نسمات مديحة حسن

شعر / خواطر / قصة قصيرة / وطنيات


احدى روائع السيدة فيروز , سمعتها لأول قبل اكثر من اربعين سنة , وما زلت اسمعها ولكن بطعم اخر ؛ فيه من المرارة ما فيه , ذلك لكثرة الشوادي في بلاد بني عرب في زمن الملاحم والفتن . عندما سمعتها للمرة الاولى تبادر الى ذهني انها تبكي حبا صغيرا طفوليا , ضاع قبل ان يؤتي ثماره , لكني ادركت فيما بعد انها تبكي انسانا من لحم ودم , لم يكتب لطفولته ان تكبر وتستمتع بالحياة .
الاغنية ــ ايها الافاضل ــ تحكي قصة طفل صغير اسمه شادي ضاع بين ارجل اللاعبين لعبة الموت , ومطلعها لمن لم يسمع بها : ( من زمان وانا صغيرة ... كان فيه صبي ... ييجي من الاحراش ... العب انا واياه ... وكان اسمه شادي) ثم تمضي القصة فتسرد كيف كان الطفلان يقفزان و يمرحان ويجريان يلعبان فوق الثلج في قرية بعيدة على جبال الارز اللبناني الشهير . في احد الايام دارت حرب على حدود القرية , لا يعرفان مصدرها ولا سببها , ركض شادي بطفولته الفضولية البريئة يستطلع الامر , صرخت يصوت ملهوف تناديه , وتردد صدى الصوت لكنه ضاع وسط ازيز الرصاص ودوي القنابل , و من يومها ما عاد شادي و ... ضاع شادي .
هذا ملخص القصة , وكلما سمعتها يسرح فكري , كم من شوادي بني عرب ضاعوا بين الارجل المتصارعين , في عصر ينقل فيه الاعلام دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء , دون ان تحرك هذه المناظر ضمائر الأمم المحبة للسلام . تعالوا بنا ــ دام فضلكم ــ نستعرض بعض الشوادي للذكرى فقط , فنحن امة سريعة النسيان . 
شادي الاول : طفل في الروضة , اخته شادية بعمر ثلاث سنوات , يعيشان مع والديهما في بيت متهالك انهكته السنون وايام الحصار , مكون من غرفتين وفناء صغير , هو متنفسهم الوحيد , بجانب الغرفتين كوّة صغيرة يطلقون عليها مجازا مطبخ , الوالد خارج البيت لبعض شانه , الوالدة تعد افطارا بسيطا كسرات من الخبز بقيت من عشاء الامس , صحن زيت وصحن زيتون وزعتر ( دُقة) , الطفلان في الفناء يتجاذبان لعبة من القماش صنعتها الام بيدها لتستعيض بها عن لعب السوق , الطفل هو يصرخ : دوري , والطفلة تقول : دوري , والوالدة من الداخل : دور دور يا حبايبي . فجأة هوى شيء من السماء , ولم تعد الام ترى البيت ولا الفناء , صاحت وتعثرت بين الركام والدخان, وتحسست فأمسكت بقطعة لحم ساخنة , تبينت فيما بعد انها قدم , ولكن لم تعرف هل هي لشادي ام لشاديا , وضاع شادي وضاعت شاديا . تناقلت وسائل الاعلام الحدث , وانفعل المذيع وبكي وتألم الناس للمنظر , وبعضهم غيّر القناة حفاظا على مشاعر ابنائه . شاهدت الامم المتحدّرة ــ اقصد المتحضرة ـــ الحدث فلم تهتز لها خاصرة , رغم انها هي التي وضعت ونظمت قوانين حقوق الطفل , واولها حقه في الحياة التي سلبت منه ؛ بحقد عدو او لتثبيت كرسي لا يملك صاحبها منها سوى خشبها . زمجر الساسة , ثم رفعوا الكؤوس وشربوا نخب السلام .
شادي الثاني : رضيع وديع ينام مطمئنا على صدر امه , لا يعرف من الدنيا سوى وجهها , لا رابط له مع الحياة سوى ثديها , في بيت متواضع في مدينة وادعة . فجأة وقبيل الفجر اشتعل البيت و... ضاع شادي . تبادل الساسة الاتهامات , زمجروا وارعدوا وابرقوا وارغوا وازبدوا , ثم رفعوا الكؤوس وشربوا نخب التنسيق الامني المقدس .
