نسمات مديحة حسن

شعر / خواطر / قصة قصيرة / وطنيات

لا أجيد الكتابة الساخرة ، ولا أستسيغها في مواقف الجد ، وإن كان الشعب المصري معلوم من طباعه ،أنه يلتجيء إلي السخرية اللازعة ، التي تقطر مرارة ، للتعبيرعن أنكي المواقف التراجيدية ، التي تصدمه . وأعتقد أن كوميديا الموقف ، تتولد غالباً نتيجة المفارقة المفجعة ، بين الموقف التمثيلي ، والموقف الواقعي . وفي هذه المرة ، وجدتني مرغماً علي إدارة دفة تفكيري وجهة أخري ، بعيداً عن المسرح الذي تنتهي مشاهدة بمجرد إسدال الستار. وانتقلت إلي الزاوية الواقعية وعندما تتحرك الكاميرات قليلاً ، وتتحرك معها الأضواء ، بعيداً عن خشبة المسرح ، وينسدل الستار علي المشهد التمثيلي . وتتوجه بقعة الضوء ، مصحوبة بعدسات الكاميرات ، إلي تلك الزاوية ، المظلمة ، الضيقة ، الرطبة من الحياة ، إلي حيث يوجد رجل ـ نموذج ومثال ـ ضاقت به الأرض بما رحبت ، وضاقت عليه نفسه ، وتقطعت به سبل الحياة . يقف عاجزاً ، مكتوف اليدين ، قليل الحيلة ، في مواجهة نجله الصغير ، وهو يطلب منه في تذلل ، قطعة من الشيكولاته ، تلك التي يراها في إعلانات التلفاز ، التي تدق عظامه الصغيرة ، ليل نهار، اشتهاءًا لها ، وذلك الزخم من إعلانات أصناف ، رأي فقط أغلفتها ، من خلال الشاشة الفضية ، وهي تلح عليه إلحاحاً عجز عن احتمال وطأته . وهو يري في ذات الإعلانات أطفال مثله ، وهي تلتهم هذه الأصناف بتلذذ ونهم . وتتضخم في رأسه أسئلة ، وعلامات استفهام وتعجب ، تضخماً سرطانياً ، لم يستطع احتماله ، فما وجد بداً من مواجهة من كان سبباً في استدعاءه للحياة ، واجه أبيه بطلبه ، ورغبته ، وحاجته إلي الإشباع . وفي كل مرة ـ وإزاء العجز عن الإستجابة ـ ينهره أباه ، وينهاه . وفي كل مرة ، يطوي الطفل دمعته بين أجفانه ، وينصرف قهراً . وليذهب علم النفس وأصول التربية ومناهجها إلي الجحيم . ولتذهب الإنسانية وقيمها إلي حيث تستحق . وما بين الطفولة المعذبة بلهيب الحرمان والجوع ، والأبوة المنكسرة المقهورة العاجزة ، تربض هناك عين راصدة ، تلتقط كل حركة وسكنة ، لكل شاردة وواردة ، وتعد عليها أنفاسها ، وصمتها وهمسها ، إنها كاميرا المراقبة . آلة من صنع الإنسان ، لمراقبة الإنسان ، وهي لا تعرف للإنسانية سبيلاً . التقطت الرجل الخائف المرتجف ، مدفوعاً بحمي الإلحاح والحاجة ، التي أصابت طفله الصغير ، وكرابيج العيون المتوسلة ، تلهب جوانب نفسه البشرية الضعيفة ، العاجزة ، وتطارده أينما حل أوارتحل ، في نومه ويقظته . التقطته الكاميرات وهو يمد يد مرتعشة مذعورة ، وعيون الكون تحاصره ، إلي علبة الشيكولاته ، والتقط منها قطعة واحدة ، وأخفاها بين طيات ملابسه ، ولسانه يلهج بالدعاء بالستر والسماح ، والدم يهرب من عروقه ، كم ودَّ لو أن الأرض ابتلعته ، وأخفته عن العيون المحاصِرة ، أو أن قدميه حملته ، تسابق به الريح ، قبل أن يُدرك وجوده أحد ؟ ! . وما هي إلا هنيهة حتي وجد نفسه فريسة بين أيادي غليظة ، ذات أظافير معكوفة ، تتناوشه من كل حدب وصوب ، لأناس انزرعوا للتو في المكان . وألسنة حداد تسفعه بأقذع الألفاظ . كم تمني لو تنخسف به الأرض، فلا يبقي له من أثر ولا ذكري ، سوي تلك الصورة الكريمة ، التي انطبعت عنه في وجدان ولده . تشبثت به الأيادي ، كما لو أنها قد ظفرت بصيد سمين ، وهو مستسلم لقدره ومصيره المحتوم . وسحبوه من قفاه ، ما بين لطم ، ووكز، وركل ، ونخز ، حتي وصلوا به إلي قسم الشرطة . وألقوه متكوماً أمام الضابط ، خائر القوي ، منقطع الأنفاس . وبعد المقدمة ، وفتح المحضر ، وأخذ الأقوال ، واعتراف المتهم ، بقيامه بسرقة قطعة شيكولاته ، من أجل ابنه الصغير، وأنه لا يملك نقودا تكفي لشراء ما سرق ، وبتفتيشه ، عثر بحوزته علي مبلغ وقدره فقط 75 قرشاً لا غير . أقفل المحضرعلي ذلك في ساعته وتاريخه بعد إثبات ما تقدم ، وقد أرفق به الحرز بعد معاينته ، وإثبات أوصافه ، وأنه عبارة عن قطعة من الشيكولاته المغلفة ، محددة الماركة التجارية . وأحيل المتهم إلي النيابة العامة للتحقيق ، وأمام النيابة اعترف المتهم ـ والإعتراف سيد الأدلة ـ بأنه قد إقترف جناية السرقة ، وأن محتوي الحرز هو ما قام بسرقته . وقد أمرت النيابة بإخلاء سبيل المتهم بسرقة قطعة الشيكولاته من " سوبر ماركت " لنجله ، من سراي النيابة ، بضمان محل إقامته . وقد قررت النيابة إحالة المتهم إلي المحاكمة ، وحددت يوم 20 مارس الجاري ؛ لنظر محاكمته . ملحوظة : صرحت مصادر مطلعة ، وموثوق بها ، بأن قطعة الشيكولاته ، مصنعة من جسم الهرم الأكبر ، وأن في سرقتها ضرب للسياحة ، والإضرار العمدي بالإقتصاد القومي . وأن الشعب يقف علي أظافر أقدامه ، انتظاراً لنتائج تلك المحاكمة .

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 21 مشاهدة
نشرت فى 13 مارس 2017 بواسطة nsmat

مديحة حسن كاتب وشاعر

nsmat
شعر / خواطر / وطنيات / قصة قصيرة / اخري »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

192,201