وانطلاقا من خطورة العنف في حد ذاته، ومن كون الممارسات العنيفة باتت تلصق زورا وبهتانا إلى الإسلام، خص مجمع الفقه الإسلامي في دورته التاسعة عشرة محورا بكامله يُعالج فيه قضية العنف الأسري، وموقف الشرع منها، وذلك بإمارة الشارقة في الفترة من (26 – 30 أبريل).
طالع النص الكامل للبحث |
ولكن قبيل أن نعرض له نلفت النظر ابتداء إلى أن البحث لم يقدم تعريفًا لمفهوم العنف الأسري، وهو أمر نظنه من الأهمية بمكان لوجود اختلافات بين الرؤية الإسلامية والرؤية الحقوقية ذات المنزع الغربي في اعتبار بعض الممارسات الإسلامية، وبخاصة المدعومة بالنصوص الشرعية الثابتة (كضرب الزوج لزوجته ضربا خفيفا بغرض علاج نشوزها) عنفًا ضد المرأة يتوجب إدانته وتجريم فاعله. يستهل الدكتور رأفت عثمان بحثه بالحديث التقليدي حول أهمية بناء الأسرة في الإسلام، وذلك عبر استعراض بعض الأحاديث النبوية التي تضع الضوابط التي يجب أن يختار الزوجين على أساسها، وهذه الضوابط واحدة لا تختلف باختلاف الجنسين؛ إذ "الرجل في هذا الجانب نظير للمرأة التي ثبت حديث يأمر بالظفر بها إذا كانت ذات دين، ومعروف أن النظير يتساوى في الأحكام مع نظيره"، ويعد الدكتور عثمان مثل هذه الضوابط إجراء تمهيديا أوليًّا قد يخفف من حدة العنف المتوقع بعد الزواج؛ وذلك لسلامة الأسس التي تم عليها هذا الزواج.
ومن ضوابط الاختيار إلى القواعد التي تحدد طبيعة العلاقات الأسرية يتطرق الدكتور عثمان إلى العلاقة بين الزوجين، والتي تنظمها حقوق مشتركة بينهما، وحقوق أخرى خاصة بكل منهما، مقررًا أن أي حق يثبت لأي من الزوجين هو واجب على الزوج الآخر.
والحقوق داخل الأسرة ليست قاصرة على الزوجين بل مظلة الحقوق الإسلامية تمتد لتشمل الأبناء كذلك؛ إذ من أهم حقوق الأبناء أن يُنسبوا إلى آبائهم ولا ينكر هذا النسب، وأن يُعاملوا بالرفق واللين بعيدًا عن الإيذاء والعنف سواء أكان ماديا أم معنويا نفسيا.
القوامة وحق التأديب
ويفرد الدكتور عثمان مبحثًا كاملاً لمعالجة مسألة التأديب في نطاق الأسرة؛ حيث انطلق من القاعدة المبدئية "أن التأديب لا يكون إلا ممن له الولاية على من يراد تأديبه، وعلى هذا فإن التأديب في نطاق الأسرة سيكون موكولاً إلى الرجل، بوصفه زوجًا وبوصفه والدًا، فكل من صفتيه تعطيه حق الولاية الآذن بالتأديب قبل الزوجة وقبل الأولاد عندما يستدعي الأمر ذلك"، وناقش عثمان دواعي جعل القوامة بيد الرجل، ذاهبا إلى أن وجود الفوارق الخِلْقية بين المرأة والرجل، وعدم التسوية بينهما في المسئوليات المالية والتي تقع على كاهل الرجل، يبرر أن تكون القيادة للرجل في البيت.
ويرى عثمان أن القوامة تتلاءم مع طبيعة تكوين الرجل وسرعة حركته في المجتمع، وعدم احتياجه للحماية في حركاته الكثيرة لكسب المال.. لهذا كان من العدل والحكمة أن تكون له القيادة لكي يستطيع أداء واجباته بشكل يكون مسئولاً عنها.
ووفق هذه الرؤية لا تكون القوامة تحكمًا وتسلطًا واستبدادًا بالرأي، وإنما هي نوع من القيادة وتحمل مسئولية التوجيه والأعباء في الأسرة، ويخلص إلى أن سلطة التأديب في الأسرة يجب أن تكون موكولة إلى من له القوامة أي القيادة وهو الرجل.
