جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
بعيداً عن التنظير للمواقف أو عليها ، ونأياً عن اللف والدوران ، وانفلاتاً من قبضة ترميد المواقف أو تمييعها نتساءل علي نحو مباشر : هل ثمة أزمة في العلاقات المصرية السعودية ؟ . والإجابة بالقطع : نعم . فالإعتراف بوجود الأزمة أولي الخطوات ـ الضرورية ـ لتفكيك خيوطها وحلها ، ولكنه الإعتراف الهاديء الرزين . وعدم الإعتراف ، يعد دفناً للرؤوس في الرمال ، ومفاقمة لها دون لزوم أو داع . كما أن الإعتراف الزاعق بها ، يفضي إلي تضخيمها ، وتكويرها ، ودفعها ملتهبة ، في حصاد الهشيم . وفي إطار البحث الهاديء نتساءل : هل بدأت الأزمة بين البلدين بتصويت مصر لصالح القرار الروسي فيما يتعلق بالمسألة السورية ؟ . الظاهر علي السطح : نعم . إلا أنه بإنعام النظر ـ ودون مواربة ـ نجد أن الأزمة قد بدأت قبل هذه الواقعة بكثير . ولو رجعنا قليلاً إلي الخلف ، سنجد أن الخلاف المصري السعودي ، يعود إلي ما قبل نشأت الدولة السعودية . إلي أيام محمد علي ، عندما أرسل نجله إبراهيم إلي شبه الجزيرة العربية ، لإخماد الحركة الوهابية . والمذهب الوهابي ـ إن صح اعتباره مذهباً ـ هو المذهب الرسمي للدولة السعودية بعد نشأتها . وهو إرث تاريخي يحمل الكثير من الإحن . ثم جاء الخلاف أيام عبد الناصر ، باعتباره ثائراً علي نظام ملكي، والخشية من امتداد المد الثوري إلي الأنظمة الملكية القائمة في حينه ، لأن اللغة الثورية السائدة في ذلك الوقت ، كان يُفهم منها تصدير الثورة إلي خارج القطر المصري . وقد كانت هناك حرب باردة عربية / عربية في ذلك التاريخ . وقد جاءت المواجهة بين مصر والسعودية علي الأراضي اليمنية ، حيث دعمت مصر الثوار ، ودعمت السعودية النظام الإمامي . إذن فتاريخ الأزمات في العلاقات بين البلدين قائم ، وليس جديداً . والأزمة الأخيرة بين البلدين كانت من الأزمات المسكوت عنها . سمها خلاف ، أو اختلاف ، أو تباين في وجهات النظر. وقد بدأ هذا التباين منذ اندلاع ما يسمي بالثورة السورية . حيث كان النظام المصري قد سقط ، وحل محله المجلس العسكري . وقد كان موقف مصر في ظل المجلس العسكري واضحاً وصريحاً ، من المسألة السورية ، ويتلخص في الدعوة إلي حل سياسي ، يحافظ علي تطلعات الشعب السوري ، مع الرفض المطلق لأي عمل عسكري خارجي ، ذلك من حيث المبدأ . وفي ذات الخط المستقيم قبلت القاهرة دعوة الأمانة العامة للجامعة العربية للنظام السوري ببدء الإصلاحات السياسية ، وإيقاف القتل للحيلولة دون تدويل الأزمة . وقبلت القاهرة المبادرة العربية الأولى التي دعت إلى سحب الجيش من المدن ووقف العنف وإجراء حوار مع المعارضة . واتساقاً مع ذات الموقف الثابت اعترضت القاهرة علي تعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية، وسحب السفراء العرب من دمشق ، باعتبار أن ذلك يسد الأفق السياسي اللازم لحلحة الأزمة . ثم عادت القاهرة وقبلت تشكيل حكومة وحدة وطنية، وتفويض الرئيس بشار الأسد صلاحياته الكاملة لنائبه فاروق الشرع . تلك كانت حسابات مصر في المسألة السورية إبان فترة حكم المجلس العسكري ، أن تحل الأزمة السورية في الإطار السياسي بعيداً عن الخيارات العسكرية . ثم جاء حكم الإخوان ليقلب موازين الخيارات الإستراتيجية لمصر، التي تستهدف الحفاظ علي الكيان السوري دون تفتيت ، لأنه يمثل الجبهة الشمالية في مواجهة الكيان التوسعي الصهيوني الرابض متنمراً بين البلدين . فحملوا النظام السوري مسئولية تحويل انحراف الثورة عن مسارها السلمي إلي مسار العنف المسلح . وأصبح مطلب القاهرة إسقاط النظام الشمولي ، لمصلحة النظام الديمقراطي . وقرر مجلس الشعب الإخواني تجميد العلاقات مع مجلس الشعب السوري ، واجتمعت لجنة العلاقات العربية فيه بممثلي فصائل المعارضة السورية . وجري