جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
يبدو أن بعض حاجات الإنسان تتولد بالممارسة ، فقد تولدت بداخلي حاجة ملحة للتوجه إلي المقهي ، بمجرد اشتباكي مع الشاب العشريني ، في حوارات . ويبدو أن هذا الحرص قد تولد بداخله هو أيضاً . وربما كنت أنظر إلي شباب هذه الأيام باعتباره تافهاً فارغاً مستهتراً ، لا يستحق أن يُنظر إليه . وربما كان ينظر إلي باعتباري أنتمي إلي جيل قد مكث في الدنيا أكثر مما ينبغي ، وأن وجودنا يمثل حجر عثرة في سبيل الإنطلاق مع الحياة . ومع ذلك فقد خلق تلاقينا ـ علي الإختلاف فيما بيننا ـ حالة من الوئام ، وأفصح لكلينا عن مدي حاجتنا إلي بعضنا البعض كي تلتئم عري المجتمع . لقد جاء في موعده المضروب ، وسحب كرسياً ، وجلس إلي منضدتي ، فصفقت للنادل ، طالباً له شاياً ، ونرجيله ، من باب المداعبة ، وطلبت لنفسي فنجاناً من القهوة علي "الريحة " . تبسم ضاحكاً ، وهو يقول : " مقبولة " . وما أن رآنا رواد المقهي ، حتي سحبوا كراسيهم من أماكنهم ، وتحلقوا حولنا ، في انتظار بدء المناقشة . قال بحماس دون أن ينتظر الطلبات ، وكأنه في عجلة من أمره : " من أين نبدأ ؟ " . قلت : " من حيث انتهينا ". قال : " لقد انتهينا عند نموذج الدولة الإسرائيلية . وأضرب لك مثلاً آخر تفترق به عنا . إنها تبني المستوطنات المكيفة ، بخدمات لا تنتهي ، حتي أن مواطنها فيها لا يشعر بحاجته لشيء . بينما نحن ننحشر بالملايين في علب من الصفيح ". قلت له بحنق :" المقارنة ظالمة ، لأنك تتحدث عن دويلة تعهد لها العالم ، بأن تكون أقوي من الدول العربية مجتمعة . إقتصادها إقتصاد تسولي يعيش علي فائض الإقتصاديات الأورو / أمريكية . لا يمارس ضدها حظر تكنولوجي ، ولا تصنيعي ، بخلاف التدفقات النقدية التي تنهال عليها من يهود الخارج ، ومن غيرهم من أصحاب المصالح من وجودها في المنطقة . أما نحن فعددنا قارب المائة مليون . نعيش علي شريط الوادي الضيق . نعاني شحاً في الموارد . خضنا أربعة حروب في ثلاثة أرباع القرن الأخير ، وإقتصادنا في حالة تعبئة عامه . فطبيعي أن يحدث هذا فارقا مريعاً بأكثر مما تري ، وهذا بخلاف ما نتعرض له من ضغوط ، وحصار ، من كل حدب وصوب ، ولذا فنحن في رباط إلي يوم القيامة " . قال مندفعاً : " أنا أري أن اسرائيل أفضل في تعاملها مع مواطنيها . أما نحن فينطبق علينا قول رسولنا : إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإن سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد . فنحن لا نهتم إلا بالأغنياء والمشاهير ، أما الفقراء الضعفاء فلن يسمع بهم أحد " . قلت له محتداً : " لا . إن هذا النهج قد تغير . فهناك من يتحرك لضعاف الناس ، ومنهم مجدي مكين ، الفتي المسيحي الذي قتل في قسم شرطة ، فقد قبض علي الضابط ، وهو الآن رهن التحقيق . وهناك بائع الشاي الذي قتل في مدينة نصر ، فقد قبض علي الضابط الذي قتله ، وهو الآن في السجن . وهناك المستشار الذي قبض عليه متلبساً بمخدرات ، وتمت إحالته إلي محكمة الجنايات ، تمهيداً لمحاكمته ، وسلسلة الأمثلة لا تنتهي . وقد امتدت إلي رجال الأعمال ، الذين شابت ذمتهم المالية شوائب . فلا تقل مثل هذا الكلام الذي تسد به الأفق ، وتحاول إشاعة روح اليأس والإحباط " . قال : " ربما تكون تلك الحوادث حالات فردية نادرة يتحدث بها الناس ، ولكننا نريدها أمراً طبيعياً ، وليس وضعاً استثنائياً طارئاً " . قلت بثقة : " لا ، إنه نهج معمول به الآن ، وما فتاة الميناء علينا ببعيد ، فقد قابلها رئيس الجمهورية ، دون خوض في التفاصيل " . قال متراجعاً : " أتمني " . قلت : لا تسد الأفق أمامك ، وتغلق عينيك وأذنيك ، عما يتحقق أمامك ، فلا ينكر نور الشمس إلا من بعينه رمد . لا تنافق النظام ، ولكن أيضاً ، وفي نفس الوقت ، وبذات القدر لا تنافق المجتمع . كما تريد أن تفقأ عين هذا بالحقيقة ، فلابد أن تكون مستعداً لفقأ عين ذاك بالحقيقة . فنحن مجتمع نصفه يعول نصفه في أحسن تقدير . والنصف العائل يعمل لأقل من ربع الوقت المطلوب للعمل ، ونتقاضي أجورنا كاملة " . قال كمن يسدد إلي صدر كلامي رمية قاتلة : " إن هؤلاء الناس إذا سافرواإلي الخارج عملوا ، وأبدعوا ، وحققوا نجاحات ، وكونوا ثروات ، إذن فالعيب في النظام " . قاطعته قائلاً : " لا ، ليس النظام وحده ، والشاهد : نعيب زماننا والعيب فينا ... وما لزماننا عيب سوانا . وهو يفعل ذلك في الخارج ، لأنه لا شفاعة ، ولا شفيع . فيخضع لنظام التشغيل راغماً ، لأن عدم الخضوع للعمل والنظام ، نتيجته معروفة له مسبقاً " . قاطعني قائلاً : " لا . بل لأنه في الخارج يأخذ حقه ، أما في مصر فإنه يعمل ، دون بيئة صالحة للعمل ، ودون أن يأخذ حقه ، أو يجري انصافه " . قلت له :" عن أي عمل تتحدث ونحن لا نعمل حتي ربعالوقت المقرر ، ونتقاضي أجر كل الوقت ، أي أنه بعملية حسابية بسيطة ستكتشف أنك تتقاضي أعلي أجر للدقيقة في العالم ، والمحصلة النهائية خسائر فادحة تتكبدها الدولة ، نتيجة حالة اللاعمل التي نعيشها ، حتي أن الأجانب يتعجبون ، متي نعمل ونحن قد أعيانا السهر ليلا ً ، وشوارعنا تعاني الزحام نهاراً " قال وهو يتأهب للإنصراف : " أنا لا أريد صداماً معك ، ولكن لا يمكن فرش بيت مملوءاً بالغبار " . قلت له مسترخياً : " نحن مجتمع مريض بآفات تسقط امبراطوريات " . وللحديث علي المقهي بقية إن كان في العمر بقية .