جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
في رحاب الشهر الفضيل بقلم علي الشافعي
ظاهرتان ــ ايها السادة الكرام ــ اختفتا او كادتا تختفيان من مجتمعاتنا في شهر رمضان المبارك , ظاهرتان جميلتان ترعرعنا عليهما , وشكلتا جزءا من ثقافتنا المجتمعية , اولاهما : مدفع رمضان الذي كنا نفطر على صوته ونمسك على ذلك الصوت , في زمن لم تكن وصلت القرى مكبرات الصوت , حيث كانت القرى المجاورة للمدن تفطر وتمسك على صوت المدفع . والظاهرة الاخرى هي : والمسحّراتي او (المُسحِّر ) بلهجة اهل البلد , الذي كنا نستيقظ للسحور على صوته الندي الشجي : ( اصح يا نايم وحد الدايم , رمضان كريم , يا ابو محمد قوموا لسحوركم رمضان جاي يزوركم ) .
رمضان زمان ــ يا دام سعدكم ــ كان غير , روحانيات افتقدناها هذه الايام ؛ في رمضان زمان يحرص جميع افراد العائلة على ان يتحلقوا حول مائدة الافطار بانتظار المدفع يليه الاذان , وكان العرف والدستور المجتمعي غير المكتوب ان لا تسبق يدٌ يدَ كبير الا سرة الى المائدة , الذي عادة ينتظر حتى نهاية الاذان احتياطا لدينه , ثم يبدا بالدعاء بصوت خافت لكن يسمعه الجميع ويؤمنون عليه : (اللهم لك صمت وعلى رزقك افطرت , ذهب الظمأ وابتلت العروق ونلنا الاجر بإذن الله , اللهم تقبّل صيامنا وقياما) , ثم يمد يده على حبة تمر تطبيقا للسنة الكريمة , فتنطلق ايدي الجميع في لحظة روحانية وفرح غامر , وسط تعليمات الام يا أولاد : لا تكثروا من الماء , يا فلان ابدا بالتمر , وانت يا علان الحساء قبل الطعام فهو ساخن و يهيء المعدة للطعام الثقيل ... الخ
قدّر لي ابان دراستي الجامعية ان اسكن قرب جبل القلعة في العاصمة عمّان وهو المكان المعد لإطلاق مدفع رمضان , وكنت اشاهد مجموعة الجنود وهم يجهزون المدفع للإطلاق , حتى اذا ما غربت الشمس اعطيت لهم الاشارة , فينطلق دوي هائل تهتز له المباني المجاورة , ويسود المكان هدوء روحاني جميل . بعد ان كانت شوارع العاصمة واسواقها تعج بالصخب والضجيج . اما اليوم فقبيل المغرب بحوالي نصف ساعة يبدا مارثون السيارات العجيب في الشوارع , سرعة جنونية , الكل متعجل الوصول الي البيت قبل الاذان للانقضاض على ما لذ وطاب . فان قدر لك ان تكون ساكنا على الشارع ستسمع الصخب والضجيج على اصوله ( طاط طيط , والشتائم والملاسنات والمخاصمات) , اما الاسرة التي قدر لاحد افرادها ان يستقل المواصلات في هذه الفترة تضع يدها على قلبها وتعيش على اعصابها في حالة ترقب وخوف من المجهول , و الام تتمتم : يا ساتر !! كلما سمعت صوت سيارة اسعاف . يتحلق الجميع وكل يمسك بجهازه الخلوي منتظرا ساعة الصفر , وبمجرد قول المؤذن الله اكبر تمتد الايدي , والاغلب ليس لديه وقت لان يسمّي فضلا عن ان يدعو , ولا تسمع سوى صوت قرع وصرير الملاعق في الصحون .
