نسمات مديحة حسن

شعر / خواطر / قصة قصيرة / وطنيات

كنت قد ختمت مقالي السابق " مصر وصدام الأجيال " بقولي : " وأضاف محدثي :هب ان مصر تشق طريقاً جديداً ، لو أن المثقف والاديب أراد أن يرسم لوحة ، يحدد فيها معالم الطريق ، الذى نسير فيه ، فماذا يكتب ؟ ! . إلي هنا توقفت عن الكتابة ، وعن الإجابة ، وعن الكلام . والتزمت الصمت . ". وقد جاءني تساؤل من أحد الأصدقاء ، في معرض تعليقه علي المقال ، مؤداه : " لماذا لم ترد علي محدثك ، وفضلت الصمت .. أقتنعت بما يقول ، وأدركت أنه محق في كلامه ؟ .. أم أنك رفضت أن تجاريه في أفكاره ؟ .. أم أنك لم تستطع رسم لوحة للواقع ؟ .. ما فهمت ؟ . " . والواقع أن الإجابة هي كل ذلك ، مضافاً إليه ، عدم الرغبة في التزيد ، لأنه طلب مني عرض مشكلة جيله ، والإفلات من الدخول في جدل عقيم ، ومساحة المقال المقيدة . والسؤال في حد ذاته صعب . ماذا تكتب لو أردت أن ترسم لوحة للمستقبل ، تتحدد فيها معالم الطريق ، الذي نسير فيه ؟ ! . وفي محاولة للإجابة عن هذا السؤال دعونا نفترض صحة ما ذهب إليه محدثي ، لأن ما تحدث عنه واقعاً قد تعايشنا معه خطوة بخطوة . فنحن مجتمع نعيش منذ ثورة يوليو 1952م وعيوننا تحت أقدامنا ، تفكيرنا آنياً ، وربما نفكر بأثر رجعي ، باستثناء خطة خمسية يتيمة ، كانت أيام عبد الناصر ، رفعنا فيها رؤوسنا ، ولم تر أعيننا لأبعد من خمس سنوات للأمام ، وتلك هي المرة الأولي والأخيرة التي نظرنا فيها للأمام . ولذلك نجد تصادماً بيناً بين الأجيال الحالية والأجيال السابقة ، وبين الأجيال اللاحقة والأجيال الحالية والسابقة . ويأتي كل جيل ليلعن سابقه ، ويهدم ما أنفذه ، ويبدأ من نقطة الصفر من جديد . ولذا ظللنا علي مدار اكثر من نصف قرن نراوح مكاننا دون أن نبرحه ، أو نعمل عملاً يضيف إلي رصيد المستقبل ، أو ندخر من عمل الحاضر ما يمكن أن نستثمره في المستقبل . وقد ورثنا تركة الإتكالية الثقيلة من إشتراكية / ناصر . فلما ذهبت الإشتراكية وهبت علينا رياح الرأسمالية / الساداتية / المباركية ، تركت لنا إرث الإتكالية العقيم . وآلت الثروات بطرق مشروعة أو غير مشروعة إلي طبقة من رجال الأعمال ، أعادوا آفة سيطرة رأس المال علي الحكم إلي الواقع المصري ، مع تسييد قيم الإنتهازية والفهلوة ، وبقي الإتكاليون في قاع المجتمع يسفون التراب ، ويسيرون أمورهم الحياتية اليومية ، كما اتفق . ومن هنا جاء الإحساس بالظلم والقهر الذي تشعر به الأجيال المتعاقبة من بعضها البعض ، ومن الحكام والساسه وأصحاب الحظوة والسطوة والنفوذ . تلك هي التركة الثقيلة التي ورثها نظام ثورة 30 يونية ، بكل أبعادها وصورها ، من الأنظمة السابقة عليه . ثم يأتيك السؤال عن لوحة تحدد فيها معالم الطريق الآني ، الذي يصل بك إلي مستقبل آمن ، تجاري فيه الأمم المتقدمة الراقية ، دون منغصات حادة ، تقض مضجعك . إنك لا تجلس في شرفة قصرك ، تحتسي فنجاناً من القهوة ، وأنت تجيب علي هذا السؤال . وإنما وجودك مرهون بمكان تحيطه مؤامرات من الخارج ، تترصدك اقتصادياً ، واجتماعياً ، وسياسياً ، وإعلامياً ، وأمنياً . وكذا مؤامرات من الداخل ، من عناصر ومنظمات لها ارتباطات بالخارج المتربص ، ولها ارتباطات ببعضها البعض . فضلاً عن شبكات