جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
تـرامـب والـعـرب واللــعـــب عـلـي الــحـبـال
اللعب علي الحبال ، هي لعبة من ألاعيب السيرك ، تقتضي شد الحبال بين ثابتين ، متباعدين ، ومساحة فراغ تفصل ما بين الحبال المشدودة وأرض المسرح . وفي هذه اللعبة يصعد اللاعب إلي مستوي الحبال ، ثم يبدأ في إظهار مهاراته وقدراته ، أمام جمهور المتفرجين ، فينال التصفيق والإستحسان علي قدر إجادته اللعب من عدمه ، في المشي علي الحبال ، والركض عليها ، والتقافز فوقها ، وتركها في الهواء ، والعودة إلي الإمساك بها ، والرقص عليها ، والنوم عليها في أوضاع مختلفة ، وغير ذلك من الحركات ، التي تكاد من خطورتها توقف القلوب عن الخفقان .
وبالقطع فإن هذه اللعبة علي خطورتها علي حياة وسلامة اللاعب ، تتطلب تدريباً شاقاً ومكثفاً ، علي قدر من الحرفية والمهنية ، يكون من نتاجه تخريج لاعب بمواصفات احترافية ، يكتسب القدرة علي انتزاع الآهات من بين الضلوع . ومع هذا المستوي من الإحترافية ، فإن مخاطر اللعبة غير مأمونة ، الأمر الذي اضطرت معه إدارات المسارح التي تقدم هذا النوع من الألعاب ، إلي ربط اللاعب بحزام أمان ، يتدلي من السقف ، علي نحو يسمح بحرية الحركة ، وفي نفس الوقت يؤمن اللاعب من السقطات اللإرادية المحتملة ، وقد تمثل درجة أو أخري من درجات المخاطرة غير المأمونة .
وإن صحت هذه القواعد والأسس بالنسبة للعبة ، فإنها تصح بالضرورة بالنسبة لمجالات الجد ، بل وتكون لمجالات الجد من باب أولي . فإن استدعينا مجال العمل السياسي ، إلي المشهد المسرحي في ألعاب السيرك ، لوجدنا أنه يتطلب نفس القواعد والأسس والإحتياطات التي تحكم اللعبة ، وإلا ترتب عليه ما يترتب علي ألعاب السيرك من كوارث . ولذا لابد من أحزمة آمان تقي السياسي ـ كما تقي اللاعب ـ من السقطات اللإرادية المحتملة ، التي قد تمثل درجة من درجات المخاطرة غير المأمونة ، مهما بلغت درجة احترافيته .
والرئيس الأمريكي ترامب لا تنطبق عليه مواصفات لاعب السيرك ، إذ أنه لا يعدو كونه أحد المتفرجين ، الذين استهوتهم اللعبة ، فصعد فجأة إلي خشبة المسرح ، وارتقي السلالم ، وألقي بنفسه علي الحبال المشدودة ، متعلقاً بها ، أو زاحفاً عليها ، ومع كل حركة ينتزع آهات الفزع والإرعاب ، وهو يظنها آهات الإعجاب والدهشة والإنبهار . فهو أول رئيس أمريكي ـ إن لم يكن أول رئيس علي الإطلاق ـ يأتي إلي سدة الحكم ، وهو غير مرغوب فيه ، من شعبه . وقد جوبه يوم اعلان فوزه ، بموجة عارمة من السخط والإحتجاج ، والنزول إلي الشوارع تظاهراً ضده ، واعتراضاً عليه ، هذا بخلاف الأصداء الدولية ، باعتبار المكانة الدولية لبلاده ، والخطورة التي ينطوي عليها انتخابه .
وقد استبشر بعض العرب خيراً بقدومه ـ وأنا منهم ـ لا باعتبار قدراته ، ولا بالتغيرات الدراماتيكية التي يمكن أن يحدثها بإطلالته المتغطرسة ، وإنما لاعتبار وحيد ، وهو الخلاص من فترة حكم الحزب الديمقراطي ، برؤسائه المتعاقبين عليه في السنوات الأخيرة ، وإصرارهم علي استكمال مخططات تفتيت المنطقة . واستبداله بالحزب الجمهوري رغم انيحازه تاريخياً ، إلي اليهود ودولة إسرائيل .
