جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
حــســـــن زايــــــــــــد .. يـكـتـب :
مـنـاوشـــات الـفـيـلـســـوف والــشــــيـخ
لم يعد اليوم شبيهاً بالبارحة ، وأصبح البون بينهما شاسعاً ، إلي حد أنه يمكنك القول ، بأن الحاضر قد نسف البارحة نسفاً ، فتركها قاعاً صفصفاً ، لا تري فيها عوجاً ولا أمتاً . وكأن البارحة قد سقطت من ذاكرة الأمة ، أو أن ذاكرتها قد تعددت فتوقها ، واستعصت علي الرتق ، فلم تعد قادرة علي لَملمة شعث الأمس واليوم . ولعلك تلمس ذلك بأناملك ، وتشم رائحته بأنفك ، وتراه بأم عينك ، حين تحاول المقارنة بينهما .
ففي النصف الأول من القرن الماضي كانت الحركة الثقافية المصرية في أوجها . وكانت صفحات الصحف والمجلات تعج بالمناظرات الفكرية ، والمعارك الأدبية ، والمناوشات السياسية . هذه الإشتباكات الفكرية كانت تؤدي ـ عن قصد أو غير قصد ـ إلي التنوع والثراء الفكري ، والتلاقح التوليدي فيما بينها ، فضلاً عن تشكل خمائر الأفكار .هكذا كانت البارحة .
أما اليوم فقد جاء مختلفاً . فقد أصبحنا نسمع عن أيام الزمن الجميل ، حين يأتي ذكر الأمس ، ويطل علينا من نافذة الغيب بعبقه ، فيتبدد أمامه غث اليوم ، وينزاح . فلم تعد هناك تلك المناظرات ولا المعارك ولا المناوشات ولا الإشتباكات ، ليس عن ترفع وتسامي ، وإنما عن ضحالة وشقشقة . ولم يعد هناك تنوع ولا ثراء ، ولا تلاقح ولا خمائر . لقد بلغت الضحالة حداً وجدنا معه حاملي رسائل الماجستير والدكتوراه ليسو بالضرورة باحثين . لأن هذه الرسائل أصبحت تباع وتشتري في مكتبات معروفة ، مقابل مبالغ مالية معينة . بل إن أسئلة لجان المناقشة كانت من ضمن المشتريات ، لزوم استكمال شكل المناقشة . وبهذه الرسائل يتم الحصول علي شهادات علمية ، وبها يجري تصدر المشهد السياسي والإعلامي ، ومزاحمة أصحاب الفكر والرأي .
وبمقارنة بسيطة بين أبناء البارحة وأبناء اليوم ، ستجد بوناً شاسعاً في لغة الحوار ، ولغة المناقشة ، والمفردات المستخدمة . ففي أبناء البارحة ، ستجد رقياً وتسامياً ، وعمقاً في الأفكار، وعرضاً قائماً علي بسطها ، ومنطقتها ، وإقامة الأدلة والبراهين عليها . أما اليوم فتسصدمك ـ وتصك أذنيك ـ المفردات المستخدمة ، ولن تجد فيها ما يمكن اعتباره فكراً أو ثقافة ، تقود دفة سفينة الوطن ، وتمس قضايا المجتمع .
وقد دفعني إلي بسط القول في هذا الأمر ، المناوشة الفكرية ، التي وقعت بين المفكر الدكتور / زكي نجيب محمود ، والشيخ الإمام / محمد متولي الشعراوي ، وقد قصها الدكتور/ زكي نجيب محمود ، في كتابه الذي يحوي مجموعة من مقالاته ، وقد عنونه بقيم من التراث . وقد وضع عنواناً لمقالته : .. ويبقي الود ما بقي العتاب . وقد أثني الدكتور علي الشيخ في مستهل مقالته الثناء الجميل الذي يليق بالشيخ ومكانته وقدره ، ثناء المقر بالفضل . ثم ذهب إلي القول بأنه قد مضت أعوام وهو يسمع عن الشيخ ، ولا يسمع منه ، وقد أرجع ذلك إلي استخدام الشيخ للتلفاز، وهي أداة متابعتها مرهونة بالصدف .
ثم أخذ يحكي عن اللقاء الأول بينهما ، حيث كانت المواجهة في صحيفة يومية . كتب الشيخ يدافع عن حديث الذبابة ، شافعاً رأيه بمراجع لعلماء ألمان ، وقد وجد الدكتور نفسه لا يستسيغ الأمر ، فنشر قرطاسه ، وحمل قلمه ، وكتب رداً ساخراً عنونه بـ : " ذبابة تعقبتها ".
أما اللقاء الثاني فقد حدث عندما شعر المفكر الفيلسوف ، أن الشيخ قد ملأ الدنيا ، وشغل الناس ، فأصبح واجباً ثقافياً محتوماً ، أن يتابع أحاديثه التلفزيونية ، دون تركها للمصادفات . فشاهد الشيخَ أربع أو خمس مرات متتاليات . بعدها أعجب به إعجاباً شديداً ، وقدم البراهين والأدلة علي ذلك . إلا أن ذلك لم يحل بينه وبين إعلان رؤيتة المختلفة مع الشيخ ، والمتمثلة فيما لا حظه من عدائه الشديد للعلم الحديث . مع أن شروحه للآيات القراآنية لا تزداد وضوحاً بهذا العداء .
كان المفكر والفيلسوف يدون ملاحظاته حول تلك القضية ، ثم يضعها في مقالات منشورة . وهنا تتبدي الأخلاق الرفيعة للإختلاف بين الرجلين : فالفيلسوف كان يشير في مقالاته إلي الشيخ بعبارة : " الشيخ الجليل " دون ذكر اسم الشيخ ، فهو قد رأي أن نقد الفكرة لا يقتضي بالضرورة ذكر الإسم ، وأن المسألة ليست نزاعاً بين أشخاص ، وإنما نقد لأفكار ، وكل يؤدي واجبه في عرض فكره ، فيما يعتقد أنه صواب .
أما الشيخ الجليل ، فقد رد بمقال نشرته جريدة الأهرام القاهرية ، يشكر فيها الفيلسوف ، لأنه قد هيأ له الفرصة لشرح فكرة قد تكون غامضة علي بعض الناس . واستطرد قائلاً : " وأنا لا أشك أنه قصد ذلك ـ أي توضيح فكرة عدائه للعلم للناس ـ لأني أجله إجلالاً يرتفع به أن يكون قد فهم مني ما فهم " .
وقد مضت بالرجلين الأيام ، يتكلم كل منهما لغة غير تلك التي يتكلم بها الآخر ، وكلاهما يريد للناس خيرا ، كل بطريقته . حتي رحلا سوياً إلي جوار ربهما ، وتبقي المناوشة التي وقعت بينهما درساً تتلمذ عليه الأجيال القادمة .