيما في البلاد الشرقية في آسيا وإفريقيا ذات الأكثرية الساحقة من ذوي الدخل المنخفض.

غير أن الشيخ القرضاوي لم يمنع تقديم مكافأة للمتبرع إن كان حيا من مال الدولة ولورثته إن كان ميتا، لأن بدن المتوفى بمثابة "ميراث" لأهله مثل ماله.

وذهب الشيخ القرضاوي إلى أنه "لا مانع من تبرع الورثة ببعض أعضاء الميت، مما يحتاج إليه بعض المرضى لعلاجهم كالكلية والقلب والكبد والقرنية، ونحوها، بنية الصدقة بذلك عن الميت، وهي صدقة يستمر ثوابها ما دام المريض المتبرع له منتفعا بها".

وأوضح أن "الميت بعد موته لم يعد أهلا للملك، فكما أن ماله انتقل ملكه إلى ورثته، كذلك يمكن القول بأن جسمه قد أصبح من حق الأولياء أو الورثة، ولعل منع الشرع من كسر عظم الميت أو انتهاك حرمة جثته، إنما هو رعاية لحق الحي أيضا، كما هو رعاية لحق الميت.

وقد جعل الشارع للأولياء الحق في القصاص أو العفو في حالة القتل العمد، وإنما يمنع الورثة من التبرع إذا أوصى الميت في حياته بمنع ذلك، فهذا من حقه ويجب إنفاذ وصيته فيما لا معصية فيه.

وقياسا على هذا الاجتهاد، أعطى رئيس اتحاد علماء المسلمين الحق للدولة في التصرف ببدن الميت المجهول الأهل واستصدار قانون ينظم هذه الاستفادة، وقال: "أعتقد أنه لا مانع أيضا من جواز ذلك، بناء على قاعدة: أن السلطان ولي من لا ولي له، ولهذا إذا لم يكن للميت عصبة ولا ذوو رحم، فإن تركته تؤول إلى بيت المال، وهذا الجواز في حدود الضرورة، أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، على أن يستوثق من عدم وجود أولياء للميت، فإذا كان له أولياء وجب استئذانهم، وألا يوجد ما يدل على أن الميت قد أوصى بمنع ذلك ورفضه".

وأجاز الشيخ القرضاوي الوصية بجزء من بدن المتبرع، وقال: "إذا جاز للمتبرع التبرع بذلك في حياته، مع احتمال أن يتضرر بذلك –وإن كان احتمالا مرجوحا– فلا مانع أن يوصي بذلك بعد موته، إذا أصابته حادثة قدر فيها انتهاء أجله، فتؤخذ منه الأعضاء الصالحة للنقل، مثل القلب والكبد والكلية والرئتين والقرنية ونحوها، مما قرر الأطباء نفعه للغير".

وأضاف موضحا: "فهذا مشروع ومطلوب؛ لأن في ذلك منفعة خالصة للغير، دون احتمال أي ضرر عليه، فإن سنة الله في هذه الأعضاء أن تتحلل بعد أيام ويأكلها التراب، وإذا أوصى ببذلها للغير قربة إلى الله تعالى، فهو مثاب ومأجور على نيته وعمله، ولا دليل من الشرع على تحريم ذلك، والأصل الإباحة إلا ما منع منه دليل صحيح صريح".

حيثيات واعتراضات 

وبعد تقديم الشيخ القرضاوي للمسوغات الشرعية والواقعية لنقل الأعضاء وتبرع بعض الأحياء أو الاستفادة من أعضاء الموتى وفق الشروط المذكورة، انتقل إلى بحث الإشكالات المتعلقة بعملية زرع الأعضاء، وأشار إلى أن التبرع للغير "جائز بتقييد" على ألا يعود عليه بالضرر أو على أحد له حق عليه لازم.

ومن القيود أيضا "التحقق من الضرورة التي تجيز التبرع بعضوه، بألا توجد وسيلة أخرى تغني عن هذه الوسيلة، فإذا وجدت مثلا وسيلة أخرى استطاع التقدم الطبي أن يوفرها للمريض تغنيه عن كلية غيره، توقفنا عن الإفتاء بجواز التبرع".

كما لا يجوز التصدق بالعضو الوحيد في البدن كالقلب أو الكبد، ولا بالأعضاء الظاهرة في الجسم، التي لا يستغنى عنها وإن كانت مزدوجة مثل العين واليد والرجل، لأنه هنا يزيل ضرر غيره بأضرار مؤكدة لنفسه، لما وراء ذلك من تعطيل للمنفعة وتشويه للصورة، بخلاف التبرع بالكلية، لأن الأطباء المختصين قالوا: إن الإنسان يستطيع أن يعيش بربع كُلية أو بسدس كلية.

ولم يجز الشيخ القرضاوي أيضا تبرع الصغير والمجنون، والتبرع للحربي الذي يقاتل المسلمين بالسلاح أو باللسان أو القلم وللمرتد المارق من الإسلام، المجاهر بردته.

وفي حالة تساوي المستفيدين من عملية التبرع، يفضل المسلم المحتاج عن غير المسلم، والمسلم الصالح المتمسك بدينه عن الفاسق المفرط في جنب الله.