إذن فهو بطة عرجاء في السياسة الأمريكية من أول يوم ، نظراً لشعبيته المتدنية من ناحية ، والبدء في تآكل شعبيته فيما بين ناخبيه من ناحية أخري . نظراً لتخبط سياساته الداخلية ، وعجزه عن الإلتزام بوعوده الإنتخابية ، بل واتخاذ إجراءات وقرارات عكسية بشأنها . وعلي المستوي الدولي تبخرت مواقفه من الإتحاد الأوروبي ، ومواقفه من قضايا الإرهاب ، والدول الراعية له ، وموقفه من إيران .
والسيد ترامب يواجه بتآكل في شعبيته في قاعدته الإنتخابية ، وأغلبيتها من المسيحيين الإنجليين ، الذين يؤمنون بعقيدة توقف عودة السيد المسيح ، علي بناء هيكل سليمان ، وقيام مملكة إسرائيل . وهو في نفس الوقت يواجه بانتخابات التجديد النصفي لمجلس الشيوخ منتصف العام القادم ، فلو صدق علي قانون اعتبار القدس عاصمة لدولة إسرائيل ، لحاز أصوات قاعدته الإنتخابية ، ولأنقذ ما يمكن إنقاذه ، من الخسارة المتوقعة له في مجلس الشيوخ . لأنه يدرك أن خسارته تلك ، ستقدمه لقمة سائغة ، يلوكها بسهولة ويسر ، من يرغب في ذلك ، خلال الفترة المتبقية له ، في عالم السياسة .
ولديه شعب برجماتي لا تشغله شئون العالم ، وإنما ينشغل حتي أذنيه بمصالحه الشخصية . وقد لا تستغرق قضايا الصراع العربي / الإسرائيلي من تفكيره ، سوي بضع دقائق . ومن ثم فإن قرار مثل قرار القدس ، لن ينشغل به أحد . وإن كان له من تأثير ، فسيكون إيجابياً لصالح القرار ، لأن الصورة الذهنية عن العرب والمسلمين لدي المواطن الأمريكي سلبية وقاتمة .
كما أن العرب والمسلمين ، ليس لديهم لاعب سيرك احترافي ، وفي ذهن الآخر ، مجرد ظاهرة صوتية ، تملأ الأرض ضجيجاً وصراخاً ، وفقط . دون أن يكون لهم فعل ، ولا قدرة علي الفعل ، ولا رغبة فيه . إنهم من وجهة نظرالآخر مدفوعين بالغرائز ، تبدأ متوترة عنيفة ، ثم سرعان ما تخبو جذوتها ، وتنطفيء وتموت . ومن ثم فإن العرب مأمونين الجانب ، ليس لهم شوكة ولا ظهيراً . مظاهرات هنا ، ومظاهرات هناك . إجتماعات هنا ، واجتماعات هناك . قرارات شجب وإدانة واستهجان ، وتحرك علي منظمات دولية بالمناشدة ، وطلب النصرة . بعد ذلك ينام الجميع قرير العين ، مرتاح البال والضمير ، إلي أنه قد فعل كل ما عليه وزيادة .
كل ذلك في إطار الرفض المطلق للقرار ، الذي كان أمام أعيننا لـمدة 22 عاماً ، ولم نحرك ساكناً ، بخلاف تناول المسكنات الأمريكية ، بأن القانون تحت السيطرة . ولم نكلف خاطرنا بمناقشة القانون ، والعمل علي الخلاص منه ، ولو أنفقنا ما أنفقناه علي تمويل العمليات الإرهابية علي عملية الخلاص ، لتخلصنا من أدرانه من جذورها . ويبقي السؤال : هل نملك حل القضية بالمظاهرات ؟ . وهل لدينا القدرة علي انتزاعها عسكرياً ، سواء كنا متفرقين أو مجتمعين ؟ . وهل لدينا القدرة علي تجميع العرب والمسلمين ، علي صعيد واحد ، لصف القضية ؟ . وهل لدينا القدرة علي اكتساب التعاطف الدولي إلي جانبنا ؟ . وهل لدينا الفرصة ـ أي فرصة ـ لدفع ترامب إلي التراجع عن قراره ؟ .
ومع ذلك ، فما لا يدرك كله ، لا يترك كله ، والقانون قد اعترف بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل ، إلا أنه لم ينكر علي الفلسطينيين حقهم في اعتبار القدس الموحدة عاصمة لدولة فلسطين ، وتصبح بذلك مدينة القدس عاصمة موحدة للدولتين ، كمخرج قانوني وسياسي للمعضلة ، يتم التفاوض بشأنه ، في إطار حل الدولتين ، وذلك كبديل عن حالة التخبط التي نعيش في غياهبها إلي الآن .