نسمات مديحة حسن

شعر / خواطر / قصة قصيرة / وطنيات


كلما قرات سورة الايلاف الكريمة (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) تطرق ذاكرتي رحلة( وما اكثر رحلات بني فلسطين ويا طول مشاويرهم ) , رحلة كنا نحن ــ مربي الماشية ــ من الفلاحين ( اهل المدر) نرتحلها كل عام الى سهل فسيح بين ثلاث قرى جبلية في الشمال الفلسطيني , تحل فيه مضاربنا مع بداية الصيف الى قرب انتهاء الخريف سعيا رواء الكلأ من مخلفات الحصاد , وبواقي الخضار بعد انتهاء مواسم القطاف , وذلك بعد انتهاء فترة الربيع حول القرى , ونفاذ الكلأ .
يقع هذا السهل بين يعبد في الغرب , وكفيرت (كفيره كما اصبحت تسمى في عهد الاحتلال) في الشمال , وعرابة جنوبا اما باب الشرق فمفتوح على مد البصر ليلتقط مع سهل مرج بن عامر الشهير , كان الناس يطلقون عليه اسم سهل عرابة او الحلحية , يخترق السهل شارع ضيق يربط قرية يعبد وبعض عزبها وقرى المثلث بخط نابس جنين المشهور , عند مثلث يسمى مثلث عرابة , كان محطة للجيش العربي قبل الاحتلال , ثم مركزا لجيش الاحتلال بعد عام 1967 , حيث غاروا بعد اتفاقية السلام مع السلطة الوطنية الفلسطينية . 
يكاد الشارع يقسم السهل الى قسمين متساويين , وان كان القسم الشمالي اوسع قليلا من الجنوبي , يتوسط السهل واد من الشمال الى الجنوب تتجمع فيه مياه السيول من الجبال المجاورة . اشتهر هذا السهل بخصوبته وملاءمته للزراعات الشتوية والبعلية , ولا ادري لم كان السهل جنوب الشارع مخصصا لزراعة الحبوب كالقمح والشعير والذرة بأنواعها الحمراء والبيضاء والصفراء والعدس والحمص والسمسم , بينما يخصص الجزء الشمالي للقثائيات كالبطيخ خاصة والشمام والفقوس , لا اعرف السبب ربما ان الامر يتعلق بمخزون كل منهما للأمطار , التي تتلاءم مع صنف دون الاخر حسب خبرات الفلاحين , وقد اشتهر فيه صنف من البطيخ بالبذرة البيضاء الكبيرة المكحلة من جوانبها اطلق عليه بطيخ جنين او الحلحية نسبة الى هذا السهل , وهذا النوع اشتهر بحلاوته وطول مدة تخزينه . 
عدد البيوت عادة بين العشرين والثلاثين بيتا على الاطراف الشمالية للسهل من جهة كفيرت , لقرب البلدة من السهل وسهولة الخدمات وخاصة الماء الذي هو عصب الحياة , تضرب البيوت بشكل متوازٍ , تتباعد وتتقارب حسب صلة القربى بين اصحابها , تصنعها النساء من الخيش اشبه بالخيام تنقسم الى قسمين : الشق وهو مخصص للرجال والضيوف في السهرات الصيفية الممتعة على اصوات (بقرج ) القهوة وحنين الناي , والقصائد الشعبية والسواليف القديمة , والقسم الاخر هو المحرم مخصص للعائلة , يفصل بينهما حاجز من الخيش ومنصب الفراش .
اذكر انني كنت في الصف الاول الابتدائي عندما اخبرنا الوالد انه اشتري مقثأة بطيخ بعد القطفة الاولى , ومازالت فيها كميات من كبيرة الثمار , وان علينا ان نستعد لقطاف الثمار وجمعها , وفعلا فقد تم حيث جمعت في كومتين كبيرتين الاولى الثمار الكبير الجيدة والناضجة الصالحة للبيع , والاخرى للثمار المتوسطة والصغيرة وغير الناضجة , والتي علينا ان نعمل يومين كاملين بتكسيرها واستخراج البذور للتسالي في ليالي الشتاء الطويلة , حيث تحمص على النار بجانب الفستق , وتترك قشور البطيخ للأغنام . 
اما الكومة الاخرى فاخبرنا انه اتفق مع شاحنة صغيرة لنقلها غدا مع الفجر الى سوق الخضار المركزي في مدينة نابلس . فرحت كثيرا يومها ورجوت الوالد متوسلا اليه بالوالدة والجدة ان يصحبني معه , قال : سنغادر مع صيحة الديك . قلت : اصحو مبكرا ولن انام الليلة وسأساعدكم في التحميل . قال : لا مكان لك الا فوق البطيخ . قلت : اركب . قال : ينفخك البرد . قلت : اتحمل . وفعلا فقد تم وركبت ظهر الشاحنة فوق البطيخ , حيث هيئوا لي زاوية قليلة الهواء وانطلقت السيارة تمخر عباب ذلك السهل الى ان التقت بشارع جنين نابلس . ثم انحرفت باتجاه الجنوب صوب المدينة العريقة . 
