إذا رأي المرء ناراً تلتهم البيوت في شارعه ، فلابد أن يثق في أنها ستصل حتماً إلي ملابسه ، إذا لم يسرع في إطفاءها . ولا شك أن قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن الهجرة ، هي إشعال للنار ، في شوارعنا وبيوتنا وملابسنا الداخلية . فهذه القرارات فضلاً عن كونها تتصادم مع القيم التي قامت علي قواعدها الولايات المتحدة الأمريكية ، فإنها تمثل سلوكاً عنصرياً استعلائياً له ما يتبعه من تداعيات ، علي الداخل الأمريكي . كما انها تمثل انتهاكاً صارخاً للأعراف والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان . وأخيراً وضع العالم الإسلامي في حالة مواجهة واستنفار في مواجهة النزعة العدائية لأمريكا والغرب المسيحي ، بما يهدد الأمن والسلم الدوليين .
فكون هذه القرارات تتصادم مع القيم الأمريكية ، فلأن أمريكا ذاتها كأمة ، هي أمة من المهاجرين ، الذين سكنوا هذه البلاد ، علي حساب السكان الأصليين أصحاب الأرض ، وهم الهنود الحمر . وكان لابد لهذه الأمة كي تعيش ، أن تتبني عدم التمييز بين مكوناتها ، علي أساس العرق أو الدين أو الثقافة ، وإلا لما قامت ، وما بزغت للوجود ، ولما أشرقت عليها شمس . واليوم أمة المهاجرين تضيق ذرعاً بالمهاجرين الجدد ، تخوفاً من مزاحمة المهاجرين الجدد للمهاجرين القدامي ، خوفاً من تغيير ـ أو تهديد ـ التركيبة الديموغرافية للبلاد . وفي سبيل تحقيق ذلك ، يمكن التنازل عن القيم ـ الهوية ـ التي قامت عليها الأمة الأمريكية .
وكون هذه القرارات ، سلوكاً عنصرياً استعلائياً ، فلأنها اختصت المسلمين ـ دون بقية خلق الله ـ بآثارها وتداعياتها ، فضلاً عن صدورها في حق دول تم تسميتها ، وهي تنتمي إلي الدول الإسلامية . والمرجعية السند لذلك هي آفة الإرهاب ، الذي يضرب جنبات العالم شرقاً وغرباً ، وقد تصادف في هذه اللحظة التاريخية من تاريخ البشرية ، أن تنسب المسالك الإرهابية ، إلي متطرفين من المسلمين . وقد كانت صناعة الإرهابيين في الأصل ، صناعة غربية ، ثم وجد الإرهاب فرصته للتمدد والتوسع ، مع سياسات أوباما في المنطقة ، والمشروع الأمريكي للشرق الأوسط الجديد " الفوضي الخلاقة " . هذا فضلاً عن أن الإرهاب لا دين له . والأمة الأمريكية ذاتها قد عانت الإرهاب في بدايتها ، علي نحو تحدث عنه الدستور الأمريكي ، فضلاً عن ممارسته علي الهنود الحمر . فلا معني مطلقاً ، لهذه العمومية والشمول ، في التعامل مع المسلمين . إلي حد ذهاب ترامب إلي استثناء المهاجرين السوريين المسيحيين من هذه القرارات .
وللمفارقة فإن المهاجرين المستهدفون بهذه القرارات ، تقف الإدارة الأمريكية ، بفشلها في إدارة الصراعات الدولية ، وراء هجرتهم . فالمخطط الأمريكي / الغربي الإنتقامي من المنطقة أفضي إلي تدمير أفغانستان ، والعراق ، وليبيا ، وسورية ، واليمن ، فأصبح أهل هذه البلدان ، أمام أحد خيارين : إما الهروب من الجحيم والموت بالهجرة ، أو الموت والفناء . وكان لزاماً علي أمريكا والدول الغربية ، تحمل أعباء هؤلاء المهاجرين ، كإلتزام أخلاقي علي الأقل . أما رفض استقبالهم فهو سقوط أخلاقي بلا شك في ذلك .
أما من حيث أن هذه القرارات تمثل انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان ، التي تكفلها القوانين والقرارات والأعراف الدولية ، فهذا أمر بيِّن ، فالقرارات قائمة علي أساس التمييز الديني ، ولا أدل علي ذلك من منح ترامب المسيحيين السوريين من هذا القرار . كما أن المفوضية العليا لشئون اللاجئين ، والمنظمة الدولية للهجرة ، ذهبت إلي دعوة إدارة الرئيس ترامب ، بشأن إعادة التوطين ، باعتبار أن المهاجرين واللاجئين الفارين من الحروب والإضطهاد ، حول العالم ، لم يكونوا في حاجة إلي ذلك ، أكثر مما هم عليه الآن .
وقد كان هناك اعتراض من بعض الدول الغربية علي هذه القرارات ، باعتبارها تمس مواطنيها من مزدوجي الجنسية ، وأظهرت بعضها فزعها من تنامي التيارات اليمينية المتطرفة ، التي تذهب بهذه الدول إلي الإنكفاء علي الذات ، وهو ما يمثل انتكاسة في منظومة القيم البشرية ، التي تدعو إلي التعايش المشترك .
وفي النهاية لا تخلو قرارات ترامب البهلوانية من مخاطر التقافز فوق الحبال ، لأنه قد يقصد من وراء ذلك محاربة الإرهاب ـ لو افترضنا حسن النية ـ ثم ينتهي به الأمر إلي السقوط في فخ العنصرية المتطرفة ، مع صعود اليمين المتطرف في الدول الغربية ، ونجد أتفسنا في مواجهة بين العالم الإسلامي ـ الذي يموج بالعناصر الراديكالية في الوقت الراهن ـ والعالم المسيحي . وينتقل مداد الكتب إلي أرض الواقع صداماً بين الحضارات ، يزرع الأرض جماجم بشرية ، بديلاً عن سنابل القمح ، والورود . فهنا حقاً قد نجد السبيل إلي فناء البشرية .