من الصعب القبول بالقول بأن التطرف والإرهاب ، الذي نشهده علي أيدي الجماعات المتطرفة ، كان نتاجاً طبيعياً للعذابات التي فاقت حد التصور البشري ، التي تعرض لها هؤلاء ، في سجون عبدالناصر . وذلك لسببين : السبب الأول ـ أن هناك مجموعات أُخر من غير الجماعات المتطرفة ، عاشوا نفس الظروف ، والمناخ ، وتعرض أعضاءها لنفس العذابات ، ومع ذلك لم نشهد من أحدهم تطرفاً ، أو إرهاباً ، أو خروجاً علي الدولة ، أو كفراً بالمجتمع ، أو تكفيراً له ، أو استحلالاً لدم افراده ، علي نحوما فعل أعضاء الجماعات المتطرفة . هذا بفرض التعرض للتعذيب ، علي نحو ما جاء من وصف للتعذيب الوحشي ، في كتب الإخوان ، أو الجماعات المتفرعة عنها ، أو المنشقة عليها . السبب الثاني ـ ويتمثل في الإجابة عن تساؤل مؤداه : كيف تجتمع أجواء الجحيم التي صوَّرت لنا داخل معتقلات عبد الناصر ، وأجواء التعليم ، والتثقيف ، والكتابة الحاصلة لمن داخل هذه المعتقلات ؟ . فبعض الوقت ينقضي في التعذيب ، والأعمال الشاقة ، وبعض الوقت ينقضي في الإستشفاء من الألام ، والجروح ، الناجمة عن التعذيب ، والبعض الثالث ينقضي حتماً وبالضرورة في النوم ، كحاجة بيولوجية ، لا يمكن الإستغناء عنها كل الوقت . فمتي كانوا يتحصلون علي المعارف ؟ فالقراءة ، والكتابة ، وتدوين الملاحظات ، وتلقي الدروس ، كل ذلك لابد له من وقت ، وفوق الوقت لابد له من غفلة ، من السجانين والجلادين ، المتوحشين . هذا بخلاف حتمية توافر الكتب ، والأوراق ، والأقلام . فمتي ، ومن أين ، وكيف ، تيسر لهم كل ذلك ؟ . أعتقد أنه من الصعوبة بمكان ، الجمع بين الأمرين ، علي شخص واحد ، في مكان واحد ، في وقت واحد . والثابت ومدون في كتابات التأريخ لهذه الجماعات ، أنهم تحصلوا علي المعارف ، والثقافات ، وألفوا الكتب ، والمجلدات ، داخل سجون عبد الناصر . وأن الدعوة لأفكارهم، والترويج لها ، كانت تتم داخل أقبية الزنازين الناصرية . وأنا لا أسوق هذا من باب إنكار التعذيب ، وتبرئة نظام عبد الناصر من اقترافه ، وإنما أسوقه للإستدلال من خلاله ، علي أن التعذيب ، الذي ربما يكون مزعوماً ، ليس هو العلة الأصيلة ، والوحيدة في الإنحراف الفكري ، الذي أصاب هذه الجماعات ، في تعاطيها للقضايا الدينية ، والتي ترتب عليها ، تحميل الدين ، بما ليس فيه ، من أوزار هذه الإنحرافات . فشكري مصطفي تتلمذ ـ حين تتلمذ ـ علي يد الشيخ الأزهري الإخواني / علي اسماعيل ، داخل ليمان طرة . وعندما توفر علي كتب / سيد قطب ، وأبو الأعلي المودودي ، توفر عليها داخل زنزانته . وبالقطع لم يكن شكري مصطفي الوحيد دون بقية الشباب المسجونين ، الذي تلقي الدروس علي يد الشيخ ، داخل الليمان . ومع أن الشيخ الأزهري قد تراجع عن فكره ، وأعلن أوبته عنه ، إلا أن الشاب العنيد ـ شكري مصطفي ـ الذي كان متحمساً لفكر شيخه ، أصر علي الإستمساك بهذه الأفكار ، وتلك التصورات ، وبلغ به الأمر مبلغه ، حين ذهب إلي تكفير شيخه ، بعد تراجعه عن انحرافه الفكري ، وتبوأ مقعده من الإمارة . وهذا أيضاً تم ، وجرت وقائعه داخل ليمان طرة . وانكب شكري مصطفي علي الكتب والمراجع القديمة ـ داخل ليمان طرة ـ ينهل منها أفكار الخوارج ، وتصوراتهم ، وأصولهم ، ونشأتهم . وتوقف علي كيفية محاوراتهم لخصومهم من أهل السنة والجماعة ، وأُعجب بها . فالتف حوله شباب المسجونين ، وأعجبوا به ، وبأفكاره الجديدة ، التي مثلت من وجهة نظرهم ، ثباتاً علي الحق ، وتمييزاً لأهل الحق ، وأهل الباطل . فضلاً عن اعتبارهم نشره لهذه الأفكار داخل السجن تمثل نوعاً من الشجاعة تستدعي الإعجاب ، فضلاً عن استهانته واستخفافه بقوة الطاغوت . من هؤلاء الشباب كون شكري جماعته ، وأسماها جماعة المسلمين ، وذلك في أواخر 1970م . وتم الإفراج عنه ـ وآخرون ـ سنة 1971م . ومن هنا اتسع نشاط جماعته ، واشتد عودها ، وكثر أتباعها ، وشبت عن الطوق ، كما رأت في نفسها . اشتد الصراع بينها وبين غيرها من الجماعات الإسلامية ، التي بدأت تتشكل ملامحها ، بعد الإفراج الساداتي عن جماعة الإخوان ، إلي حد الذهاب إلي تكفيرها جميعاً . وبظهور هذه الجماعة إلي النور ، ظهرت معها أفكار الخوارج بشر يمشون علي الأرض . ورغم أن القرار الساداتي بالإفراج عن الإخوان وتفريعاتهم ، قد شابه العديد من الملابسات التي أحاطت به ، إلا أنه قد ظهر له فيديو مسجل لأحد خطبه ، التي يخطيء فيها نفسه ، حين اتخذ قرار الإفراج . وقد ذهب اللواء فؤاد علام ـ أحد القيادات الأمنية في مصر ـ في كتابه : " الإخوان وأنا " إلي القول بأن السادات حين وقع قرار الإفراج ، كان يوقع قراراً باعدامه .
نشرت فى 21 إبريل 2017
بواسطة nsmat