جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
إذا كانت السياسة هي فن الممكن، ولغة السلاح هي التي تجبر الدول علي الجلوس علي مائدة المفاوضات لتتحدث لغة اللسان، فإننا كعرب فقدنا في السياسة فن الممكن واللاممكن . وفقدنا مبكراً لغة السلاح، وما زلنا نفتقدها، في مواجهة الكيان الصهيوني المغتصب، باستثناء حرب اكتوبر 1973م .
ويرجع ذلك تارة لتفككنا وتشرذمنا داخلياً، وتارة لتآمرنا بعضنا علي بعض، وتارة لتآمر المجتمع الدولي، أو الدول الفاعلة فيه علينا . وتارة لضعفنا وخوارنا وتهافتنا . وفي إطار كل هذه الحالات لا نملك سوي الحلول الحنجورية الزاعقة، من تنديد وشجب واحتجاج بأقوي العبارات وأقساها، ثم لا شيء آخر . ولا يملك المجتمع الدولي حيال الدولة المغتصبة سوي إصدار القرارت دون الولوج إلي آليات التفيذ .
ومع غروب شمس كل يوم نفقد أرضاً جديدة لصالح ذلك الكيان الصهيوني المفتعل، دون أمل في معالجة ما فات من قضايا، ولا التعامل مع ما هو آني، وما هوأت .
وإحدي صور الفقد الأخيرة وأحدثها إعلان الكنسيت الإسرائيلي يهودية الدولة الإسرائيلية، بإصدار قانون يشرعن لهذا التوجه ويوقننه . ولن نقول بأنه قد تم تمريره في غفلة من العرب، أو في غفلة من المجتمع الدولي، لأنه قد صدر علي رؤوس الأشهاد، متحدياً في ذلك، اللغة الحنجورية العربية، وقرارات الشرعية الدولية .
فقد نص القانون صراحة علي أن إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي، وتحترم حقوق كل مواطنيها . وأن حق تقرير المصير هو حق خاص للشعب اليهودي. وقد نص القانون علي أن اللغة العبرية هي اللغة الرسمية لدولة إسرائيل، ويصف القانون دولة إسرائيل بمحافظاتها " أو مناطقها الإدارية "، بأنها الوطن القومي للشعب اليهودي، بما في ذلك مدينة القدس، التي اعتبرها كاملة وموحدة، هي عاصمة لدولة إسرائيل . كما يعتبر تنمية المستوطنات قيمة وطنية .
ولقد نسينا أو تناسينا في غمرة الأحداث اليومية المتتابعة المتدافعة، والزخم الإعلامي التافه الذي يتلاعب بعقولنا ومشاعرنا، بعيداً عن القضايا الكبري للأمة العربية، أن هذا القانون قد صدر، وأنه لايقل بحال من الأحوال في تداعياته وآثاره عن نكبة 1948 م . وإذا كنا قد بكينا بالأمس علي ما ضاع من فلسطين، فلا ريب أننا اليوم سنبكي كل فلسطين، وغداً لا ندري علي من نبكي؟! . ويبدو في الأفق أنه حتي لو لم ننس أو نتناسي، فليس لدينا ما يقدم أو يؤخر في القضية، لا من حيث القوة التي تتدافع بها الأمم، ولا من حيث الوحدة بديلاً عن التشرذم والتفرق والتصارع . ولا من حيث الوعي الحضاري المستوعب الذي لا ينسينا القضية، فتظل تاريخياً فاعلة حية في النفوس . وكل ما نفعله إن كان هذا يعد فعلاً هو انتظار الدور في الطابور المرصوص، والنقطة المحددة، لحين يُفعل بنا ما يُفعل .
القانون يجعل من دولة إسرائيل دولة يهودية خالصة، وأن اليهود هم أصحاب الحق الوحيد في أرض إسرائيل . وهو بذلك ينزع شرعية الوجود عن الشعب الفلسطيني، ولا يعترف به كجماعة قومية، لها حقوق علي هذه الأرض، بالتواجد فيها، أو الدفاع عنها، أو المطالبة بها . ليس ذلك في حدود 1948م فقط، إنما يمتد ليشمل القدس الموحدة / كعاصمة أبدية لإسرائيل، والضفة الغربية المحتلة في سنة 1967م، فضلاً عن التضييق علي عرب الداخل / عرب 1948م .
وقد قيل في أسباب إقرار هذا القانون التغيرات الديموجرافية التي تخلفها معدلات المواليد المرتفعة لصالح الفلسطينيين، مما يمثل مخاطر جمة علي مستقبل دولة إسرائيل . وعرقلة إدخال القدس في أي مفاوضات مقبلة بشأن حل الدولتين، بإقرار أن القدس الموحدة هي العاصمة الأبدية لإسرائيل . وقد اعتبر نتنياهو أن عدم اعتراف الفلسطينيين بيهودية دولة إسرائيل يعد عقبة كؤود في طريق السلام . وأنه لا سلام بدون هذا الإعتراف . والإعتراف يمثل انتحاراً للشعب الفلسطيني .
وبعيداً عن الأهداف المعلنة للجانب الإسرائيلي، وما استنتجته التحليلات السياسية المرئية والمسموعة والمقروءة، فأنا أظن أن كل ذلك لا يتعدي القشور الآنية لآهداف القانون، وأبعاده ومراميه . وأن الأمر أبعد من ذلك، وأعمق غوراً، وأشد خباثة وكيداً ومكراً .
يهودية دولة إسرائيل ستجري، ولن يلتفت إليها، إلا بمجموعة من التصريحات الجوفاء التي لا تعني إسرائيل، ولا تعني الواقفين من خلفها. والسر وراء إعلان يهودية الدولة العبرية هو تحويل مواجهات المستقبل القريب والبعيد إلي مواجهات دينية بيننا وبين دولة اسرائيل، وهي مواجهة حتمية لأن الطرف اليهودي فيها طرف غير أصيل، وغير متجذر في التربة وهو يشعر بهشاشة جذوره وسطحيتها . وبدلاً من أن تكون المواجهة بين دول مدنية قد تقف منها بعض الأطراف موقفاً محايداً، أو يحدث انقسام في الرأي بين مؤيد لهذا الطرف أو ذاك، وهذا ليس في صالح الدولة العبرية . أما المواجهات الدينية فهي بطبيعة الحال لا تعني سوي تسعير المواجهة بين الإسلام واليهودية والمسيحية . وحينئذ سيتبخر المجتمع الدولي والشرعية الدولية، انحيازاً في النهاية للدين الذي تدين به الأطراف الدولية أو الذي تستشعر بقربها منه أو تعاطفه معه، وحينئذ سيجد المسلمون، والعرب منهم خاصة، واقفين في العراء في مواجهة العالم . ويكون المستهدف حينئذ حماية إسرائيل الكبري .
فكيف سيصبح حال المنطقة وهي تشهد هذه التغيرات والإهتزازات؟!.