جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
ابو العبد ــ ايها السادة الكرام ــ رجل في الخمسين من العمر , من ملامحه يبدو انه عرك الحياة وعركته , باسم الوجه قليل الكلام , اجابته على قد السؤال . يعمل سائق اجرة من فترة طويلة , يعرف كل مدينة وقرية خاصة في الشمال الفلسطيني , ويعرف اشهر الاماكن السياحية والتاريخية , هو رائدنا في هذه الرحلة العتيدة , فقد سلمناه زمام الامور , حيث اعطينا القوس باريها , و كما يقول المثل الشعبي (اعط الخبز لخبازه ) او كما قال طرفة بن العبد :
إذا كنتَ في حاجة مرسلاً فأرْسِلْ حَكِيماً ، ولا تُوصِهِ
قال ابو العبد الساعة الان العاشرة , نحتاج حوالي نصف ساعة للوصول الى عكا من حيفا , وسأتجه بكم فورا الى الشاطئ او الكورنيش , تستمتعون بمنظر البحر فترة قبيل صلاة الجمعة , قلنا على بركة الله انت القائد والدليل . سار بنا سيرا هادئا على الساحل , طريق واسع بجواره خط القطار الذي بربط شمال البلاد بجنوبها , على جوانب الخط مناظر خلابة ممتعة من اشجار الزينة بكل الوان الطيف , تأخذ بالألباب وتسحر القلوب ولا تملها العين .
وصلنا المدينة وتوجهنا فعلا الى الشاطئ (الكورنيش ) , هو حديث الانشاء من الحجارة البيضاء الكبيرة , على غرار سور عكا الشهير , لكنه ليس بارتفاعه وانما حوالي المتر والنصف عن الماء , المقاعد وضعت بعناية تحت ظلال النخيل وبعض اشجار الزينة , البحر لا يبعد سوى امتار , في السور فتحات بدرجات توصل الى الماء لمن احب النزول والاستمتاع بالسباحة او الصيد . كنا نشاهد الاسماك الصغيرة بين الصخور , وراينا الصيادين بالقوارب وكذلك السفن التجارية العملاقة المتجهة نحو ميناء حيفا . كان منظرا من الف ليلة , قلت يا ابا العبد : لا يكتمل جمال المشهد الا بإفطار شعبي في مطعم شعبي . قال : اذن سآخذكم الى ساحة المسجد فهناك سنجد ضالتنا .
في الساحة امام المسجد وجدنا عددا من المطاعم , اختار لنا مطعما تراثي المعمار , تقدم صاحبه مهللا مرحبا , يحمل في يده دلة قهوة , صب لنا وهو يقول : باسما اهلا وسهلا تفضلوا , دخلنا المطعم , مطعم محافظ على الطابع التراثي للعمارة الفلسطينية , بطول حوالي مائة متر , سقفه جملوني على الطراز العقد في البيت الفلسطيني . لفت انتباهي الكم الهائل من المخللات والسلطات الفلسطينية الشهيرة (كالخيار واللفت والفقوس والزهرة والباذنجان والزيتون وحتى البصل ) . قلت له :الاسم الكريم ؟ قال : محسوبك ابو محمد . قلت : يا ابا محمد نريد افطارا شعبيا فلسطينيا من عكا , قال : اذا تريد حمص وفول وفلافل . قلت : فهمتني . قال : ستأكلون اطيب طبق عكاوي من عند محسوبكم ابي محمد .
سبعة صحون من المخللات والسلطات والمقبلات نزلت على الطاولة قبل نزول الاطباق الرئيسة . قال ابو حسام وهو يشير بيده ان تفضلوا : نحن نحرص على عملها باليد ( بالمدقة) كما كنا نعملها قديما . فعلا تناولنا اطيب افطار وحمدنا الله على هذه النعمة , وشكرناه على ان هذه البلاد بقيت محافظة على طابعها العربي الاسلامي رغم الاحتلال . بقينا جالسين نحتسي القهوة العربية والمرطبات حتى بدا المؤذن بالتذكير , فتوضأنا ويممنا شطر المسجد
جامع الجزار باشا (الانوار) أعظم مسجد في شمال فلسطين على الإطلاق ، بحجمه وبفنّه المعماري الإسلامي ، مما جعله تحفة معمارية نادرة ، وموئلا لكل من زار المدينة سائحين ومصلين , فيتمتع بجمال وعظمة وهيبة المكان الذي ينقلك الى ذلك الزمان زمان العزة والمنعة .
يغود تاريخ عمارة هذا المسجد الى عهد احمد باشا الجزار والي عكا من قبل العثمانيين ، قائد مسلم من البوسنة ــ فك الله اسرها ــ , عينه العثمانيون واليا للشمال الفلسطيني فاتخذ مدينة عكا عاصمة له 1776م ، وحصّنها بالأسوار، وبنى فيها أكبر مركز تجاري سمي باسمه ، وشرع بإقامة المسجد الكبير المعروف باسمه (مسجد الجزار) والمدرسة الأحمدية ، والمكتبة ، وسبيل الطاسات ( حوض ماء عذب على باب المدخل الشمالي للمسجد للشرب ) ، والملجأ، والميضأة، والمزولة ، والبركة التي جلب إليها الماء من نبع قريب . وقد اكتمل سنة 1782م .
