جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
رحلت كما عاشت ، في صمت وهدوء . ربما لأن هذا سمة العلماء ؟ ! . جاءت من الصعيد إلي القاهرة ، من بيئة منغلقة ، فيما يتعلق بعالم المرأة ، بحكم التقاليد والعادات ، المنصبغة بصبغة دينية ، إلي بيئة منفتحة ، متحللة من صرامة التقاليد والعادات . انصهرت العالمة الفذة في هدفها ، والذي علي أساسه بنت استراتيجية حياتها ، وفلسفتها . لقد أقامت حياتها علي فلسفة واضحة ، حيث ذهبت في تصويرها إلي القول : "الناس صنفان، صنف يفضل أن يكون ترسا في ماكينة دائرة بالفعل، وصنف أخر يكافح من أجل أن يصنع الماكينة، وأنا صنعت مصنعا بالكامل" . إنها أسطورة النانوتكنولوجي .. مني بكر . صاحبة أول شركة نانوتكنولوجي في مصر والعالم العربي . أشرفت علي أكثر من مائة رسالة ماجستير ودكتوراه . كان يتردد عنها أنها : " الدكتورة التي ذهب العلم بعقلها وأنساها الدنيا ". كانت تقول في معرض دفاعها عن علماء مصر : "الباحثين في مصر لم يتعلموا كيف يربطوا بين الأبحاث على الورق وبين احتياجات المجتمع ، فيرفضها صندوق التنمية للعلوم التكنولوجية الذي لا تقل ميزانيته عن 500 مليون جنية سنوياً ، لذلك تتحول أغلب الأبحاث والاختراعات العلمية لورقة في السيرة الذاتية محفوظة ببراءة اختراع" . وتضيف : "خارج مصر يستطيعون أن يخرجوا الأفكار من الورق للمصنع ، وهذا ما ينقصنا فقط ، وهذا ما أسعى لعمله وعلى الأقل مصنع لعمل ماكيتات ونماذج صغيرة لأبحاث العلماء المصريين حتى نجرب نتائجها ونكبر ما يستحق منها". ومن هنا أسست مدرسة علمية كبيرة ، تضم أكثر من43 طالبا للدراسات العليا، وتعمل في تصنيع وتوصيف المواد النانوية وتطبيقاتها المختلفة في الخلايا الشمسية ، وتنقية المياه وتحلية المياه والتطبيقات الطبية الحيوية. وكانت تحلم بمشروع تصنيع قش الأرز ، وتحويله إلي ورق . وكان لها أربع براءات اختراع دولية ، فضلاً عن أكثر من 56 مقالة علمية منشورة في مجلات علمية دولية محكمة . وقد كان يتم ـ ولا يزال ـ الإستعانة بدراساتها كمرجعية دولية ، والإستشهاد بها في الأوراق البحثية ، وقد تم الإستشهاد بأبحاثها أكثر من 1800 مرة . وقد احتلت الرقم 20 في قائمة العلماء المرجعيين في مجالها ، وفقاً للمؤشر الدولي لتصنيف العلماء طبقاً لتخصصاتهم . وأنا هنا لست بصدد تسليط الأضواء علي الجانب العلمي ، فلهذا أهله . وما يشغلني بحق الجانب الإنساني في حياتها القصيرة . فقد طلقت حياتها الإجتماعية طلاقاً بائناً ، ودخلت في سباق محموم مع الزمن في مجال العلم . ورغم مكانتها العلمية ، لم تحصل علي جواز سفر دبلوماسي ، ولم تمر من صالة كبار الزوار، ولم تحجز علي مقاعد الدرجة الأولي . فجأة أصيبت بمرض نادر ، ينهي حياتها بعد أربعة شهور فقط . رفضت أن تتابع علاجها خارج مصر قائلة : " أثق بعلماء وطني، حتى وإن مت أموت بوطني " . وفي كلماتها رسالة لا تخفي . والبكاء علي العالمة المصرية هو بكاء علي اللبن المسكوب ، ليس انتقاصاً من قدرها أو مكانتها ، وإنما جرس إنذار لابد من إطلاقه في الدولة الجديدة . والأمر له أبعاد حتي يدرك من جوانبه ، البعد الأول : ويتعلق ـ كما ذهبت العالمة المصرية ـ إلي عدم تعلم الباحثين المصريين كيفية الربط بين الأبحاث علي الورق ، واحتياجات المجتمع . البعد الثاني : عدم توفير البيئة العلمية المناسبة بما في ذلك قضية التمويل . البعد الثالث : ويتعلق بحالة المكايدة العلمية ، التي تقع بين الدكاترة في البيئة الجامعية ، ومحاربة النابغين ، وتعويقهم . البعد الرابع : ويتعلق بكفالة الدولة للعلماء ، ورعايتهم علي نحو خاص اجتماعياً واقتصادياً . البعد الخامس : وهو البعد الذي نفتقر إليه بشدة ، وهو البعد الأمني ، إذ لابد أن تكون هناك منظومة أمنية محكمة ، تستهدف تأمين هؤلاء العلماء ، بما يحفظ عليهم حياتهم ، وأبحاثهم ، ومعاملهم . فقد تلاحظ للمتابعين أن علمائنا النابغين علي المستوي الدولي يتعرضون للقتل في ظروف غامضة ، أو يصابون بداءات نادرة تنهي حياتهم . والأمر لا يخلو بحال ـ ولو بنسبة ضئيلة ـ من مؤامرة ، في تلك المنطقة ، التي لا تبعد عنها أعين أجهزة استخباراتية معادية ، وتمتد إليها يدها ، سواء بالإغتيال ، أو باستخدام الحرب البيولوجية . فإذا لم نلتفت إلي هذه الأبعاد ، فسنبقي في ذيل الأمم نجتر حضارة بائدة ، ونتسول لقمتنا من الغير . وبذا يكون العلم الذي خلفه هؤلاء العلماء ، قد ذهب أدراج الرياح ، ويبقي الصمت الذي لف حياة عالمتنا ورحيلها ، مطبقاً علي أبحاثها وتلاميذها ، ومطبقاً كذلك علي حياتنا .