مصالح فاسدة ، متداخلة إقتصادياً ، واجتماعياً ، ونقابياً ، وإعلامياً ، علي المستويين العام والخاص . هذا فضلاً عن الإنتهازيين الذين يأملون أن تكون لهم في التورتىة قضمة ، أو يهيلوا عليها التراب ، ويمدون أيديهم للطرف المعادي ، يعملون وكلاء عنه ، وبلا أجر . في ظل هذا الجو الكئيب المحبط ، تتسلم دولة جري نهب خيراتها ، واستنزاف مواردها ، وتجميد عقولها ، وخنق مبدعيها ، وتتفيه شبابها ، وتمييع شخصيتهم ، وتسطيح أفكارهم ، وتثويرهم غرائزياً ، هل يتسني لك رسم لوحة أو خارطة طريق ممتدة من تحت أقدامك إلي آفاق ممتدة لبضع سنوات ؟ . هل تستطيع أن تجعل مجتمع هذا حاله ، أن يرفع رأسه إلي أعلي ، وأن ينظر للأمام إلي أقصي مدي ممكن ، متخلصاً من آفة النظر تحت الأقدام ؟ . هناك خلط في أمرٍ ، واتجاهان . أما الخلط فتجري ممارسته علي أوسع نطاق من خلال الإعلام ، والإعلامي الكشكول . ويتمثل في الخلط بين المذاهب الإقتصادية ، حيث هناك من يتحدث عن اجراءات اشتراكية في ظل اقتصاد رأسمالي ، وهناك من يطالب بإجراءات رأسمالية في ظل نظام اشتراكي ، وثالث يطالب بإقتصاد الرقص علي السلم ، وهو النظام الإقتصادي المختلط . وينسي الجميع أن مصر موقعة علي اتفاقية التجارة الحرة " الجات " ولمتزمة بمقرراتها . بما يعني أن النظام الإقتصادي المعتمد رسمياً في مصر هو النظام الرأسمالي . أما الإتجاهان ، فالأول : يطالب ببناء الإنسان قبل الحجر والبنيان ، علي اعتبار أن بناء الإنسان الصالح ، هو الذي سيبني المستقبل ، ويستطيع أن يحافظ علي البنيان . وبالتالي يتعين توجيه الإستثمارات الحالية إلي الإستثمار في الإنسان ، قبل البنيان . والثاني : يطالب بالإستثمار في البنيان قبل الإنسان ، علي اعتبار أن الإستثمار في البنيان هو القاطرة التي ستسحب معها الإنسان والمجتمع . والدولة ـ بنظامها الحالي ـ قررت الإستثمار في البنيان باعتباره قاطرة ستسحب معها المجتمع بالضرورة ، أما الإستثمار الآني في الإنسان فإنه قد يبتلع رأس المال المستثمر ، دون أن يؤتي أكله المرجوة ، فيضيع الإستثمار في الإنسان والبنيان معاً . وبعيداً عما يروجه المرجفون في المدينة ، ممن يحبون أن تعيش فينا الفوضي والعشوائية ، أو نعيش فيهما ، فأنا أتحيز بكليتي إلي توجه الرئيس السيسي ، الذي ينبني علي الدخول في المشروعات العملاقة ، التي هي بمثابة الإستثمار في المستقبل . وسر تحيزي ـ ليس تطبيلاً ولا تزميراً ولا سيراً في الركاب ـ وإنما استلهاماً لسنة الله في الخلق ، فالله عندما خلق الخلق ، هيئ الكون كله قبل خلق آدم ، ثم خلق آدم ، وقد تهيأ لاستقباله الكون كله . قد تكون هناك آلام مبرحة ، وعضات جوع مميتة ، ولكن هذا كله ليس سوي ضريبة نتحملها كجيل ، كما تحمل الذين من قبلنا ، حتي تنهض مصر علي قواعد ثابتة راسخة في الأرض ، متطاولة في كل شيء ، إلي عنان السماء . من خلال التخطيط للمستقبل ، وليس للآن ، لنري أمام أعيننا ، وليس فقط تحت الأقدام . 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 20 مشاهدة
نشرت فى 22 نوفمبر 2016 بواسطة nsmat

مديحة حسن كاتب وشاعر

nsmat
شعر / خواطر / وطنيات / قصة قصيرة / اخري »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

191,899