جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
تــجـــــديـــــد أم تــبــــديـــــــد ؟
التجرؤ علي الله ورسوله حين يتأتي من غير المسلم ، فهذا ما يمكن تفهمه ، واستيعابه . أما أن يأتي من مسلم فهذا ما لا يمكن تفهمه ، ولا استيعابة ، ولا إيجاد المبرر له ، ولا تسويغه . ولا يمكن استغلال الأجواء العامة في الوقوف ضد الإرهاب والتطرف ، ومحاربتهما ، ومحاولات القضاء عليهما ، كذريعة للتجرؤ علي الله ورسوله ، ومحاولة النيل منهما ، وإقصائهما عن الحياة ، وعزلهما عنها . هذا ما حدث في دولة تونس العربية الإسلامية ، وحاول البعض في مصر ركوب الموجة من خلال التنظير لما حدث ، والقفز إلي إصدار أحكام عامة تنقلنا ـ في مصر ـ إلي أبعد مما حصل في تونس من باب الدعوة إلي تجديد الخطاب الديني .
وما حدث في تونس أمر يدعو للعجب ، ليس لأنه قد أتي مفاجئاً ، أو أنه يحدث لأول مرة ، فقد اعتدنا علي ذلك من أيام الرئيس الحبيب بورقيبة ، الذي خرج علي شعبه بفتوي سلطوية بوجوب إفطار شهر رمضان ، لأن الصيام يعطل عجلة الإنتاج ، ومنع تعدد الزوجات ، وعدم الإعتراف بالطلاق إلا أمام القضاء ، وأصدر قانوناً يسمح بالتبني ، وآخر يسمح للمرأة بالإجهاض ، ومنع الحجاج من التوجه إلي السعودية ، باعتباره إهداراً للمال العام من العملة الصعبة ، وأصدر قانوناً يمنع النساء من ارتداء الحجاب باعتباره مظهراً من مظاهر الطائفية ، ومنافاته لروح العصر ، وسنة التطور . فالذي يدعو للعجب هذه المرة هو موافقة دار الإفتاء التونسية علي الفتوي السلطوية التي خرج بها الرئيس السبسي .
وكان الرئيس السبسي قد خرج علي شعبه بفتوي إلغاء منع زواج المسلمة من غير المسلم ، وإيجاد صيغة قانونية لا تتعارض مع الدستور ومبادئه، ولا مع الدين ومقاصده، للمساواة بين المرأة والرجل في الميراث ، وقد ذهبت دار الإفتاء التونسية إلي محاولة التخريج الشرعي لهذا الكلام بأنه يتفق مع صحيح الدين استناداً إلي قوله تعالي : " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف " . والأدهي من ذلك وأمَر ذهاب حركة النهضة ـ الإخوانية ـ علي لسان رئيس المكتب السياسي للحركة إلي القول بأن مطالب السبسي لا تزعجها ، وأن فتح النقاش بشأنها مهم ، وإيجابي للغاية ، غير أنه يحتاج التدرج والوقت والحوار المجتمعي . وفي ذلك مناورة سياسية يجري فيها استغلال الدين لصالح السياسة .
فإذا سألنا عن موقف الشارع ـ عز وجل ـ عن ذكر آية المثلية وآية الميراث ، فسنجد أن آية المثلية : "ولهن مثل الذي عليهن " ، وهي تعني بلا لبس أو غموض أن للنساء من الحقوق مثل ما للرجال عليهن من حقوق . والمثلية النظير والمشابهة ، وقد يكون ذلك في كل الصفات ، وقد يكون في بعضها . والمماثلة المطلقة لا تستقيم عقلاً ، ولا واقعاً ، ولا بمقتضي الخِلقة ، ولا بالمقصد منها ، ولا وفقاً للشريعة . وهذا يقتضي صرف المعني إلي المماثلة النسبية . وفيها تتساوي حقوق وواجبات تساوياً تاماً ، وحقوق وواجبات أخري تتساوي علي وجه المقابلة بمقتضي الفطرة والخِلقة والشرع ، وبحسب أنظار المجتهدين .
ويدل علي هذا التقسيم قوله تعالي : " وللرجال عليهن درجة " ، وهذه الآية تدفع توهم المماثلة المطلقة . وتقر بالمماثلة النسبية . كالسماح بتعدد الزوجات للرجال دون تعدد الأزواج للنساء ، وجعل الطلاق بيد الرجل دون المرأة ، وكذا المراجعة في العدة ، وجعل الرجل المرجع عند الإختلاف .
ومن هنا يصعب الإستناد إلي آية المثلية في شرعنة المماثلة المطلقة في الميراث ، ولا اتخاذها علي صحة وجهة نظر القائل بها دليلاً . والقول بأن ما يُقال في الآية ـ تحكيماً للعقل ـ ليس مساواة هو قول مردود ؛ لمصادمته لقول الله .
فإذا كان لله حكماً في مسألة ، وللعقل حكماً مخالفاً في ذات المسألة ، تقدم حكم الله ، وتأخر حكم العقل أو انعدم . وهذا أمر يتعلق بالإيمان بوجود الله من عدمه .
ولذا يتبادر إلي الذهن تساؤل مشروع حول علة جعل حظ الأنثي مقياساً لحظ الرجل في الميراث، وليس العكس ؟ . والإجابة في غاية البساطة ، لأن حظها في القسمة للميراث أكثر من حظ الرجل فيها ، فجعل الله حظها أصلاً ومقياساً ، كما ذهب إلي ذلك الشيخ الشعراوي رحمه الله . وبيان ذلك أن الذكر مطلوب له زوجة ينفق عليها من حظه ، والأنثي مطلوب لها ذكر ينفق عليها من حظه إذا تزوجت ، ويبقي لها حظها من الميراث دون مساس لأن زوجها يعولها ، فإن عاشت دون زواج كفاها حظها . وبذلك يكون المولي عز وجل قد قضي بالعدل ، والعدل أشمل من المساواة ، وهو ضابط لها ، والمساواة هدف للعدالة وجزء منها . والإسلام دين العدل ، لأن العدل يعني الموازنة بين جميع الأطراف دون تبخيس . ولذا فمن العدل أن يأخذ الذكر مثل حظ الأنثيين ، وأن تتساوي الأختان في الميراث .
وقد جاء من مصر من يركب موجة تونس في هذا الإتجاه ، ويزعم أن تعطيل الأحكام لا يعني بالضرورة المساس بقداسة النص ، فليبقي النص وتبقي قداسته دون الإلتزام بأحكامه والتحلل منها ، ما دامت هذه الأحكام تعوق تقدمنا ، وتحول دون عصرنتنا ، وتقف عقبة كؤود في سبيلنا . ومن الممكن أن يأتي ذلك في إطار محاربة الإرهاب والتطرف ، ومواكبة لدعاوي تجديد الخطاب الديني .
ونتساءل بمنتهي حسن النية : أهو تجديد أم تبديد ؟ .