كنت اتساءل عن قصة مدفع رمضان , وكيف بدا هذا التقليد الذي اصبح ظاهرة في كل المدن الاسلامية , فعرفت انها بدأت بصدفة طريفة احببت ان انقلها لكم , فحسب اشهر الروايات التاريخية التي تقول , بعد ان تصلوا على طه الرسول :
كانت القاهرة عاصمة مصر الكنانة أول مدينة ينطلق فيها مدفع رمضان . فعند غروب أول يوم من رمضان عام 859 هـ 1439أراد السلطان المملوكي خشقدم أن يجرب مدفعًا جديدًا وصل إليه هدية من صاحب مصنع ألماني , فصادف إطلاق المدفع وقت المغرب بالضبط ، فظن الناس أن السلطان تعمد إطلاق المدفع لتنبيه الصائمين إلى أن موعد الإفطار قد حان ، فخرجت جموع الأهالي إلى مقر الحكم تشكر السلطان على هذه البدعة الحسنة التي استحدثها ، وعندما رأى السلطان سرورهم قرر المضي في إطلاق المدفع كل يوم إيذانًا بالإفطار ثم أضاف بعد ذلك مدفعي السحور والإمساك . وهناك رواية تفيد بأن ظهور المدفع جاء عن طريق الصدفة ، فلم تكن هناك نية مبيتة لاستخدامه لهذا الغرض على الإطلاق، حيث كان بعض الجنود في عهد الخديوي إسماعيل يقومون بتنظيف أحد المدافع ، فانطلقت منه قذيفة دوت في سماء القاهرة، وتصادف أن كان ذلك وقت أذان المغرب في أحد أيام رمضان ، فظن الناس أن الحكومة اتبعت تقليدًا جديدًا للإعلان عن موعد الإفطار، وصاروا يتحدثون بذلك، وقد علمت الحاجة فاطمة ابنة الخديوي إسماعيل بما حدث ، فأعجبتها الفكرة ، وأصدرت فرمانًا يقضي باستخدام هذا المدفع عند الإفطار والإمساك وفي الأعياد الرسمية. ثم بدأت الفكرة تنتشر في أقطار الشام أولا، القدس ودمشق ومدن الشام الأخرى, ثم إلى بغداد في أواخر القرن التاسع عشر، وبعدها انتقل إلى الكويت عام 1907، ثم انتقل إلى كافة أقطار الخليج قبل بزوغ عصر النفط , وكذلك اليمن والسودان وحتى دول غرب أفريقيا مثل تشاد والنيجر ومالي ودول شرق آسيا حيث بدأ مدفع الإفطار عمله في إندونسيا كبرى الدول الاسلامية سنة 1944.
اما ظاهرة المسحراتي فقد بدات ايضا في مصر , وأول من نادى بالتسحير عنبسة ابن اسحاق ســنة 228 هـ , وكان يذهب ماشياً من مدينة العسكر في الفسطاط إلى جامع عمرو بن العاص وينادي النّاس للسحور. وأول من أيقظ النّاس على الطّبلة هم أهل مصر . بعد ذلك انتشرت في الشام , فكانوا يطوفون على البيوت يعزفون على العيدان والطّنابير وينشدون أناشيد خاصّة بالشهر الكريم . أما أهل اليمن وبعض البلاد العربيّة كالمغرب فقد كانوا يدقّون الأبواب بالنبابيت( العصي ) . ولايزال اعضاء هيئة الامر بالمعروف بالقري السعودية يقومون بهذا العمل .
وبعد ــ ايها السادة الكرام ــ فهذه بعض المظاهر التي افتقدناها , وافتقدنا معها روحانيات الشهر الفضيل , فاصبح رمضان شهر الازمات والتهافت على الاسواق, والجشع والاستغلال وغلاء الاسعار, وسعة الموائد وشكوي عمال القمامة من كثرتها, والازدحام على الطرقات والحوادث , والخصومات والنوم وعرقلة العمل في الدوائر والمؤسسات الخدمية خاصة , وصدق من قال في رمضان تصفد شياطين الجن وتنطلق شياطين الانس . طبتم وطابت اوقاتكم .