ضوابط التأديب
التأديب داخل الأسرة ليس سلطة مطلقة بيد الرجل، وإنما هي ممارسة وضعت لها الشريعة أطرًا وضوابط حاكمة، بحيث يتم تقنينها في أضيق النطاقات الممكنة، والعملية التأديبية ذات خصائص شرعية يجملها الدكتور رأفت عثمان في النقاط التالية:
أولا: الزوج له سلطة التأديب على الأولاد والزوجة، لما له من القوامة التي أسندها الله عز وجل إليه في قوله تعالى: (الرجال قوّامون على النساء)، وإذا كان له القوامة على زوجته فمن باب أولى له القوامة على أولاده حتى يبلغوا سن التكليف، والقوامة تستلزم رعاية الأسرة زوجة وأولادًا، والبعد عن التعامل معها بأي صورة من صور العنف والقيام بمصالحها، وليست استبدادًا، ولا يجوز التعسف من الزوج في استعمال هذا الحق.
ثانيا: الأفضل أن يكتفي الزوج بالتهديد بوسائل التأديب الشرعية إذا كان ذلك مؤديًا للغرض.
ثالثا: الأمر في قول الله عز وجل: (واضربوهن) لا يفيد إلا مجرد الجواز، فلا يفيد الوجوب، بل ولا يفيد الاستحباب، كما بينت بعض الأحاديث الشريفة.
رابعا: حال جواز الضرب قاصرة على الإتيان بالفاحشة المبينة، وقد بيَّن القرطبي معناها وهو إدخال الزوجاتِ منازلَ أزواجهن أحداً ممن يكرهه الأزواج من الأقارب والنساء والأجانب، وليس المراد بالفاحشة المبينة الزنا، فإن ذلك محرم، ويلزم عليه الحد.
خامسا: الضرب المباح لا يجوز إلا إذا كان ضربًا غير مبرح؛ وذلك لأن المقصود من الضرب الصلاح لا الإيذاء البدني أو التجريح النفسي، وذلك لا يجوز للزوج أن يضرب وجه زوجته.
سادسا: ينتقل الحكم من الإباحة للضرب إلى المنع إذا كان الزوج يغلب على ظنه أن الضرب لا يفيد.
الدواعي والخصائص
وفق الضوابط السابقة لا يعد التأديب الحسي نوعا من أنواع العنف داخل الأسرة؛ إذ العنف له خصائصه المميزة من مثل: تعمد الإيذاء البدني من الطرف الأقوى على الطرف الأضعف، وكونه يتخذ في كثير من الأحيان طابعا اقتصاديا حين يلزم أحد الطرفين الآخر ما لا يطيق، أو يتخذ صورة سلطوية واضحة كأن يسعى أحد الزوجين إلى الاستحواذ على القرار أو الانفراد به بحيث ما يتراءى له دون مناقشة أو قبول أو احترام للرأي الآخر.
وتتراوح دواعي العنف الأسري ما بين الدواعي الذاتية كأن يكون أحد الزوجين قد نشأ في بيئة اجتماعية موسومة بالعنف، أو لدواعٍ اجتماعية، فالفقر المدقع سبب لا سبيل لإنكار تأثيره في دفع الواقعين تحته إلى اعتناق العنف سبيلا لحل المشكلات، وقد يكون له دواعٍ قضائية، ذلك أن بطء إجراءات التقاضي في النزاع الأسري، وعدم توافر ضمانات كافية للعدالة يدفع الأزواج إلى تفضيل العنف باعتباره وسيلة لحسم النزاعات.
الحد من العنف
ويناقش الدكتور رأفت عثمان التدابير الجَزائية التي نحتاج إليها للحد من أشكال العنف في الأسرة والتي تدخل في مجال العقوبات التعزيزية، فيجد أن العقوبات التي يحق للقاضي أن يحكم بها في القانون الإسلامي ثلاث عقوبات، هي: القصاص، والحدود، والتعزيزات.
فأما القصاص فهو عقوبة مقدرة وجبت حقًّا للآدمي، فقتل النفس عمدًا عدوان يوجب فيه الإسلام القصاص وهو قتل القاتل، والاعتداء على طرف من أطراف إنسان يوجب فيه الإسلام القصاص، وهو أن يفعل بالجاني مثل ما فُعل بالمجني عليه.
