لم يكن قد مضي علي عودة الدكتور المشد من رحلته من النرويج الكثير ، فما إن عاد في 1966 م ، حتي وقعت هزيمة 1967م ، التي أصابت كل شيء في الأمة المصرية بالجمود والصدمة ، بلغت حد أن وصف أحد المراسلين الأجانب موت عبدالناصر في 28 سبتمبر 1970م ، بأن عبد الناصر مات في 5 يونيه 1967م . فقد جري تجميد كل شيء في الدولة المصرية لصالح المجهود الحربي ، وإعادة بناء القوات المسلحة ، وبدء حرب استنزاف مستمر للعدو ، حتي لا يستقر في مقامه بسيناء ، ولا يهنأ به ، وحتي لا تصاب الروح المعنوية للشعب بالشيخوخة والخوار والإستسلام للهزيمة ، وحتي لا تهيمن الروح الإنهزامية علي أفراد القوات المسلحة ، ويفصل بينهم وبين تحرير الأرض ، حاجز الخوف من العدو ، الذي قيل عنه في حينه ، أن جيشه لا يقهر ، وأن له يداً طولي ، تأتي علي كل هدف تتغيا ضربه وتدميره . وأُعلنت التعبئة العامة لصالح المجهود الحربي . في هذه الأثناء ، وفي تلك الظروف غير المواتية ، جري ترقية الدكتور المشد إلي منصب رئيس الهندسة النووية بجامعة الإسكندرية ، وهو لم يجاوز 36 عاماً من عمره . وهي مكانة كافية لإشباع الغرور العلمي والإداري لدي الكثيرين ، فكان يكفيه الإشراف علي الرسائل العلمية التي تجري في قسمه ، ويقوم بعمل الأبحاث الخاصة به ، علي المستوي النظري ، شأنه في ذلك شأن االألاف من الدكاترة ، الذين يكتفون بأبحاث الترقية ، وأعمال التدريس للطلاب ، وجدول المحاضرات ، والمستحقات المالية ، دون أن يكون له مشروع علمي معين ، يعمل عليه ، ويصل الليل بالنهار ، حتي يصل فيه إلي مبتغاة . الدكتور المشد لم يكن كل هؤلاء ، لأنه عالم لديه مشروع علمي يقلقه ، وحلم يؤرقه ، في هذا السن المبكر ، ومع ذلك ظل عاكفاً علي عمله ، آملاً في انقشاع الغمة ، وزوال الملمة ، وتحرير الأرض ، وعودة النهوض من الكبوة ، وإعادة العمل بالطاقة النووية إلي سابق عهده ، ومعه تعود أسباب الحياة . نشبت معركة الإستنزاف ، وأثناءها مات الرئيس الراحل / جمال عبد الناصر ، الرجل / الحلم . وقد تولي نائبه مقاليد الحكم ، وجاءت حرب أكتوبر سنة 1973م كمقدمة لتحرير الأرض والإرادة ، والتحرر من الخوف وهواجس الهزيمة ، وقطع اليد الطولي للعدو . ورغم عظمة نصر أكتوبر ، وعظمة نتائجه ، علي المستوي العسكري ، إلا أنه قد أحدث حالة من الإرتباك في خيارات الشعب المصري ، علي المستويات السياسية ، والإقتصادية ، والإجتماعية . فقد جري إعلان أن حرب اكتوبر هي آخر الحروب ، وأن أمريكا في يدها 99% من أوراق اللعب ، وإعلان الإنفتاح الإقتصادي / الإستهلاكي ، والتحول من نظام الإتحاد الإشتراكي ، إلي نظام التعددية السياسية / الشكلية متمثلة في نظام المنابر ، ثم تحول المنابر إلي أحزاب . كل ذلك دون أن يعطي النظام القائم للمجتمع المصري فرصة لالتقاط الأنفاس ، والتحول التدريجي من حال إلي حال . وجميعها مؤشرات ، تؤدي في محصلتها إلي القول ، بأن القيادة السياسية لم يعد يشغلها مشروع الطاقة النووية ، ولم يعد من أولوياتها . الأمر الذي أصاب الكثيرين من الكوادر العلمية المصرية بالإحباط ، خاصة بعد إعلان توجه مصر إلي السلام سنة 1977م . وكل ذلك كان يمكن تنفيذه دون تحييد المصالح الإستراتيجية للدولة المصرية . وقد كان من نتائج حرب أكتوبر الإرتفاع الجنوني في سعر النفط ، الأمر الذي حدا ببعض الدول المصدرة للنفط ، الإستفادة من التدفقات المالية المنهمرة علي خزائنها ، لتمويل خطط تنموية طموحة . وكان من بين هذه الدول ، دولة العراق بقيادة الرئيس أحمد حسن البكر ، ونائبه صدام حسين . حيث قامت العراق بوضع خطة تنمية شاملة ، أطلق عليها في أدبيات السياسة العراقية اصطلاحاً : " خطة التنمية الإنفجارية " . وفي عام 1974م وصل الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان إلي سدة الحكم ، وكان النائب صدام حسين في زيارة لفرنسا عام 1975م ، وكان علي جدول الزيارة مقابلة رئيس الوزراء الفرنسي ـ الرئيس فيما بعد ـ جاك شيراك . وفي جولة بصحبته ، تفقد صدام مركز الطاقة النووية ، وجري توقيع اتفاق في نهاية الزيارة . وفي نفس العام زار شيراك العراق ؛ لإتمام صفقة بناء مفاعل نووي، يعمل بالماء المخفف ، واليورانيوم المخصب بنسبة 93% ، للأغراض السلمية ، في إطار معاهدة تعاون استراتيجي بين البلدين . وقد كان الدكتور المشد قد تم استعارته من جامعة بغداد لمدة أربع سنوات . وعرف بعبقريته بين زملائه ، الأمر الذي دفع بالدولة العراقية إلي الإستمساك به ، وقد عرضت عليه أن يطلب في سبيل بقائه أي شيء يريده . خاصة وأن صدام كان يطمح إلي تحقيق أهداف كبري ، من خلال برنامج نووي متكامل للأغراض العسكرية . فطلب العمل في مؤسسة الطاقة الذرية العراقية ، إلي جانب التدريس لبعض الوقت في كلية التكنولوجيا . ومن هنا جاء عقد العمل للدكتور المشد . ومن هنا كانت موافقة السلطات العراقية ؛ باعتبار أن المشد من العلماء القلائل البارزين في مجال المشروعات النووية . ومن هنا كذلك كانت موافقة الدكتور المشد ؛ باعتبار أن العرض العراقي ، يوفر له الإمكانيات اللازمة ، والأجهزة العلمية المطلوبة ، والإنفاق السخي علي المشروعات النووية . . وها هو نفس الحلم يتحقق ، ونفس الأمل يعود من جديد ، ويعود مجدداً إلي البحث العلمي الجاد ، ذلك المجال الذي أبدع فيه . تلاقت الإراداتان علي ذات الهدف ، فكان سفره إلي العراق .
نشرت فى 8 إبريل 2017
بواسطة nsmat