شادي الثالث حوصر حتى النخاع , اكل القطط واوراق الشجر , ثم اخذ جسمه يأكل جسمه , وجفت عروقه وانهكت قواه , وضعفت مقاومته شيئا فشيئا , وقبل ان يسلم الروح غطت سماء وطنه طائرات ما عرف مصدرها , القت حممها المسمومة , اشتعلت الارض حول شادي فلم يعثر له على اثر , و... ضاع شادي . لكنه قبل ان يسلم الروح عرف ان قومه هم من استأجروا هذه الطائرات . زمجر القوم واستنكروا , ثم ما لبثوا ان رفعوا الكؤوس وشربوا نخب التحرير .
اما شادي الرابع : فخرج من منزله الى البقالة لشراء قطعة من الحلوى لكنه لم يعد . قيل انه اختطف وقيل قتل , وقيل ربما دهسته سيارة , و... ضاع شادي . وزمجر الساسة وارغوا وازبدوا , ثم ما لبثوا ان رفعوا الكؤوس وشربوا نخب الامن والامان . 
و شادي الخامس : وجد ملقى على شواطئ احدي الدول الاوروبية , بعد ان لفظه البحر , اثر واحدة من الرحلات التي اطلق عليها (الهجرات غير الشرعية ) في قوارب او سفن غير مجهزة لذلك , بعد ان هرب من ازيز الرصاص وقذائف الدبابات وبراميل الطائرات , لم يستوعب عقله الصغير ما يحدث ؛ من مع من , او من ضد من , او من يقاتل من , او من يهادن من . غضبت الشعوب المتحضرة , ثم ما لبث المشهد ان اختفي وسط تزاحم المسلسلات التركية مع المباريات الكروية , و... غرق شادي . 
و شادي السادس : اضطرته الظروف ان يحمل السلاح ليقاتل بني جلدته , بعد ان دمرت مدرسته واحرقت كتبه وبعضا من ثيابه ,مزق وطنه شر ممزق , احرق الاخضر واليابس , لم تسلم المستشفيات ولا دور العبادة ومواكب الاعراس ولا حتى بيوت العزاء , و ... ضاع شادي على سفوح الجبال وبطون الاودية.
وشادي السابع والثامن ...والتاسع عشر , منهم من ضاع ومنهم من ينتظر , ولن تكون عاقبة احدهم بأفضل من عاقبة الاخر , وكلهم في الضياع شرق . 
شاديا ــ يا دام سعدكم ـــ هذه المرة طفلة في عمر بعض الورد , بنت الرجال واخت الرجال , وقفت متحدية صلف وجبروت اعتى قوة غاشمة ظالمة على وجه الارض , صرخت في وجه الظلام طالبة الحرية لأطفال العرب , والارض والمقدسات , القي القبض عليها واقتيدت للسجن , تنافخ الساسة شرفا وغضبوا وزمجروا , ثم رفعوا الكؤوس وشربوا نخب المقاومة السلمية . نظرت اليهم وفي عينها سؤال :انا شرفكم فهل ستتركونني اضيع ؟ 
يقال ان احد الشوادي في احدى البلدان الاتحاد الاوروبي تأخر ساعتين عن بيته بعد المدرسة , فاستنفرت الاجهزة الامنية فبها وفي كل البلدات المجاورة , ليجدوه في احدى الحواري يلهو مع قطة . خرج وزير التربية والتعليم يومها على الملأ , وقدم استقالته لأنه اعتبر ذلك مؤشرا على خلل في المنظومة التعليمية .
اقول في هذه البلدان قامت الدنيا ولم تقعد بسبب تأخر غلام ساعتين . تري ماذا كانت تفعل هذه الدول لو قصفت مدرسة عندهم وغيب المئات تحت الانقاض ؟ ولكن شوادي بني عرب رخيصو الثمن ولا بواكي لهم . طبتم وطابت اوقاتكم .

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 34 مشاهدة
نشرت فى 14 يناير 2018 بواسطة nsmat

مديحة حسن كاتب وشاعر

nsmat
شعر / خواطر / وطنيات / قصة قصيرة / اخري »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

191,773