ويقدم المسلم القريب أو الجار عن غيره، لأن للجوار حقا أكيدا، لقوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء:36] وللقرابة حقا آكد، كما قال تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ} [الأنفال:75].

وفي ما يتعلق بالاعتراض بأن السلف لم ينقل ذلك عنهم نقل الأعضاء، أكد الشيخ القرضاوي أن الشريعة الإسلامية ترحب بكل مبتكرات العقل الإنساني في العلوم الطبيعية والرياضية، ومنجزات الطب المعاصر إذا التزمت بالقيم الدينية والأخلاقية وألا يكون التبرع بالجسم كله أو بأكثره، مما يتنافى مع ما هو مقرر للميت من أحكام، من وجوب تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين.. إلخ.

ولم يمنع القرضاوي الاستفادة من عضو كافر أو حيوان نجس إذا كان مستوفيا للشروط، وخاليا من الموانع، مشيرا إلى أن "أعضاء الإنسان لا توصف بإسلام ولا كفر، وإنما هي آلات للإنسان يستخدمها وفقا لعقيدته ومنهاجه في الحياة، فإذا انتقل عضو الكافر إلى مسلم، فقد أصبح جزءًا من كيانه، وأداة له في القيام برسالته، كما أمر الله تعالى، فهذا كما لو أخذ المسلم سلاح الكافر وقاتل به في سبيل الله".

وبخصوص الاستفادة من الحيوان النجس مثل الخنزير، فقد ربط القرضاوي الأمر بقاعدة الضرورة التي تبيح المحظور، وقاعدة ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، وأن يقرر نفع ذلك الثقات من الأطباء المسلمين، مبينا أن الذي يحرم هو أكل لحم الخنزير وليس الاستفادة ببعض أجزائه، قياسا على حديث الاستفادة من "إهاب الشاة الميتة".

زرع المخ والخصية 

وفي ما يتعلق بالمخ والخصية والمبيض، لم يجز الشيخ القرضاوي نقل مخ إنسان إلى آخر لما يترتب عليه من خلط وفساد كبير، لأن مخ الإنسان هو مصدر العمليات العقلية كلها، من التفكير والذاكرة والربط والتخيل وغيرها، وهي أساس التكليف وأساس هوية المرء.

فإذا نقلنا مخ شخص إلى آخر فكأنما نقلنا الشخص المنقول منه إلى المنقول إليه، فكيف يتحمل مسئوليته، وكيف تكون العلاقة بينهما؟ وفي ما يخص زرع خصية شخص لشخص آخر أو مبيض امرأة لامرأة، زكى رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ما أجمع عليه العلماء أو على الأقل جمهورهم بعدم جواز ذلك.

وأشار إلى أن الأطباء والعلماء المختصين يقررون أن الخصية هي مخزن المني الذي ينقل الخصائص الوراثية للرجل ولأسرته وفصيلته إلى ذريته، وأنها تستمر في حمل وإفراز (الشفرة الوراثية) للمنقول منه، حتى بعد زرعها في متلق جديد.

ومن هنا كان زرع الخصية في جسم إنسان ما يعني أن ذريته –حين ينجب– تحمل صفات الإنسان الذي أخذت منه الخصية، من البياض والسواد، والطول أو القصر، والذكاء أو الغباء، وغير ذلك من الأوصاف الجسمية والعقلية والنفسية.

فكل المورثات (أو الشفرة الوراثية)المنقولة من الشخص السابق تظل كما هي، لا تتغير ولا تتبدل بتبدل الشخص المنقول إليه.

واعتبر الشيخ القرضاوي أن نقل هذه الأعضاء يعد لونا من اختلاط الأنساب الذي منعته الشريعة بكل الوسائل، فحرمت الزنا والتبني، وادعاء الإنسان إلى غير أبيه، ونحو ذلك مما يؤدي إلى أن يدخل في الأسرة أو القوم ما ليس منهم.

وأكد أنه ثبت "علميا لدى أهل الذكر أن الخصية حين تنقل، تحمل في داخلها كل المورثات التي لا تتغير ولا يأتيها جديد من الشخص المنقولة إليه، ومثل الخصية في الرجل: المبيض في المرأة، فهو صنوها في الوظيفة في حمل البييضات للمورثات أو الشفرة الوراثية، وخزنها ثم إفرازها، وهو مثلها في الحكم سواء بسواء".

بحث الشيخ العلمي غني بالنظرات الاجتهادية في موضوع نقل وزراعة الأعضاء، ونافذة جديدة تدفع العقل الفقهي لإعادة النظر في القضية بتشعباتها، سواء من لدن العلماء أو الأطباء المتخصصين، بما يحقق المصالح المرجوة ويدرأ المفاسد الطارئة بسبب غشاوة الجهل الطارئة أمام روح الإسلام ومراد رب العالمين.
 
وتبقى الاجتهادات متأرجحة بين الأجر والأجرين، وتزداد قيمة أجرها كلما طبقت وفق ضوابط شرعية مأمونة، وأحيت أنفسا كانت آراء ترى أن التراب والدود أولى بها.

  • Currently 150/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
50 تصويتات / 1646 مشاهدة
نشرت فى 8 مايو 2009 بواسطة om-yazeed

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

27,881