استدعاء السفير المصري في سوريا . وكانت كل خطوة يخطوها النظام الإخواني ، بعيداً عن النظام السوري ، يرافقها أو يتبعها خطوات في اتجاه دعم المعارضة . وقد بلغ الأمر بمرسي حداً رفع فيه مستوي الخطاب السياسي إلي وصف النظام السوري بالدكتاتوري ، واعتبار إسقاطه واجباً أخلاقياً قبل أن يكون سياسياً . وقام الإخوان بسحب القائم بالأعمال ، وإغلاق السفارة ، ومطالبة مجلس الأمن بفرض منطقة حظر جوي علي سوريا . وبذلك تكون القاهرة ـ في عهد الإخوان ـ قد وضعت نفسها علي ذات الخط الأمريكي / السعودي / القطري / التركي في الموقف من المسألة السورية . وبعد ثورة 30 يونيه ، عادت مصر إلي خيارها الأصلي ، وهو الحل السياسي ، الذي يحافظ علي تطلعات الشعب السوري ، مع الرفض المطلق لأي عمل عسكري خارجي . ولم يحل ذلك دون تضامن كامل من دول الخليج ، وعلي رأسها السعودية ، ودعم كامل لثورة يونية مادياً ومالياً وسياسياً . وهو دعم يشكر ولا يكفر ولا ينكر . وهذا الدعم لم ينف وجود تقاطعات بين الموقفين ، المصري والسعودي ، بشأن سوريا . فمصر لا تري جدوي من الحل العسكري ، وإنما السبيل هو الحل السياسي ، علي أن يكون الأسد ـ واقعياً ـ جزءاً من الحل لفترة انتقالية ، وترك الحرية للشعب السوري في اختيار نظامه ، وذلك حقناً للدماء ، وحفاظاً علي وحدة الأراضي السورية ، ودرء مفسدة التقسيم الواردة حتماً ، حال تمكين فصائل المعارضة ـ المعتدل منها والراديكالي ـ من الإطاحة المسلحة بالنظام . أما الموقف السعودي فيري أن الأسد جزءاً من المشكلة ، والإطاحة بنظامه جزءاً من الحل . ولا يتأتي ذلك إلا من خلال الخيار العسكري ، ودعم فصائل المعارضة ، المعتدل منها والراديكالي ، لتمكينها من إنهاء وجوده . وانسياقاً وراء التوجهين ، وجدنا نقاط تماس بين الموقف المصري / الروسي / الإيراني في جانب ، والموقف السعودي / الأمريكي / القطري / التركي في جانب آخر . وليس خافياً علي أحد أن قطر وتركيا من الدول المناوئة للقاهرة لمصلحة جماعة الإخوان ، وأن من ضمن فصائل المعارضة السورية ، داعش والإخوان وغيرهما ، وهي فصائل تمارس الإرهاب ضد الدولة المصرية . فكيف تدعم مصر فصائل تحاربها علي أرضها ، بالتنسيق مع دول مناوئة لها ؟ . أما موقف مصر من المسألة السورية فهو ليس موقفاً تكتيكياً ينقضي بتحقيق مصالح محدودة مؤقتة ، وإنما موقفاً استراتيجيا يرتبط بجوانب جيوسياسية خاصة بأمن المنطقة ، ووقايته من مخطط التقسيم . وعلي ضوء قناعة القاهرة بسلامة موقفها ورؤيتها الإستراتيجية صوتت في مجلس الأمن لصالح مشروع القرار الروسي ، الذي كان يعد تعديلاً لمشروع القرار الفرنسي . وترتب علي ذلك ما ترتب من ردود أفعال من قبل الدولة السعودية . ويبقي التساؤل المهم : هل دعمت السعودية ، ودول الخليج ، ثورة يونية ، باعتبارها إنقاذا لمصر من الوقوع فريسة سائغة لمخطط التقسيم ، وسقوطها يمثل خطراً داهماً علي بقية الدول العربية ؟ . أم أن الدعم جاء علي سبيل التفضل والمنة ، وهذه الدول تملك رفاهية رفع يدها عن الدعم ، دون أن يصيبها ذلك بشر وبيل ؟ . وهل جاء هذا الدعم عربوناً لشراء الإرادة السياسية المصرية ، حتي تكون تابعاً لدول إقليمية ، وتدور في فلكها وجوداً وعدماً ، وتصبح إرادتها مرهونة بإرادة هذه الدول ؟ . وهل تقبل مصر بحجمها الجيوسياسي بهذا الدور ؟ . بعيداً عن الشتائم والمعايرة والتقزيم والتتفيه والحط من القيمة التي مورست تجاه مصر بشكل مفرط من جانب العرب . وبعيداً عن حالة الإنبطاح التي يمارسها البعض وتمثل تفريطاً في الإرادة المصرية . نري أن الأمر يتطلب تدخلاً دبلوماسياً من الجانبين ؛ لاحتواء الأزمة علي نحو عاجل ؛ لتفويت الفرصة علي كل من يعكرون المياه ، وكل من يصطادون فيه ، من قوي إقليمية ودولية ، تسعي جاهدة لإعادة صيانة المخطط بعد أن أفسدته مصر .