وأما الحدود فهي عقوبات مقدرة وجبت حقًّا لله عز وجل، وإن كان فيها حق للآدمي كجلد الزاني غير المتزوج، وقطع يد السارق، وجلد من يرمي غيره بجريمة الزنا من غير وجود أربعة شهود يؤيدون دعواه، وأما التعزيز فهو تأديب على ذنب لا حد فيه ولا كفارة.
ومجال عقوبة التعزيز، كما يلحظ الدكتور عثمان، مجال واسع لم يحدده الشرع كتحديده للقصاص والحدود، فقد يأخذ التعزيز صورة الضرب أو الحبس أو الغرامة المالية، أو التوبيخ أو النفي إلى بلد غير محل إقامته، أو الحرمان من الحقوق السياسية، أو غير ذلك مما يراه القاضي مناسبًا للمخالفة الشرعية التي حدثت في نطاق الأسرة.
والعنف في نطاق الأسرة قد يقع من جانب أحد الزوجين أو من قبل الأولاد، وهو الأمر الذي يثير تساؤلاً حول ما هو الجزاء المناسب الذي يمكن أن يحد من العنف داخل الأسرة؟
وهنا يجيب الدكتور عثمان بأنه إذا كان العنف واقعًا من جانب الأولاد على والديهم فإن باب التعزيز مفتوح، لأي عقوبة تكون مناسبة للدرجة التي وصل إليها العنف، كالضرب بالسوط شريطة ألا يزيد عن عشرة أسواط، وهو الحد الأعلى للتعزير، كما ذهب الشوكاني.
أما إذا كان العنف واقعًًا من الزوجة؛ فإن الوسائل الثلاث التي بينتها الآية الكريمة: (واللاتي تخافون نشوزهن) وهي الوعظ، والهجر في المضجع، والضرب بضوابطه يمكن أن تعالج عنف الزوجة.
أما إذا كان العنف واقعًا من الرجل على زوجته؛ فإن للفقهاء آراء مختلفة في ذلك؛ فقد بيّن "فقهاء المالكية أنه لو تعدى الزوج على زوجته لغير مبرر شرعي، بالضرب أو السب أو نحوهما، وثبت هذا التعدي بشهادة الشهود، أو إقرار الزوج بذلك فإن على الحاكم أن يزجره بالوعظ أولاً ثم بالتهديد، قالوا وإذا لم ينزجر ضربه".
أما الشافعية فيرون أن الزوج لو آذى زوجته بالضرب أو غيره فللحاكم أن يزجره ولا يعزره، أما الحنابلة فيرون أن على الحاكم أن يمنع الزوج من الإضرار بزوجته والتعدي عليها.
ويخلص عثمان إلى أن مسألة اعتداء الزوج على زوجته مما لم يرد فيها نص، وأن الفقهاء لم يجمعوا على شكل التعزير المقترح على الزوج، وأوضح أنه لا يحبذ شخصيا أن يعزر الزوج بالضرب انطلاقا من أنه "إذا كان الشرع يحبب في عدم ضرب الزوجات؛ فإن المرأة من جانبها أيضًا يجب ألا تكون سببًا في إيقاع الضرب على زوجها، وإلا فكيف تستقيم الحياة بين الزوجين".
مشروع القرار
في نهاية بحثه اقترح الدكتور رأفت عثمان أن يوصي مجمع الفقه الإسلامي بمشروع قرار لضبط العنف الأسري يتضمن البنود الأربعة التالية:
أولا: يستحب للأزواج ألا يلجئوا إلى ضرب الزوجات؛ لأن ضرب الزوجة لا يستحسنه الشرع والأفضل عدمه.
ثانيا: إذا كان الأولاد مصدر العنف في الأسرة جاز أن يعاقبوا بإحدى العقوبات التعزيرية، ويجوز أن تكون العقوبة بالضرب الذي يمكن أن يصل إلى عشرة أسواط.
ثالثا: إذا كان العنف من جهة الزوجة، ولم تفلح الوسائل التي بينها الشرع في تأديبها، فإن من المستحب اللجوء إلى الخلع.
رابعا: لا يصح أن يكون الضرب أو الحبس وسيلة لتأديب الزوج إذا كان العنف من جهته.
ساحة النقاش