نابلس ــ ايها السادة ــ اشهر مدن الشمال الفلسطيني واكبرها واكثرها سكانا , تقع بين جبلين كبيرين عاليين هما جرزيم جنوب المدينة ويرتفع 881 مترا عن سطح البحر , وعيبال شمالي المدينة وترتفع قمته المنبسطة 950 متراً فوق سطح البحر وهي تشرف على المنطقة بأسرها ، حيث ترى منه جبال لبنان والسلط والكرمل بالإضافة إلى وادي الأردن والساحل الغربي للبحر الأبيض المتوسط , يعرف هذا الجبل أيضًا بجبل النار ، نظراً لما يروى عن إضرام النار بجنود نابليون في أحراش هذا الجبل خلال الحملة الفرنسية لاحتلال الشام , وقد اذاق الصهاينة ايضا الويلات ابان الانتفاضة المباركة فاطلق عليه من جديد جبل النار .
وصلت الشاحنة السوق مع شروق الشمس , ليسرع الينا الدلال فقال مازحا هل ادلل عليها بالولد ام من غير الولد , فأجابه الوالد ضاحكا : ( والله اذا كان بجيب ثمن بطيختين خليه مع البيعة ). باع الدلال الحمل وانطلقنا بعدها انا والوالد الى السوق العتيق في المدينة القديمة , لم ولن انساه ما حييت , سوق ممتد مسقوف على شكل العقود الجمالونية , تفوح منه روائح البهارات بأنواعها , فيه كل ما يخطر على البال من محلات الحلويات النابلسية والسمن النابلسي والجبنه النابلسية والمكسرات والفواكه والصابون الى محلات التحف والخزف والزجاج والحرائر والعطور والاقمشة , اشترى الوالد حاجته ثم انتقلنا الى اكبر مجمع للحافلات وسط المدينة , كل يدلل على الجهة التي تقصدها حافلته القدس رام الله الخليل بيت لحم جنين وطولكرم اضافة الى القرى المجاورة . 
كانت المدينة في ذلك الوقت تحوي اشهر الصناعات الفلسطينية . كصناعة السمن النباتي وحفظه في علب اسطوانية سعة اللترين عليها شعار الغزال , والتي يذكرها كل اهل بلاد الشام ويستخدمونها خاصة في عمل الكعك والحلويات والطبخ . وكذلك الصابون النابلسي الشهير بنوعيه الاخضر للغسيل والابيض ماركة المفتاحين والجمل للاستحمام , المصنوع من زيت الزيتون الخالص . اضافة للحلاوة الطحينية والطحينة التي تدخل في كثير من الاطباق الفلسطينية وخاصة الحمص , ولا ننسى الكنافة النابلسية بالجبن النابلسي الشهير , اضافة الى ذلك صناعة اعواد الثقاب الكبريت بعبوته الشهيرة ثلاث نجوم , ثم صناعة الصناديق الخشبية بسعة جوالي 10 كغم لنقل المنتوجات الزراعية الى اغلب دول الخليج وخاصة البندورة والبرتقال ثم صناعة صفائح الزيت سعة ال 20لترا , حيث كنا مع صغر سننا نقرا عبارة صنع في نابلس.
هذا كل ما اذكره في تلك الفترة , اما اليوم فقد تمددت المدينة واكتسى جبلاها بالمباني اضافة الى التوسع شرقا وغربا وكثرت اسواقها وحدائقها ومتنزهاتها , وهي اليوم عاصمة دولة فلسطين الاقتصادية , ومقر أكبر الجامعات الفلسطينية ( جامعة النجاح) . هي مركز المحافظة تضم 56 قرية , ومركز تجاري لأغلب محافظات الشمال الفلسطيني , وفي خضم ذلك انتقل مجمع الحافلات الى اطراف المدينة , حيث شيد مكانه اضخم مبنى في المدينة كلها خصص للمحافظة , تحته مواقف للسيارات ومولات ومحال تجارية , ولكن ما يثلج الصدر ان السوق العتيق بقي محافظا على طابعه .
نابلس ــ ايها السادة ــ كانت ولازالت نزهة المشتاق , وتحفة العشاق ومهوى الانفس والاذواق . طبتم وطابت اوقاتكم .

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 57 مشاهدة
نشرت فى 5 سبتمبر 2018 بواسطة nsmat

مديحة حسن كاتب وشاعر

nsmat
شعر / خواطر / وطنيات / قصة قصيرة / اخري »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

191,757