تعود أهمية جامع الجزار - إلى جانب موقعه ومكانته في نفوس المسلمين , لمساحته وارتفاع قبته ، اذ لم يكن المعماريون يعرفون آنذاك الإسمنت المسلّح بالحديد ، وكان من الصعب إقامة أبنية واسعة لتعذر بناء السقوف الواسعة، فاحتال المهندسون على ذلك ببناء الأقواس وحجر الغلق الذي يقفل القوس من الأعلى، مما جعله صامداً ضد عوامل الزمن .
يرتكز الجامع إلى أربع زوايا ، يبلغ البعد بين كل زاويتين 17 متراً بما فيها الأروقة الجانبية ، ويتخلل كل واجهة سبع نوافذ ، وسُمك جدارها 112سم، وفوق النوافذ شريط كتابي بارز الحروف من الرخام الأبيض لآيات من القران الكريم من سورة الفتح ، وقد طلي ما بين الحروف والكلمات باللون الأزرق ، فأكسبها روعة وجمالاً خاصّين.
تصعد للمسجد بعدد من الدرجات , فتدخل ساحة واسعة تحوي العديد من أشجار السرو والنخيل العتيق . وفي مركز الساحة تشاهد بناءً له قبة خضراء هي الميضأة ( مكان الوضوء) , تشبه الى حد ما الميضأة الموجودة في ساحة المسجد الاقصى المبارك ، وبالقرب منها بئر ماء , من الناحية الشمالية والشرقية رواق مقبب ب 52 قبة صغيرة باقواس تفصل بينها أعمدة من الرخام والغرانيت، يحوي 45 غرفة ، حيث شغلت تلك الغرف المدرسة والمكتبة الأحمدية ، إضافة إلى المحكمة الشرعية ، ومكاتب لموظفي المسجد والطلبة ، أما القسم الأخير ويعرف (بالمزولة) وهي ساعة شمسية تحدد الوقت في النهار , بواسطة ظل عود يثبت عمودياً على لوحة مرقمة جدارية أو مبسطة أفقية على أرض أو سقف، وكانت تزود بها المساجد الجامعة لتحديد موعد أذان الظهر والعصر في الزاوية الشمالية الغربية حجرة عليها قبتان تضم ضريح الجزار الذي توفي سنة 1804، وبجانبه خليفته سليمان باشا توفي سنة 1819م .
لعل أعظم واجمل ما في هذا المسجد هو القبّة، فهي كروية الشكل، يبلغ قطرها عشرة أمتار، تكسوها ألواح من الرصاص من الخارج لمنع تسرّب الرطوبة إليها، أما المئذنة فتقع في الركن الشمالي الغربي من الجامع ، وفيها درج لولبيّ وبعض النوافذ الصغيرة للإنارة والتهوية . تم بناء المسجد سنة 1782م ، أما الغرف الصغيرة الموجودة في داخل المسجد فبقيت يسكنها طلاب العلم حيث كانت في الجامع مدرسة إسلامية(حتى سنة 1948) عندما وقعت المدينة تحت الاحتلال الصهيوني .
بعد الانتهاء من الصلاة قال ابو العبد : حفاظا على الوقت سآخذكم في رحلة سريعة الى اشهر معلمين من معالم المدينة , ارتبطا بتاريخ الصراع مع المحتل . الاول سورها الشهير والثاني سجن القلعة , الذي شهدت غياهبه عذابات الابطال ابان ثورة 1936ضد الاستعمار البريطاني . وما ان انهى كلامه حتى كنا نقف عند السور .
سور عكا في الواقع سوران , لكن الذي اشتهر منه ما بناه الجزار , الاول بعرض متر تقريبا وطول حوالي 2835 متر , بني في عهد الاسكندر الاكبر له برجان صغيران يطلان على البحر , اما الثاني فالذي بناه الجزار في نهاية القرن الثامن عشر لصد الهجمات الصليبية , بعرض حوالي 30 مترا وارتفاع 15 مترا , من أضخم وأعظم الأسوار التاريخية العالمية , بين السورين قناة عريضة تفتح وتملا بماء البحر لصد الغزاة , وقفنا على السور ونظرت الى البحر من ذلك العلو الشاهق , فتذكرت كيف تحطمت تحت هذا السور طموحات نابليون بمد إمبراطورتيه للمشرق الاسلامي , فغادر المدينة يجر اذيال الخيبة بعد حصار دام شهرين سنة 1799م .
اما السجن العتيد سيء السمعة فقد كان قلعة حصينة , أتم بناءها أحمد باشا الجزار كسرايا ومركز للحكم , لكنها اُستعملت زمن الانتداب البريطاني كسجن مركزي، وكانت تتم فيه أحكام الاعدام ابن ثورة 1936م ، وما زالت الذاكرة الفلسطينية تحتفظ بكثير من المرارة اعدام 3 من الشباب الفلسطينيين المقاومين للاستعمار البريطاني والهجرة اليهودية إلى فلسطين ، وهم : محمد جمجوم ، فؤاد حجازي ، عطا الزير. وقد اُستغلت القلعة فيما بعد ، كمستشفى للأمراض العقلية لعدة سنوات , اما الان فهو اثر بعد عين . طبتم وطابت اوقاتكم .